خاص بآفاق البيئة والتنمية

قرية بتير قضاء بيت لحم
بعد ان غادرنا رام الله في صباح ربيع مشرق متوجهين الى الجنوب وتحديداً الى مدينة بيت جالا، اضطررنا -بسبب الإغلاقات والحصار منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر- للسير شمالاً باتجاه عيون الحرامية، ومنها انعطفنا يميناً إلى ما يسمى شارع (رقم 60) للوصول إلى جبع ومنها الى حزما، ومن ثم عناتا ومنها في طريق الفصل العنصري المتجهة الى العيزرية، وبعد ذلك نتوجه الى الحاجز المسمى "الكونتينر" ومنه نستطيع الوصول الى بيت ساحور، وبيت لحم وبيت جالا، ومنها تستطيع الوصول الى الخليل.
وصلنا حاجز الكونتينر باكراً نظراً لخلو الشوارع من اكتظاظ السيارات كما هو معتاد. الحاجز كان خالياً إلا من جنود الاحتلال، وبعد أن طلبوا من السائق الذهاب مرة لليسار ومرة لليمين توقفت الحافلة.
الهزيمة أمام ضراوة وبسالة المقاومة كانت واضحة وضوح الشمس في عيون ووجوه جنود العدو، هذا ما شاهدناه عندما صعد الحافلة جنديان في العشرينيات من عمرهما، أحدهما رفيع أشقر وعلى خده الأيسر آثار ضربة بأداه حادة وواضح أنه متغطرس، وآخر ممتلئ وبشرته داكنة وربما اصوله عربية من بدو النقب أو من الجولان.
اخذ الجنديان يتفرسان في الوجوه ويتحرشان بالركاب، حتى وصل الجندي الأشقر الى الصحفي عامر العاروري والذي كان يجلس الى المقعد المجاور لمقعدنا، واخذ يضحك وكأنه اكتشف كنزاً واخذ يتحدث بالعبرية مع عامر ومع الجندي الآخر المرافق له. فهمنا من الحديث أنه يقول لعامر: "ها أنت مرة أخرى ويبدو أنني سآخذك للسجن هذه المرة (..) هذا صحفي يساري ويدعم اليسار في إسرائيل". وإحدى المشاركات لم يعجبها كلام الجندي وأخذ يجحرها، ومن ثم توجه إلى مقدمة الحافلة وتناول الميكروفون وأخذ يغني بالعبرية متراقصاً وكأنه بهلوان وتفوه بكلمات نابية بالعربية إلى إحدى المشاركات، وصعدت زميلته لتصوره.
هذا المشهد المسرحي يتكرر يومياً على الحواجز، ولأنهم مهزومين يقومون بتوجيه بنادقهم للمواطنين العزل، وإذا كان هناك أي رد أو مقاومة تكون الرصاصة في بيت النار ومستعدة للقضاء عليك، لتصبح خبراً عاجلاً على شاشات التلفاز.
رغم هذه البداية لمسرحية هزلية، تابعنا مسيرنا باتجاه بيت جالا والتي وصلناها بعد حوالي ساعتين من السفر، لنبدأ مسارنا المشوق والذي مشيناه أكثر من مرة. بدأنا بالنزول في طريق معبدة محاذية للشارع الرئيس والمسمى بشارع "النفق" والمؤدي لمدينة القدس والذي يمر عبر نفق مخترقاً الجبل ومن ثم ننعطف الى اليمين في طريق نازلة مرصوفة بالخرسانة. المناظر الأخاذة أمامك تشدك وتنسيك تعب النزول ومشقة السفر بعد أن تسمع تغريد الطيور مرحبة بقدومك للاستمتاع بظل الحراش وسماع صوت مياه الينابيع المنتشرة في المكان. ونصل قاع وادي المخرور ونتجه نحو قرية بتير الرائعة والتي كسبت شهرتها بعد أن أدرجتها اليونيسكو على قائمة التراث العالمي.
ونظراً لإغلاق المسار الذي اعتدنا عليه عدنا للصعود قليلاً وللسير في مسار معلم باللونين الأبيض والأحمر ويكون موازياً ومطلاً على مسارنا المعتاد ونستظل في ظل أشجار البلوط والسرو والصنوبر، ونأخذ استراحات وننزل الى قاع وادي المخرور، ومن ثم ننعطف يساراً ونبدأ الصعود في الجبل والذي كان شاقاً على البعض، ولكن المشاهد الخلابة للأحراش وسماع زقزقة الطيور واستنشاق رائحة "زعتر السبل" والمنتشر بغزارة في الجبل تنعشك وتعطيك الطاقة للاستمرار في الصعود نحو "عين العمدان"، التي نزورها لأول مرة، وبعد أن وصلنا القمة انعطفنا يميناً ومشينا في مسار حتى وصلنا "عين العمدان".

قرية بتير الغنية بالينابيع
عين العمدان
تقع عين العمدان أو عين أم العمدان، في منطقة المخرور وهي تابعة لقرية بتير، تنبع من باطن الجبل من خلال تجويف صخري، وتوصل إليها مجموعة من الأنفاق والقنوات، التي حفرت في فترات زمنية مختلفة، ويظهر على حجارتها تأثير جريان المياه طوال سنوات لا يعرف عددها.
تغطي الأشجار مدخل العين، وتحيط بها -مثل باقي منطقة المخرور- أشجار زيتون معمرة، وبلوط، وسرو، وغيرها. تصب ماء العين في بركة مربعة الشكل تعلوها جدران من السلاسل وتتدفق منها المياه المتجمعة في قنوات إلى الأراضي الزراعية. وبعض هذه القنوات حفر في الصخر ورمم في فترات مختلفة، ويمكن الوصول لمخرج النبع من خلال درج حجري. وقد تم تطوير المنطقة ووضع مظلة معدنية مع مقاعد مغطاة بألواح خشبية. واضح أن المنطقة يرتادها الكثير من المتنزهين، خصوصاً في فصل الربيع وفي أيام الحر الشديد نتيجة لوجود المياه والأشجار المحيطة بها.
اخذنا استراحة الفطور في المكان وتابعنا سيرنا بين أشجار الزيتون في طريق ترابية ونستمتع بالمشاهد الخلابة، وننزل على درج مصنوع من عجلات السيارات بعد طمها وترتيبها بشكل متدرج كتدوير إيجابي في استخدامها، ونلتقي بالمسار الذي كنا نمشي فيه سابقاً ومن ثم نصعد الى اليسار حيث درج حجري ونرى وجود آثار قبور رومانية محفورة في الصخر، وبعض الكهوف المدمرة ونتابع السير حتى نصل الطريق المعبدة التي توصلنا إلى وسط بلدة بتير.
نأخذ استراحة في المكان حتى يجتمع أعضاء الفريق، ومن ثم نتحرك نزولاً في الشارع المعبد باتجاه سكة الحديد التاريخية التي تمر في بتير والتي أنشأها العثمانيون بين عامي 1888 و1890 وتصل بين مدينتي يافا والقدس، وهي أول خط سكة حديد في فلسطين خاصة وفي الوطن العربي عامة.

سكة الحديد التاريخية التي تمر في قرية بتير وأنشأها العثمانيون وتصل بين مدينتي يافا والقدس
سكة حديد بتير
إنشاء سكة حديد تصل ساحل البحر المتوسط بالقدس كانت فكرة جاء بها البريطانيون في منتصف القرن التاسع عشر. وفي عام 1888، أصدرت الحكومة العثمانية تصريحاً ببناء سكة الحديد ومنحت الحقوق لشركة فرنسية. وكان من المفترض أن تشكل سكة حديد يافا-القدس جزءاً من شبكة واسعة تمتد من قنطرة في مصر نحو منطقة الساحل في حيفا، ومن حيفا إلى خط الحجاز الشرقي الذي يصل مدينة إستانبول بمكة المكرمة.
انتهى بناء السكة عام 1892 لتشمل 5 نقاط أساسية وهي اللد، وسجد، ودير إبان، وبتير، وكانت تهدف إلى تسهيل تنقل الحجاج من منطقة إلى أخرى. والأهم من ذلك، تصدير البرتقال من فلسطين إلى الخارج. في بادئ الأمر، كان القطار يسافر مرة يومياً في كل اتجاه، وتعددت رحلاته خلال فترة عيد الفصح.
وبحلول عام 1900، شهدت السكة قطارين يسافران في كل اتجاه. حققت قرية بتير ازدهاراً على المستويين الاقتصادي والاجتماعي نتيجة إنشاء سكة الحديد، إلا أن فرحتها انتزعت بسبب اندلاع حرب عام 1948 والحكم الأردني في الضفة الغربية.
وأهل القرية الذين طردوا مؤقتا من ديارهم عادوا بمساعدة حسن مصطفى الذي أصبح البطل المحلي الذي كرس حياته لضمان حق شعبه في الأرض. إلا أن أيام المجد لقرية بتير انتهت عندما تم عزل القرية عن القدس لاحقاً للهدنة التي تمت بين الأردن وإسرائيل، وتم إغلاق سكة الحديد لتصبح مجرد ذكرى لازدهار بتير الضائع.
كنت من أول الواصلين للسكة بصحبة أحمد سمامرة وابنه إسماعيل والشبل أسيد عصفور، وكانت رائحة الشومر البري منتشرة في المكان. أخذنا نمشي على خطي السكة، ويعود شريط الذكريات لأيام النكبة وما قبلها، وترخي السمع وكأنك تسمع الاصطدام الرتيب لعجلات القطار الفلسطيني وترى دخان عربة القيادة، وهو قادم من يافا وحاملاً ركابه الفلسطينيين المتوجهين للقدس او لقضاء فريضة الحج عندما يستقلون قطار الحجاز من القدس المتجه الى مكة المكرمة. أو تسمع صدى طلقات رصاص الثوار للدفاع عن القدس والأرض قبل سلبها من المحتل الغاصب.
تشعر بالحزن وبالمؤامرة على هذا الشعب الذي يعاني نير الاستعمار والمؤامرات عليه لإنشاء دولة يهودية منذ بداية القرن العشرين إلى اليوم، لكن جذوة النضال والمقاومة لم تنته.
غادرنا سكة الحديد وكل يحمل في نفسه ذكريات خلدها في الصور، ليأتي ذلك اليوم والذي نركب فيه القطار ونتجه إلى يافا وحيفا وعكا والناصرة، وإلى كل ركن في فلسطين التاريخية.
أخذنا نصعد في طريق قنوات المياه متجهين إلى البركة الرومانية وعين بتير والحمام الروماني، ومشاهد الحقول الزراعية وخطي سكة الحديد ومجموعة الأحراش تنسجم سوية في لوحة فنية يستمتع بها كل من شاهدها.
ونأخذ استراحة قرب قاطع صخري مجوف في مشهد بديع ونصل اخيراً إلى البركة الرومانية ونستمع بصوت خرير المياه وبالأجواء الرائعة وبالأقواس الرومانية والأدراج الحجرية المارة خلالها، ونأخذ استراحة في المقهى المجاور، ونغادرها صاعدين الى مكان انتظار الحافلة، ونعرج على عين بتير وعلى الحمام الروماني قبل المغادرة في طريق العودة.

البركة الرومانية في قرية بتير قضاء بيت لحم
قرية بتير
بلدة ريفية فلسطينية من قرى الريف الغربي لمحافظة بيت لحم، تمتاز بطبيعتها وبساتين الخضار التقليدية، كما أنها تشتهر بالباذنجان البتيري.
تقع بلدة بتير إلى الجنوب الغربي من القدس وتبعد عنها حوالي 8 كم وغرب مدينة بيت لحم التي تبعد عنها 5 كم، وهي إحدى القرى المحاذية للخط الأخضر، ترتفع عن سطح البحر 800 متر، وتبلغ المساحة العمرانية للقرية حوالي 420 دونما. تحيط بأراضيها قرى الولجة وبيت جالا وحوسان والخضر والقبو، وتمر بها سكة حديد القدس - يافا التي بناها الاتراك خلال العهد العثماني في أوائل القرن العشرين، وجزء من أراضي بتير، ومن ضمن ذلك المدرسة، تقع في أراضي 48.
وهناك العديد من العيون من أهمها: عين البلد، وعين جامع، وعين عمدان، وعين المصري، وعين فروج، وعين أبو الحارث، وعين ام الحرذون، وعين إباسين.
أدرجت القرية على لائحة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) في 20 حزيران/يونيو 2014 وذلك لمصاطبها الزراعية وآثارها الرومانية.
ومن الجدير بالذكر ان سائقنا أبو محمد شاركنا هذا المسار لأول مرة، ورغم قصر مسافة المسار والتي بلغت ثمانية كيلومترات، إلا أنها كانت متنوعة وفريدة، وفيها الكثير من المتعة والمعرفة والانسجام مع الطبيعة، وتعطيك دفعة للأمام لاستقبال أسبوع جديد من العمل. ولا شك أن اختيار المسار ووقته كان موفقاً من قبل دليلنا عبد الفتاح، الذي زادنا متعة وشوقاً للمسار القادم.