ما بعد قمة كوبنهاغن الفاشلة لإنقاذ الكوكب
"التطرف البيئي" يعود إلى الواجهة كمدخل شبه وحيد لإيجاد البدائل والحلول
حبيب معلوف / لبنان
مع أن قمة كوبنهاغن كانت مجرد اجتماع الرقم 15 للدول الأطراف الموقعة على الاتفاقية الإطارية لتغير المناخ التي وضعت العام 1992، إلا أننا يمكن أن نعتبره بمثابة محطة تاريخية مهمة، تبلورت عندها خيارات عالمية أكثر وضوحا.
في هذه المحطة من المفاوضات ظهر بشكل واضح وفاضح مدى تراجع أدوار ومهام الأمم المتحدة وبرامجها. كما ظهر مدى استئثار الدول الكبرى في العالم ومصيره، ولاسيما الدول الصناعية الكبرى، وخضوع رؤساء الدول لسلطة القوى الاقتصادية الكبرى، وكيف خرج مصير هذا الكوكب عن السيطرة.
كما تبين أن اقتصاد السوق هو النظام الاقتصادي المسيطر على العالم. هذا النظام الذي صنعته قوى مالية واقتصادية كبرى ومجموعات مصالح متقاطعة ومتشابكة ومتنافسة عابرة للحدود... هو الذي يسيطر على خيارات الدول دون منازع، ولا شيء يمكن أن يغير في اتجاهاته، إلا إذا حصلت كوارث كبرى، إن على المستويات المالية والاقتصادية، أو على مستوى الكوارث الطبيعية أو المناخية أو البيئية.
كما أظهرت نتائج مؤتمر كوبنهاغن مرة جديدة، أن العالم لا يزال محكوما بأنظمة صنعها وأغلقها بنفسه ولم يعد يستطيع الخروج منها.
في الحقيقة كل القوى كانت في مواقعها في كوبنهاغن. ممثلو الدول يدافعون عن القوى الاقتصادية الكبرى في بلادهم، هذه القوى التي تدعم بشكل أو بآخر الاقتصاد الوطني للدول. الشركات التي تبحث عن أسواق جديدة. الخبراء الذين يتبادلون المعلومات ويبحثون عن التزامات لدراسات جديدة. الإعلام الباحث عن الخبر والمعلومات والتقارير والتصاريح وسير المباحثات. والمنظمات غير الحكومية التي يفترض أن تكون ممثلة لمصالح الشعوب، والتي يفترض أن تشكل القطاع الثالث بين القطاعين الرسمي والخاص. إلا أن هذه الأخيرة كانت منقسمة بين مجموعات "متطرفة"، بقيت في معظمها في الخارج، لكونها لا تقتنع بأن من يجتمع في الداخل يمكن أن يجد الحلول لمشكلة تغير المناخ، ولاعتقادها بأن القضية مرتبطة بالأنظمة الاقتصادية والسياسية التي يفترض تغييرها... وتلك التي دخلت وسجلت وشاركت في الأعمال لاعتقادها بأنها تستطيع أن تشكل قوة ضغط على المتفاوضين لإقرار اتفاق ملزم، ولاعتقادها بأن المسألة هي مجرد أرقام والتزامات بين المتفاوضين.
وسرعان ما بينت نتائج المفاوضات، أن من كان في الخارج قد أصاب في تشخيصه، بينما من دخل شعر بالخيبة والإحباط.
ولكن ماذا بعد؟ وماذا ينفع أن تنجح التوقعات إذا كانت النتيجة كارثية؟ بعد كل ما حصل، وإذا صدقت توقعات آلاف الخبراء في العالم حول مصير الكوكب إذا استمرت حرارة الأرض في الارتفاع وتغير المناخ أكثر فأكثر، ما الذي يمكن فعله ما بعد كوبنهاغن؟ لم يعد تطرف المتطرفين مستغربا، لا بل أصبح واجبا . فضمن قاعدة لا يدرك الشبيه إلا الشبيه، لا يمكن مواجهة الظواهر المناخية المتطرفة التي ستنجم عن تغير المناخ، إلا بحلول متطرفة. كما لا يمكن فرض حلول متطرفة على العالم إلا مع مطالب متطرفة. ولا يمكن أن يحمل مطالب متطرفة إلا قوى متطرفة.
والحالة هذه، لا بد من برنامج جديد وموحد تحمله قوى جديدة تكون من طبيعة المشكلة. فإذا كانت هذه المشكلة في طبيعتها عالمية، لا بد للقوى المتصدية لها أن تكون عالمية أيضا. وإذا بدا عجز الحكومات عبر ممثليهم والشركات ومصالحها عن إيجاد الحلول، وبعد أن بان عجز الأمم المتحدة التي بلغت قرارات بعض قادة العالم وأخذت علما بإخفاق الدول الكبرى عن التوصل إلى اتفاق ... فلا بد للمجتمع المدني العالمي أن يشكل القوة الثالثة المنقذة. ولم يبق من خيار أمام هذه القوة إلا التطرف، بمعنى المطالبة بإصلاحات جذرية في الأنظمة الاقتصادية المسيطرة وإعادة الاعتبار لدور الدول بوصفها مؤتمنة على ديمومة الموارد وسلامة الكوكب ومناخه وبيئته، ولدور الأمم المتحدة بوصفها الإطار المنظم لكل ما يتخطى حدود الدول وسيطرتها ومصالحها.
والتطرف هنا لا يعني رفض أية تسوية. فلا بد من تسوية في النهاية. إنما التسوية المطلوبة هي بين التطرف الشعبي والتطرف السلطوي المالي والاقتصادي. أما التسوية التي كانت مطلوبة في المفاوضات، والتي حصلت، فهي تسوية مصالح متشابهة، يحافظ فيها كل طرف على مصالحه. وهي بالتالي تسوية غير منقذة للكوكب، لكون هذه المصالح هي المتسببة في المشكلة.
منذ 17 عاما والعالم يتابع وينتظر بعد مئات الجولات من المفاوضات للوصول إلى ما يسمى "الرؤية المشتركة" بين ممثلي الدول المتفاوضة والتي تحتاجها قضية تغير المناخ. إلا أن هذه الرؤية لم تتبلور يوما ولاسيما بين البلدان النامية - التي تحمل البلدان المتقدمة "المسؤولية التاريخية" لتراكم الانبعاثات في الغلاف الجوي والتسبب بالظاهرة من جراء مشاريع التنمية والتصنيع والتقدم والعيش برفاهية - وبين البلدان المتقدمة التي اعترفت بالمشكلة ولا تريد أن تتراجع عن مكتسبات حضارتها، ولا تقترح للخروج من المشكلة سوى الدعوة إلى "التخفيف" من الانبعاثات و"التكيف" مع المشكلة، و"التبرع" ببعض المال (تحت عنوان "التمويل" الذي لا يؤثر على المكتسبات والأرباح والمسار التاريخي للاقتصاد..). في حين يعلم الخبراء المحايدون أن القضية باتت تتطلب ما هو أكثر من ذلك بكثير، أي التغيير الجذري في بنية الأنظمة وثورة في المفاهيم والقيم واتخاذ إجراءات متطرفة شبيهة بالظواهر المتطرفة لتغير المناخ المنتظرة.
ففي ظل اقتصاد السوق المسيطر، لا يمكن الحديث عن "نقل التكنولوجيا" التي تعتبر ركنا من أركان المطالب والمفاوضات. فمسألة نقل التكنولوجيا، كما شقيقاتها من محاور المفاوضات المناخية، كالتخفيف والتكيف والتمويل، كذبة كبيرة، وقد تحولت إلى "كذبة تاريخية" لكثرة ما تم التداول بها والمراهنة عليها لإنقاذ الكوكب. فكيف يمكن المراهنة على "تكنولوجيا بيئية" وتعميمها على سكان الكوكب في ظل اقتصاد السوق القائم على المنافسة، وضمن قواعد منظمة التجارة العالمية وقوانين حماية الملكية الفكرية؟
بينت الجولة الأخيرة من المفاوضات في كوبنهاغن، استحالة المطالبة بفصل التكنولوجيا البيئية عن العلم والتكنولوجيا بعامة، التي باتت معظم أسرارها عند القطاع الخاص الذي يبتغي الربح، وقد وظف بعضا من أرباحه في الأبحاث لتطويرها ولفتح أسواق جديدة، ولا يمكنه أن يقدمها مجانا الآن من أجل "عيون الكوكب" تحت عنوان مبهم "الإنقاذ". لا بل يذهب البعض إلى القول باستحالة فصل التكنولوجيا البيئية عن التكنولوجيا بعامة، لكون منجزات العلم والتكنولوجيا باتت مرتبطة بعضها مع بعض وتستفيد بعضها من بعض. فصناعة المراوح الهوائية لتوليد الطاقة وتكنولوجيتها مرتبطة بنظم التحكم والتوازن المستخدمة أيضا في صناعة الطائرات والكمبيوترات. فكشف أسرار التكنولوجيا التي تعتبر بيئية وبسيطة، يمكن أن تكشف أسرار تكنولوجيات أكثر تعقيدا يستحيل أن يتخلى عنها "مالكها"... وهكذا يستحيل أيضا الاستمرار في مطلب "نقل التكنولوجيا" من قبل الدول النامية، والمطالبة بـ"الفصل"، هذا المطلب الذي بدا في البداية تسوويا في طبيعته!
أمام هذه المعطيات، لا بد من إعادة جمع الصفوف، وإعادة توحيد القوى الممثلة للشعوب في العالم، ولكن تحت شعارات أكثر جذرية لناحية المطالبة بتغيير الأنظمة (الفكرية والمادية) المسيطرة وعدم الاكتفاء بمطالبة الدول بالالتزام بأرقام محددة للتخفيف وضمن تواريخ محددة... بعد أن ثبت أن المتطرفين كانوا على حق منذ البداية. لا بد من إعادة تسييس البرامج والمطالب، نحو "بروتوكول للشعوب" أكثر تقدما من "بروتوكول كيوتو" الذي مات ودفن في كوبنهاغن، بعدما شارك من معه ومن ضده بجنازته.