المستقبل النانوي
قراءة: محمود الفطافطة
تأليف: جون هول
ترجمة: صباح الدملوجي
منشورات: المنظمة العربية للترجمة: بيروت
الطبعة الأولى: 2009
عدد الصفحات: 480 صفحة من القطع المتوسط
يصحبنا جون ستورس هول الذي يعتبر أحد أبرز المفكرين في موضوع التكنولوجيا النانوية الجزيئية في رحلة علمية وعميقة، يطلعنا عبرها على تاريخ وواقع ومستقبل هذه التكنولوجيا المعقدة في مركباتها والشائقة عندما نصل إلى معرفة حقيقتها.
هذا الكتاب الذي يعتبر مرجعاً أساسياً لكل من يريد الاطلاع أو البحث في ميدان هذه التكنولوجيا الحديثة نسبياً يؤكد مؤلفه أن التكنولوجيا النانوية مع شقيقتها الحيوية تملك إمكانيات واسعة جداً تصل إلى حد تحوير الكائن البشري ذاته، وأن هذه التكنولوجيا النانوية تعدنا بسيارات جوية وسفر فضائي للجميع، كما تعد بالقضاء على الفقر والجوع وبتوفير أدوات وتقنيات علاجية ودوائية جديدة؛ مما سيطيل أمد عمر الإنسان إلى بضع مئات من السنين. ويصف مؤلف الكتاب هذه التكنولوجيا بطريقة سهلة المنال تمكّن كل متخصص أو مطلع من فهمها وفهم إمكانياتها والمحددات التي تكتنفها .
مفهوم ونشأة
يشير المؤلف هول إلى أنه رغم عدم وجود اتفاق على ماهية التكنولوجيا النانوية، ولا توافق ـ ولو ضئيلاً ـ على ما يمكن فعله، إلا أن قاموس AOL على الإنترنت يعرفها بأنها: "فن التلاعب بالمواد على المستوى الذري، أو الجزيئي بخاصةٍ، لبناء أدوات (أو روبوتات) مجهرية". علماً ( والكلام للمؤلف) أن قاموس ويبسترز الشهير لا يعرف التكنولوجيا النانوية.
ويوضح: "تمتلك التكنولوجيا النانوية معنيين مختلفين: أولهما المعنى الواسع الذي يشمل أي تكنولوجيا تتعامل مع شيء يقل قياسه عن مئة نانو متر. والآخر هو المعنى الأصلي، أي تصميم وبناء ماكنات تكون فيها كل ذرة كيميائية محددة بدقة". ويبين المؤلف أن التكنولوجيا النانوية غير موجودة مادياً اليوم، لكن بالإمكان تحليلها ونمذجتها ومحاكاتها بطريقة مباشرة، اعتماداً على علوم وهندسة تقليدية جداً ومفهومة بصورة جيدة.
والنظر في تاريخ كلمة التكنولوجيا النانوية ذاتها (حسب الباحث) قد يكون ذا فائدة، فقد بدأت التكنولوجيا الحيوية تبرز كإمكانية جدية في السبعينيات من القرن المنصرم، وذلك مع إدخال "الدنا" المعاد تشكيله . ويبين هول أن "إيريك دريكسلر" (من أوائل المهتمين بهذه التكنولوجيا) وهو طالب في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا أبدى إهتماماً بعدم اختلاف كثير مما كان يحدث داخل الخلية في جوهره عما كان المهندسون يقومون به على المقياس الكبير.
دوّن دريكسلر هذه الافكار في ورقة علمية ونشرها في عام 1981، وفي عام 1987 نشر كتاب حول التكنولوجيا النانوية. ولكن المهندس الياباني نوريو تانيغوشي كان أول من أدرج تعبير " التكنولوجيا النانوية"، وذلك في محاضرة في مؤتمر علمي عقد في طوكيو عام 1974 . إن تعريفه لهذه التكنولوجيا ما زال جيداً (وفق هول) وهو : أن النانو ـ تكنولوجيا بشكل رئيسي تتألف من معالجة وفصل ودمج وتعديل أشكال المواد بواسطة ذرة واحدة أو جزيئة واحدة ".
ويوضح المؤلف أنه في أواسط التسعينيات كان تعبير التكنولوجيا النانوية قد اكتسب طابع كلمة متداولة طنانة، وبدأ يظهر في قصص الخيال العلمي والمطبوعات الشعبية العلمية والتقنية، وفي مقترحات الحصول على منح للبحوث. فإذا ما كانت التكنولوجيا النانوية تعني بطبيعة الحال التعامل مع المادة على مقياس النانومتر، فسيدخل قدرا كبيرا من العلوم والهندسة الحالية في نطاق التكنولوجيا النانوية : الكيمياء والبيولوجيا الجزيئية وفيزياء السطوح والأغشية الرقيقة والمساحيق فائقة النعومة ... وما إلى ذلك.
التكوين والتحدي!
ويضيف: "هذه التكنولوجيا تتضمن بناء ماكنات تكون أجزاؤها جزيئية الحجم. وأهم من ذلك أنها ذات دقة ذرية: وكل ذرة أو آصرة في الجزء المكتمل مطلوبة على وجه التحديد في تصميمها مثل أجزاء ماكنة الخلية. وستعمل هذه الأجزاء في التكنولوجيا النانوية الناضجة على أي حال في الفراغ بدلاً من الماء المالح، وستصنع من مواد أكثر متانة من البروتينات التي تستخدمها الخلايا.
إن الأثر المتوقع للتكنولوجيا النانوية قد أُطري بإسراف واعتبر ثورة صناعية ثانية، لا ثورة ثالثة أو رابعة أو خامسة، وذلك بالرغم من توقعات مشابهة لنكنولوجيات أخرى، كالحواسيب والربوتات؛ إذ لا شيء حتى الآن قد طغى على الثورة الصناعية الأولى.
وفي الوقت الذي يؤكد فيه الباحث أن الثورة الصناعية الأولى غيرت نمط حياتنا، وضاعفت على مستوى الفرد متوسط المدى العمري، وجعلت الحضارات العالمية بحق أمراً ممكناً، يتساءل: هل ستتمكن التكنولوجيا النانوية من مواجهة التحدي؟. ويندرج ضمن التكنولوجيا النانوية اليوم اختراعات لافتة للنظر، وثمة المزيد في المختبرات وعلى شاشات حواسيب المنظرين. ولكن كيف سنحكم إن كانت أي مجموعة من الاختراعات الجديدة، مهما كانت بارعة، ستغير العالم، اللهم إلا ضمن مجال تكنواوجي محدود؟.
ويؤكد إيريك دريكسلر(كاتب المقدمة) أن الوصول إلى فهم حقيقي لتكنولوجيا جديدة ـ أي الفهم المطلوب للحكم على آثارها ـ هو مغامرة ذهنية، وأنه أفضل مرشد لنا في مثل هذه الرحلة هو جوش هول. ويصف دريكسلر أن هول كان أول من أنشأ مجموعة نقاش على الإنترنت، وقاد النقاش لعقد من الزمن، قبل أن يحرز تعبير التكنولوجيا النانوية عُشر الشعبية التي يتمتع بها الآن . وقد بدأ بالبحث والتطوير في التكنولوجيا النانوية منذ أوائل أيامها . ويعزى إليه عدد من الاختراعات والاكتشافات في هذا الميدان. وما يفوق مؤهلات هول العلمية أهمية على أي حال هو القرائن العديدة التي يستخدمها في تفسيراته.
ثورة قادمة
إن مسيرة التغير التكنولوجي تتسارع، وستكون التكنولوجيا النانوية أساسية في هذا التغير في العقود القادمة، وقد تحمل العقود القليلة القادمة تغيرات تفوق ما تحقق في القرن الماضي، وستكون دروس الثورات التكنولوجية السابقة خير دليل على مواجهة ما هو قادم.
ويقول دريكسلر إن التاريخ عندما نحسن روايته هو قصة في الأساس. وتاريخ التكنولوجيا هو قصة احتياجات الإنسان والإمكانية المادية. ويجب على التنبؤ التكنولوجي سرد قصة مشابهة لاحتياجات الإنسان التي تتحقق ضمن الإمكانيات التي تضعها قوانين الطبيعة . ولكي نفهم وقع التكنولوجيا النانوية علينا النظر في ما يمكن أن تيسره، وفي المتطلبات التي تستطيع تحقيقها ،وما ينبغي أن تحققه. وكذلك علينا أن نفهم كيف غيرت الحاجة والإمكانية شكل العالم من قبل. يؤكد دريكسلر أنه في طيات كتاب "هول" نجد القصة كاملة.
ويرى الباحث أنه لو كان بالإمكان دمج إمكانيات الآليات البيولوجية مع الإمكانيات التقليدية لاصبحت الماكنات تنمو وتصلح ذاتها وتتكاثر من دون الحاجة إلى مصانع، وتنمو من البذور، وأنه، أيضاً، سنتمكن من امتلاك تكنولوجيا بحذق وقابلية تكيف الحياة نفسها وبقوة النفاثات الجبارة وكفاءة المحركات الكهربائية ودقة الحواسيب. ويتساءل في هذا الإطار: هل يمكن تحقيق مثل هذه التكنولوجيا؟. يجيب: إنها ليست ممكنة وحسب، بل هي قادمة، وستغير الطريقة التي نعيش بها، وما نعرفه، وكيفية تفكيرنا، وربما حتى من نكون ..إنها تدعى التكنولوجيا النانوية...
معسكران
ويذكر المؤلف: إنه قد يبدو للوهلة الأولى أن ثمة نقاشا يجري في المجتمع العلمي حول ما إذا كانت التكنولوجيا النانوية الأصلية ستعمل بالطريقة التي أعلن عنها . ويوضح أن هناك معسكرين فكريين : يتكون الأول من أناس تحركهم السياسة، وأكثرهم ممن يتلقى المنح ويتملكهم القلق من كيفية إدراك العامة لمخاطر التكنولوجيا النانوية التي قد تؤثر على أموالهم، ولديهم موقف متشدد نحو أي شيء يشتم منه ولو بصورة مبهمة رائحة الماكنات التي تكرر ذاتها أو التصنيع الجزيئي، ولم يبذلوا إلا جهدا قليلاً لفهمها، وهم من دعاة مقولة: "لم يتم اختراعه هنا"، وعادة ما يكون علماء الكيمياء وعلماء المواد في هذا المعسكر.
أما المعسكر الآخر، فلا يملك ذلك التوجه السياسي، ولا يملك مالاً معرضاً لمزاج الرأي العام ليحميه، والمدهش أنه ليس مشككاً إلى ذلك الحد. وتتفق نسبة كبيرة من العلماء والمهندسين، أولئك الذين ليس لهم مصلحة مالية في المسألة التقنية لهذا التطور النانوي. وفي العادة ينتمي إلى هذا المعسكر الفيزيائيون والمهندسون الميكانيكيون وعلماء الحاسوب.
ويتطرق الباحث كثيراً في مؤلفه إلى الشخصية التي تعتبر الأولى بالمساهمة في التعريف بعلم النانوية بشكله الواضح والعلمي الممنهج، وهو دريكسلر، الذي كانت أطروحاته للدكتوراة حول التكنولوجيا النانوية . يقول المؤلف: "لم يجد أحد ما خطأً بارزاً في طرح دريكسلر التكنولوجي، ومن يبخسون دريكسلر في النقاش السياسي لا يتحدثون كذلك عن الجانب التكنولوجي، فهم يحاولون تجنبه لاجئين الى حجج عاطفية لا سند منطقي لها، من مثل: " إنك تفزع أطفالنا".
مخيفة ولكن!
ويؤكد هول أن بعض إمكانيات التكنولوجيا النانوية مخيفة حقاً، وذلك يجعل التفكير فيها بجدية أمراً أكثر أهمية من إهمالها!. وأنه بعد أكثر من عقد من الدراسة التكنولوجية يجب التأكيد على أن التكنولوجيا النانوية ممكنة التطبيق من قبل شخص ما في مكان ما خلال القرن الحالي، كما سيكون عدم إعطائها الأهمية المطلوبة في تخطيطنا، بسبب آثارها العميقة على أوضاع الإنسان، حماقة لا تصدق.
ويوضح أن التكنولوجيا النانوية هي، على وجه التحديد، التكنولوجيا التي نتنبأ بها عندما يغسل مد التقدم التكنولوجي شواطئ الفيزياء الذرية (ميكانيكا الكم للإلكترونيات، مع اعتبار النوى جسيمات أولية غير قابلة للتغير). وقد تتضمن (وفق المؤلف) تكنولوجيات اخرى في المستقبل افواجاً معرفية اخرى، مثل فيزياء الجسيمات الذرية، وما دون الذرية، والنسبية.
كما يبين المؤلف هول أنه يمكن للتكنولوجيا النانوية، كذلك، أن تحيل النفايات إلى طعام فطور، والسيارات الطائرة عبر القارات هي إمكانية متميزة، والواقع الافتراضي الشامل لكافة الحواس من خلال حقن الاشارات في اعصابك أو في الدماغ آتٍ قريباً، والأبراج التي تطاول مئات الاميال ـ وليس بضعة أميال ـ ممكنة تماماً، والمصنع الجاهز للاستخدام أو "طابعة المواد" ستحدث ثورة في طريقة اقتناء الحاجيات البيتية والغذاء.
سيناريو وأمل
ويبين أنه يمكننا بكل سهولة تصور السيناريو التالي: يتم تحويل كل المخلفات التي ننتجها ـ النفايات ومياه الصرف ـ إلى تربة غنية بواسطة البكتيريا. وستنمو الاشجار والأعشاب على هذه التربة، وستأكل الأبقار والعشب، وسيعاد ترتيب الذرات نفسها التي طرحتها لتصبح لحوماً وألباناً وخشباً وتفاحاً بواسطة ماكنات جزيئية طبيعية. وبإمكاننا بناء ماكنات جزيئية لتعمل الشيء ذاته. تحويل الفحم إلى ماس !!.
ويشير المؤلف إلى أن تحويل الأجسام العليلة إلى أجسام تتمتع بالصحة أو تحويل الأجسام المعمرة إلى أجسام فتية هو تحويل آخر يتضمن إعادة ترتيب الذرات. وهذه الحالات أكثر تعقيداً من الحالات السابقة، لأننا لا نفهم حتى الآن ما المطلوب عمله فعلياً على المستوى الجزيئي، لكن التكنولوجيا النانوية ستعطينا أولاً الأدوات لنجد ذلك، ومن ثم الأدوات لتنفيذ المهمة.
ويتساءل الكاتب: هل ستكون التكنولوجيا النانوية قادرة على بناء أي شيء ممكن مادياً ما دام ترتيب الذرات هو المقصود ؟. يجيب قائلاً: ربما لا، فقد لا يمكن بداية الوصول إلى بعض ترتيبات الذرات التي قد تبدو مستقرة فيزيائياً للذرات لو وجدت".
الكثير الكثير من المعرفة والسيناريوهات لمثل هذه التكنولوجيا يطرحها ويشرحها لنا جون هول، ولكن مجمل القول، هنا: إن مثل هذا التطور السريع والفريد في الغرب يحتم على العلماء العرب أن يولوا له أهمية قصوى، فلا يعقل أن نكون مستهلكين للتقانة والابداع الغربي بعد أن يستهلك في موطنه لأكثر من عقد ٍ من الزمن. كفى استهلاكاً لأدوات الآخر...ألا يوجد لدينا القدرة على الإبداع، وفي كافة المجالات ..أعتقد أن الجواب نعم، ولكن ما نحتاجه الإرادة والمبادرة... أتمنى أن لا ننتظر لتحقيق ذلك طويلاً!!.
|