March 2010 No (23)

مجلة الكترونية شهرية تصدر عن مركز العمل التنموي / معا
اذار 2010 العدد (23)
 

سياحة بيئية واثرية

 

                           مدينة عكا    

إبراهيم سلامة خوري

تأسست عكا في العهد الكنعاني قبل حوالي أربعة ألاف سنة بحيث تطورت كما نشاهدها في أيامنا  إلى ميناء على
الطرف الشمالي لخليج حيفا من البحر المتوسط، إلا أنه من المعتقد أن السبب الذي اجتذب المستوطنين الأولين لتأسيس عكا لم يكن البحر، وإنما النهر المدعو"النعامين" والمعروف باسمه القديم بيلوس (Belos) ذي المياه العذبة ولا يبعد كثيرا عن مدينة عكا الحالية، فكانت القوارب الصغيرة تلجأ إلى مداخله لترسو فيها. وهنالك أسطورة رومانية تقول إن الفينيقيين صنعوا من الرمل المتواجد على ضفتي هذا النهر لأول مرة في التاريخ الزجاج، واكتشفوا من بعض الأصداف المتواجدة في تلك الشواطئ صبغة اللون الأرجواني.
جاء ذكر مدينة عكا لأول مرة في الكتابات المصرية التي تعود إلى القرن التاسع عشر ق.م. وكذلك ذكرت في رسائل تل العمارنة باسم"عكا" كما يدعوها العرب اليوم.
خضعت عكا للأشوريين وبعدهم الكلدانيين ثم الفرس، وفي السنة 332 ق.م. دخلت في حوزة الإسكندر المقدوني وقد عرفت في عهد الحكم اليوناني باسم بطلمايوس- نسبة إلى الملك بطليموس سوتر. وقد ذكرها مؤرخو الرومان كمستعمرة خاصة للإمبراطور كلوديوس الذي شملها بعنايته وسمح لها بنقش صورته على نقودها، وازدهرت في عصره حتى أصبحت من أهم موانئ الإمبراطورية الرومانية.

عندما رجع القديس بولس من رحلته الرسولية الثالثة زار المسيحيين المتواجدين في عكا، وبات هنالك ليلة واحدة(أعمال 21-7)، حيث أصبح يسكنها جالية مسيحية؛ وفي أوائل القرن الثاني الميلادي نجد بعكا أساقفة وكهنة.
وفي العهد البيزنطي ازدهرت بالمسيحيين إلى أن قضى عليهم الفرس سنة 614م. فتحها العرب سنة 636م. وتداولتها أيدي الأمويين ثم العباسيين وبقيت معهم إلى سنة 877 ، حيث انتزعتها منهم أحمد بن طولون الذي ساهم ببناء السور والقلعة والميناء وجعلها مدينة. وفي سنة 905 عادت عكا إلى العباسيين إلى أن انتزعها منهم في سنة 935 الإخشيديون وبقيت معهم إلى سنة 969،  حين دخلت تحت الفاطميين حكام مصر حينذاك.
وبقيت تابعة لهم إلى سنة 1073 عندما استولى عليها الأتراك الخوارزميون إلى أن استردها الفاطميون سنة 1087 ؛ وفي سنة 1104 احتلها الصليبيون يدعمهم أسطول جنوة الايطالي حتى سنة 1187 حيث حرر عكا صلاح الدين الأيوبي.  وبعد حصار دام سنتين سقطت ثانية بيد الصليبيين سنة 1191 فجعلوها عاصمة المملكة الصليبية بدلا من مدينة القدس التي لم يتمكنوا من استعادتها. ومنذ ذلك الوقت أصبحت عكا الميناء الأول لنزول الصليبيين وأضحى ميناؤها طوال العام غاصا بسفن جنوة والبندقية وبيزا؛  وأصبحت عكا ملتقى تجار النصارى والمسلمين من جميع الآفاق. وفي سنة 1291 هاجم عكا خليل الأشرف بن قلاوون، وهو السلطان الثامن لمماليك مصر، فاخذ المدينة بعد قتال مرير وقتل جميع رجال الصليبيين وسبى نساءهم وباع أطفالهم عبيدا، ودمر عكا تدميرا كاملا خوفا من عودة الصليبيين إليها والتحصّن بأسوارها؛ وأضحت المدينة كومة من الركام أكثر من 450 عاما. ومن الملاحظ أن الاسم الذي أعطاه الصليبيون لمدينة عكا قد أخذوه عن اسم بلدة أكرون، ظنا منهم أنها هي عكا فعرفت لديهم وليومنا هذا عند الغربيين باسم Acre .
احتل الأتراك العثمانيون البلاد سنة 1517 وأصبحت عكا القرية المهجورة إلا من بعض صيادي الأسماك الفقراء.  وأضحت في حوزة الأتراك تابعة لوالي صيدا إلى أن قام الشيخ ظاهر العمر الزيداني حاكم طبريا سنة 1750 بأخذها من الوالي عنوة، وأسرع ببناء سور حول المدينة وشيد الأبراج والحصون؛ ولم يمض ربع قرن حتى أصبحت عروس الشرق، فحسدتها اسطنبول وقذفت عكا بمدافع الأسطول التركي العظيم؛ مما جعل أبناء ظاهر العمر الزيداني يخذلون والدهم ويسلموا المدينة للقبطان التركي؛ مما حدا الوالد الشيخ وعمره ناف على الثمانين عاما بمغادرة المدينة على أمل العودة إليها إلا أنه ما كاد يخرج حتى حز رأسه أحد أتباعه سنة 1775. 


ولت الدولة التركية أحمد باشا الجزار على مدينة عكا، قيل إنه من أصل ألباني.  دعي بلقب الجزار لكثرة مظالمه وجرائمه بحق الناس، وكانت مفاسده وشروره إحدى  الحجج التي تذرعت بها فرنسا لمحاولة احتلال هذه البلاد بقائدها الشهير نابليون الأول (بونابرت)؛ ففي 19 آذار سنة 1799 حاصرها نابليون، وكانت فرقه من جيشه تتمركز على تل الفخار بالقرب من سور عكا الشرقي وعلى مسافة كيلو متر ونصف من المدينة؛ فدعي بتل نابليون إلى يومنا هذا وكان أيام الحروب الصليبية يعرف بتل تيرون وهو مجموعة من أنقاض وبه مدافن قديمة، ويظن البعض أنه موقع عكا قبل امتدادها إلى ساحل البحر.
عجز نابليون عن احتلال مدينة عكا لسببين: الأول أسوارها المنيعة، والثاني الأسطول الإنكليزي الذي ساعد الجزار من البحر؛ فقفل راجعا إلى مصر تاركا الجزار بعد حصار دام 62 يوما. وبعد مرور خمسة أعوام توفي الجزار وكان قد أتم بناء الجامع المعروف باسمه "جامع الجزار" سنة 1782 وأتم بناء المزولة الواقعة شمال الجامع؛  ودفن في الساحة الغربية من الجامع المذكور وأقيم على قبره مبنى دفن فيه أيضا خليفته سليمان باشا سنة 1819 الذي كان يطلق عليه اسم العادل نظرا لاستقامته وعدله، وجدد القناطر التي تحمل قناة الماء للمدينة من كابري، وكان قد بناها الجزار طولها عشرة كيلومترات. وأتى بعده عبد الله باشا الذي حكم ما بين 1819-1831 وقد فاق ظلمه ما قام به الجزار باشا. وحج إلى الديار الحجازية ومات هناك. وفي 27 تشرين الثاني سنة 1831 أرسل محمد علي باشا ولده إبراهيم باشا ووقف مقابل أسوارها المنيعة بثلاثين ألف جندي و 22 سفينة في البحر، وبعد حصار دام ستة أشهر سقطت في 27 أيار سنة 1832 وما حولها من البلاد في يد إبراهيم باشا، ولكنه بعد عشرة أعوام انسحب إلى مصر التي أبقيت له فقط عندما تحالفت دول أوروبا والدولة العثمانية ضده؛ وعادت عكا إلى تركيا تحكمها مباشرة حتى سنة 1918 عندما احتلت بريطانيا المدينة ووضعتها تحت انتدابها إلى يوم 15 أيار سنة 1948 فسقطت بيد القوات الصهيونية وأصبحت ضمن دولة إسرائيل.
عكا القديمة من حيث كونها ضمن الأسوار تعتبر جزيرة صغيرة محصنة بسور واحد من ناحية البحر يبلغ ارتفاعه 14 مترا، يطوق هذا السور الناحية الغربية والجنوبية وجزءا من الناحية الشرقية، أما من ناحية البر فيقوم السور الأول الذي يكمل تطويق عكا ويتصل بسور البحر الآنف الذكر ويبلغ ارتفاعه 20 مترا. ثم يأتي السور الثاني الكائن خلفه؛ وحيث إن مابين السورين غطي بالتراب والحجارة فقد أصبحا وكأنهما سور واحد عرضه خمسون مترا . وأقيم حول السور الثاني أي الخلفي خندق عرضه خمسون مترا بعمق عشرين مترا. وأعد من ناحية البحر في الزاوية الغربية الشمالية حاجز؛ إذ ما يشعر المحاصرون خطر مهاجمة الأعداء للمدينة حتى يرفعوا الحاجز فتتدفق مياه البحر إلى الخندق، فتصبح المدينة جزيرة يسهل الدفاع عنها من الداخل.
احتفظت عكا بطابعها العربي أكثر من أية مدينة أخرى في البلاد، كانت على زمن الصليبيين مقسمة بين أربع منظمات مستقلة معنويا واقتصاديا أكبرها فرقة الاسبتارية. وفي أيامنا أطلقت سلطات عكا أسماء بعض المدن البحرية الأوروبية على ساحاتها دعيت-بيزا-فينيسيا- جينوه- أمالفي – كما أنه أضيف أيضا اسم ماركو بولو.


تضم عكا حوالي 50 ألفا من السكان ثلثاهم من اليهود والباقي من العرب الذين يسكن معظمهم داخل البلدة القديمة. في بداية القرن العشرين بعد أن تم اختراع السفن الكبيرة التي تسير بواسطة البخار، وحيث إن هذه السفن بحاجة إلى مياه عميقة، الأمر الذي لا يتوافر في مياه ميناء عكا، فقد انتقل النشاط التجاري إلى ميناء حيفا العميق؛ مما انعكس سلبا على المدينة.
في بداية الاحتلال البريطاني، فتح لمدينة عكا طريقان من خلال السور لتسهيل عبور السيارات، يقع الأول على الزاوية الشمالية الغربية بجانب البحر والثاني يقع على مسافة نحو نصف كيلو متر إلى الشرق من الأول.  فإذا وصلنا بالسيارة ‘لى جامع الجزار بواسطة ما يسمى شارع "وايزمن" يمكننا زيارة المسجد الذي أقامه الجزار سنة 1782 فوق أنقاض الكاتدرائية الصليبية. وقد جلب الأعمدة التي تزين الساحة الجميلة فيه من بقايا الآثار في قيسارية فلسطين، وبعد الخروج من المسجد نجد المدخل الذي يؤدي إلى قاعة الفرسان الصليبيين، وهناك عدد من القاعات الأرضية التي أضيفت إليها البنايات زمن الحكام الذين تولوا مدينة عكا، وأهم هذه البنايات تعود إلى الجزار وتعرف بالقلعة وقد حول الأتراك المكان معتقلا، ومن بعدهم البريطانيون سجنوا فيه الكثيرين من الشعب، وفي داخله نفذت أحكام الإعدام بالثوار العرب. ومتى خرجنا من القاعات المذكورة آنفا نصل إلى حمام الباشا وهو الآن متحف، وأصله حمام تركي، يحوي مجموعة من الآثار جمعت من منطقة عكا بينها أدوات إسلامية فنية وبعض الأزياء التراثية والأسلحة القديمة بعضها يعود للفترة الصليبية، وكي لا يضيع الزائر حري به العودة إلى السوق، ومن هناك يهتدي إلى خان الفرنج وكذلك إلى خان الأعمدة؛ وقد شيد الأخير من طابقين: الأسفل مأوى للحيوانات، والأعلى غرف لسكنى التجار والزوار أضيف إليه برج الساعة على زمن السلطان عبد الحميد، ثم نأتي إلى ساحة مدينة بيزا؛ ومن هناك يمكن التوجه بمحاذاة سور البحر أو الصعود إلى سطح السور لمشاهدة الخليج الممتد ما بين عكا وحيفا. المنظر ممتع جدا؛ ومن هنا نصل برج المنارة التي كانت تدعى يوما منارة الذباب على الشاطئ الغربي.
عن:  الدليل السياحي لأهم الأماكن الدينية والأثرية في الأرض المقدسة

 

التعليقات
الأسم
البريد الألكتروني
التعليق
 
 
 

 

 

 

مجلة افاق البيئة و التنمية
 
في هذا العدد


احترام المراحل والقواعد

الوقود الحيوي: هل بإمكان المزارعين الحلول مكان أمراء النفط في دول الخليج؟

تطبيع إسرائيلي – إماراتي تحت غطاء الطاقة المتجددة

إحراجات متتالية في أوساط لجنة (IPCC) التابعة للأمم المتحدة بسبب غياب الدليل العلمي لادعائها بأن ارتفاع حرارة الأرض هو سبب تعاظم الأعاصير والفيضانات

بروتوكول كيوتو يواجه الانهيار مع تضاؤل فرص التوصل لاتفاق جديد للمناخ

عماد سعد السوري الأول الذي يفوز بجائزة داعية البيئة

إيران تتحدث عن تطوير طائرة تعمل بالطاقة الشمسية

نفايات نووية مشعة فرنسية في الهواء الطلق بصحراء الجزائر

نحو سن قانون يفرض تدوير نفايات التغليف

فلنتعلم من الخبرات الناجحة للدول التي تعالج مخلفات القناني بأنواعها 

نحو التحول إلى استعمال الأكياس الصديقة للبيئة

لماذا لا يزال التوجه العربي نحو البناء الأخضر ضعيفا جدا وهامشيا؟

الأسمدة العضوية والزراعة المتداخلة أساس الزراعة البيئية

النباتات كعامل مطهر للهواء

إدوارد سعيد والإيكولوجيا السياسية

أدوات وأواني المطبخ الفلسطيني (2)

زهرة من أرض بلادي القيقب

الري المتوازن والسيطرة على أمراض النباتات

نشاط لا منهجي حول مزارع قرر التحول من الزراعة الكيماوية إلى الزراعة العضوية

سلوكيات بيئية خاطئة تتوارث 

مدينة عكا 

قاموس التنمية.. دليل إلى المعرفة باعتبارها قوة

محمد عبيدية: زراعات خضراء وعداء للمبيدات والأسمدة الكيماوية

 

 
دعوة للمساهمة في مجلة آفاق البيئة والتنمية

يتوجه مركز العمل التنموي / معاً إلى جميع المهتمين بقضايا البيئة والتنمية، أفرادا ومؤسسات، أطفالا وأندية بيئية، للمساهمة في الكتابة لهذه المجلة، حول ملف العدد القادم (التسوق الصديق للبيئة...) أو في الزوايا الثابتة (منبر البيئة والتنمية، أخبار البيئة والتنمية، أريد حلا، الراصد البيئي، أصدقاء البيئة، إصدارات بيئية – تنموية، قراءة في كتاب، مبادرات بيئية، تراثيات بيئية، سياحة بيئية وأثرية، البيئة والتنمية في صور، ورسائل القراء).  ترسل المواد إلى العنوان المذكور أسفل هذه الصفحة.  الحد الزمني الأقصى لإرسال المادة 22 آذار 2010.
 

  نلفت انتباه قرائنا الأعزاء إلى أنه بإمكان أي كان إعادة نشر أي نص ورد في هذه المجلة، أو الاستشهاد بأي جزء من المجلة أو نسخه أو إرساله لآخرين، شريطة الالتزام بذكر المصدر .

 

توصيــة
هذا الموقع صديق للبيئة ويشجع تقليص إنتاج النفايات، لذا يرجى التفكير قبل طباعة أي من مواد هذه المجلة