احترام المراحل والقواعد
حبيب معلوف / لبنان
تتزايد الشكوى يوما بعد يـوم من قلة الأمان في أنظمتنا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والغذائـية. ولا تزال الأسئلة تطرح هي نفسها، منذ أن بدأت هذه المشاكل بالظهور والتفاقم: ماذا نفعل؟ كيف نتفاعل؟ كيف نتكيف؟ ماذا نستهلك؟ ماذا نأكل؟ كيف نعيش وكيف يمكن أن ننقذ أنفسنا...؟
ولعل طبيعة الأسئلة، تؤكد عدم القدرة على اختزال الحلول في جواب واحد، لكون هذه الأسئلة تشمل كل جوانب الحياة تقريبا... لا بل تطال ما يسمى "الحضارة الإنسانية" برمتها. وهي تحتاج أيضا لمقاربتها، الاستعانة بكل معارف وعلوم الأرض، وليس لعلم واحد مخصوص في حقل من حقولها. هي تحتاج إلى البحث في عمق التجربة البشرية، تاريخيا وأنثروبولوجيا . فالبشرية في تاريخها، هي شبيهة تقريبا بتجربة أي فرد، بتاريخ أي فرد من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشيخوخة. فلكي نفهم جذور أزماتنا اليوم، علينا أن نفهم تاريخيتها. ولكي نستطيع أن نفهم تلك النزعة الاستهلاكية القاتلة اليوم، علينا أن نفهم ربما طفولتنا.
يعيش الكائن الحديث في حالة انفصام بين عالمه الداخلي والعالم الخارجي. بين طبيعته الطبيعية وتلك المصنوعة. في مرحلة الطفولة، يكون الطفل أقرب إلى الطبيعة، ولا يشعر بأنه متمايز عنها. يبدأ شعوره بأن كل شيء متصل. من حبل السرة إلى الهواء الخارجي الذي يلامس جسده إلى شعوره بالسرور بمجرد مشاهدة أو ملامسة جسد أمه. ويمكن أن يكون جسم أمه والأجسام الأخرى الطبيعية، كل واحد بالنسبة إليه. وكلما كبر الطفل بدأ يشعر بالتمايز عن غيره من الكائنات والرغبة في الانفصال والاستقلال. ولعل مرحلة إثبات الذات، وتشكل "الأنا"، هي مرحلة التمرد والانفصال، مرحلة "المراهقة"... هي المرحلة الأشد حرجا والتي يمكن أن تكون مدمرة. وربما هذه هي المرحلة التي وقفت عندها البشرية، بأكثريتها الساحقة على الأقل، ولم تستطع أن تتجاوزها للوصول إلى مرحلة النضج والهدوء ... مرحلة إعادة التفكير والتأمل، استعدادا للوصول إلى أفكار أكثر وجودية وشمولية... وأكثر عمقا.
يتحدث البعض عن "الذات الإيكولوجية" عندما يفسرون ظاهرة ابتهاج جسد الطفل وحواسه بالماء الدافئ للحمام، وابتهاجه بفرو القط والعشب الأخضر الطري... ولكن هذا قد يؤشر إلى مرحلة تكون الجنين المحاط بالماء وإلى مرحلة ملامسة جسد الأم الطري. بالإضافة إلى ذلك ليس كل ما في الطبيعة ناعما وملسا. ولذلك قد يحلم الطفل بالحيوانات الكبيرة وشبه الخيالية... مما يعني أن بيئة الطفل، تتخطى تلك العائلية لتتصل بقوى الطبيعة المكونة والمحيطة أكثر فأكثر. وهناك حاجة لإعادة دراسة تلك المرحلة الانفصالية التي مر بها الطفل والتي تطلبت التصرف بعدوانية ما مع الأهل ومع قوى الطبيعة بنفس الوقت تقريبا... لكي نستطيع أن نفهم اليوم تلك النزعة الاستهلاكية التدميرية غير المفهومة.
استفاد اقتصاد السوق من تلك النزعات الطفولية للعب والعبث وحب التملك، وحاول أن يعززها ويستغلها بدل أن يعالجها. عزز اقتصاد السوق حالة النهم وحاول أن يطيل أمدها قدر الإمكان، وإيهام المستهلك بأن الاستهلاك يؤمن الإشباع وبأن "الإنسان يستطيع أن يأكل أكثر من شبعته"... ولكنه في الوقت نفسه جعل من الإشباع حالة غير مستقرة، يمكن تحويلها وإعادة إنتاجها مع الترويج لسلع جديدة ومتجددة دائما . يمكن لمراجع تاريخ البشرية من منظور بسيكولوجي، أن يلاحظ أن البشرية لا تزال في مرحلة طفولتها. فهي نهمة وتريد كل شيء لذاتها، تعبث بأي شيء، تحرد وتعاند وترفض الحوار وتصر على تحقيق رغباتها مهما كان الثمن، أو من دون التفكير بالثمن، مما يتسبب بانعكاسات جانبية وأزمات.
يحمل بعض البيئيين، المتعمقين في دراسة ظواهر الاستهلاك الحديثة المدمرة، العلم مسؤولية الأزمات المعاصرة. إلا أن البعض الآخر، لا يجد مخرجا من المشكلة إلا عن طريق العلم أيضا. ولكن السؤال عن أي نوع من العلوم والعلماء نتحدث؟ وهل لا يزال هناك من علماء ومراكز أبحاث خارج السوق القائم أساسا على زيادة الإنتاجية والاستهلاك وعلى المنافسة والسباق؟ وخارج تلك النظرة النفعية والعملية للعلم؟ لعل ذلك يحتاج إلى فلسفات جديدة، أو إعادة الاعتبار إلى فلسفة العلم، إلى فلسفة تعيد ترتيب وتصنيف الأفكار والمراحل، فتفصل بين مرحلة الطفولة وتلك المتعلقة بنضوج البشرية. والتوقف عن وهم الادعاء القدرة على تطويل فترة الطفولة والتلاعب بها، وذلك باعتبار أن مرحلة النضج، هي مرحلة بداية النهاية. واعتبار أن مرحلة النضج هي مرحلة، مثل الطفولة تماما، ومصيرها أن تنتهي لكي يستمر نظام الحياة حيا. ولعل أقصى ما يمكن أن يجتهد فيه الفكر الفلسفي، أن يساعد على إنهاء تلك المرحلة بهدوء.
والهدوء لا يعني وقف السباق، بل القبول بقواعده. فإذا كان على الأسد أن يسرع أكثر من أبطأ غزال لكي يستطيع أن يفترسه ليعيش، على الغزال أن يسرع أكثر من أسرع أسد لكي ينقذ نفسه. وهكذا لا يستطيع الأسد أن يلتهم إلا ما ضعف أو عجز من الغزلان، ويبدأ هو نفسه بالاستعداد للموت، عندما يعجز عن اللحاق بأي منها أيضا .
فهل حان الوقت لكي نقبل ونهدأ في مرحلة شيخوختنا؟ أم إننا ما زلنا نتوهم أننا نستطيع أن نمدد مرحلة طفولتنا إلى ما لا نهاية وكأننا كائنات قابلة للخلود!؟