إن كان هناك من وصفٍ لهذا العصر، فسيكون عصر تدمير الطبيعة والكوارث بفعل البشر، عصر التدمير الذاتي لحياة الإنسان والكائنات الأخرى، فكم يُلحق هذا المخلوق من خراب في هذا الكون؟ وماذا سنُبقي لأبنائنا وأحفادنا على هذا الكوكب إن استمر هذا الفعل؟ في كل ثقافات العالم وأديانه السماوية منها، وتلك التي لا تعتبر كذلك، هناك حَضٌ على العناية بالطبيعة، لكن السلوك البشري عند كل حَمَلَة الديانات لا يشير إلى الالتزام بتعاليم تلك الديانات فيما يتعلق بأمنا الأرض. ربما أصبحت مقولة "حفظ حق الأجيال القادمة" مستهلكة، لكثرة ما يتم ترديدها، لكنها تعكس جوهر الدعوة لعدم الإفساد في الأرض. الانتهاكات والجرائم البيئية عندنا كثيرة وكثيرة، انتهاكات تتزايد كل يوم وتطرق أبواباً كثيرة مخلفةً مآسٍ كثيرة الأوجه، لكن أبرزها تلك المرتبطة بحياة الناس وصحتهم، فالأمراض وخاصة السرطانية أصبح لها بؤر كثيرة في فلسطين وتنتهي هذه الأمراض بموت المصابين بها غالباً، وأسباب ذلك معروفة في كثير من الحالات، لكن ليس من اتحاد لحركات بيئية وبيئيين للدفاع عن الحياة المقدسة قدسية الأرض، قدسية الطبيعة، بل يُترك الناس في كل حالة لوحدهم، كأن ما يجري يخص مجموعة منعزلة هناك أو هنا.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
|
سعد داغر-يسار- أثناء تظاهرة في شواطئ البرتغال ضد التنقيب عن النفط والغاز الذي سيدمر البيئة البحرية |
سوف ندرك كبشر قيمة الماء يوماً ما، وندرك قيمة التراب الذي نقف عليه، وذاك الغزال الذي نصطاد، وربما الخنزير البري والحجل وشجرة البلوط التي نقطع، وتلك الأرض التي نخرب من أجل الحصول على معدن هنا أو إلقاء نفايات هناك، أو استخراج الغاز أو النفط من البحار ومن اليابسة، وتدمير الطبيعة للحصول على الليثيوم وأشباهه. عصر بلاستيكي في كل زوايا الحياة، نفتك به بمخلوقات البحر واليابسة، بدءاً بدودة الأرض الحمراء، التي باتت تعاني بسبب البلاستيك، مروراً بالأسماك وحتى الحوت في البحر، كلها تتسمم وتموت بسبب ما نصنع ونلقي من البلاستيك وأشياء أخرى، وسيأتي اليوم ليفتك البلاستيك وغيره بنا كمجموعات بشرية. حيث تتلوث مياه الأنهر المقدسة والبحار والمحيطات ويذوب الجليد بفعل الحرارة التي ترتفع، مهدداً الحياة في أكثر من بلدٍ بالاختفاء بفعل ارتفاع منسوب مياه البحار.
كل عام، نسكب ملايين الأطنان من السموم الكيماوية في التربة والمياه، وإن كان هناك من وصفٍ لهذا العصر، فسيكون عصر تدمير الطبيعة والكوارث بفعل البشر، عصر التدمير الذاتي لحياة الإنسان والكائنات الأخرى، فكم يُلحق هذا المخلوق من خراب في هذا الكون؟ وماذا سنُبقي لأبنائنا وأحفادنا على هذا الكوكب إن استمر هذا الفعل؟
في كل ثقافات العالم وأديانه السماوية منها، وتلك التي لا تعتبر كذلك، هناك حَضٌ على العناية بالطبيعة، لكن السلوك البشري عند كل حَمَلَة الديانات لا يشير إلى الالتزام بتعاليم تلك الديانات فيما يتعلق بأمنا الأرض (يطلق عليها السكان الأصليون في جزيرة السلحفاة/أمريكا باتشاماما)، إلا إذا كانت هناك قوانين وضعها الإنسان. هذا الحال لا نجده عند السكان الأصليين في مجتمعاتهم كما هو الحال في "جزيرة السلحفاة"، أو لدى السكان الأصليين في أستراليا أو أفريقيا، إذ يعيش هؤلاء في حالة انسجام كامل مع الطبيعة، لا يلوثونها ولا يلحقون بها الأذى، يحافظون على أشجارها وأحياءها الأخرى ويتعاملون مع مكونات الطبيعة بقداسة. لكنها المدنيِّة الحديثة، التي تلحق كل هذا الأذى بأمنا الأرض/الباتشاماما.
غابات الأمازون تحترق كأبرز الشواهد على جشع رأس المال، الذي يضحي بهذه الغابات بكل ما فيها من حياة ومن بشر أصليين، من أجل توسيع مراعي الأبقار، وزيادة مساحات المزارع الكيماوية، لإنتاج الأعلاف أو نباتات الوقود الحيوي من المحاصيل المعدلة وراثياً. وفي الوقت الذي تتصارع فيه قوى عالمية وإقليمية، على مكتنزات البحر الأبيض المتوسط من الغاز والنفط، لا يُسمع أي صوت ضد التدمير والتلويث، الذي سيلحق بهذا المكان الفريد في العالم وكأن مصالح الشركات العابرة للحدود أمرٌ حتمي لا مكان لمقاومته.
هذه ليست إلا أمثلة محدودة لما يفعله البشر في الطبيعة، فيما نحن بحاجة إلى نهج جديد في الحياة، نهج يحفظ الموارد ويحافظ على قدرة هذا الكوكب ليمدنا بسبل العيش عليه، منهج يحكم حب الحياة بكل مكوناتها، لا منهج مدمر للكوكب وللحياة عليه. وربما أصبحت مقولة "حفظ حق الأجيال القادمة" مستهلكة، لكثرة ما يتم ترديدها، لكنها تعكس جوهر الدعوة لعدم الإفساد في الأرض.
مدافعون عن الطبيعة المقدسة
تضامن
لم يكن العام ٢٠١٦ سهلاً على شعب ستاندنغ روك "سيوكس" (Standing Rock)، حيث سمحت الحكومة الأمريكية ببدء مد أنبوب نفط بطول ٢٠٠٠ كم، وقدر لهذا الخط أن يعبر مناطق مقدسة لهذه القبيلة ويدمر مصادرها المائية، والأماكن المقدسة عندهم، لتنهض فتاة لم تبلغ الرابعة عشر من عمرها (توكاتا أيرون آيز) وتبدأ حملة على وسائل التواصل الاجتماعي، ووقفت "لادونا بول الآرض" تدعوان كلاهما لحماية المياه والأرض المقدسة لهذه القبيلة من السكان الأصليين لجزيرة السلحفاة/أمريكا لينشأ مخيم، يتوافد إليه الآلاف من الناس من كل أنحاء العالم من المدافعين عن حقوق السكان الأصليين وعن الطبيعة وعناصرها المقدسة بمعناها البشري والروحاني.
ألهمت هذه التجربة مجموعة من المدافعين عن الطبيعة المقدسة، فتداعى عدد من الناس منذ ثلاث سنوات، من كل أنحاء العالم وبمشاركة توكاتا ولادونا وتيوكاسين (وكلهم من السكان الأصليين لجزيرة السلحفاة)، لتخط هذه المجموعة سطور التضامن الأولى، ولتضع لنفسها مهمات كبرى، دفاعاً عن المقدس. التقت المجموعة للمرة الأولى في البرتغال في القرية البيئية "تاميرا" عام ٢٠١٧، وفي تلك الفترة خلال التجمع وبالتنسيق مع حركات بيئية برتغالية، تم تنظيم مظاهرة على شواطئ البحر ضد أعمال التنقيب عن النفط والغاز على تلك الشواطئ، هذا التنقيب الذي سيفسد البحر ويقضي على الحياة فيه ويلوث الشواطئ. هنا تهب الناس في الدفاع عن الطبيعة، دفاعاً عن المقدس، ولكن أيضاً دفاعاً عن حقها في الاستجمام والتمتع في الطبيعة والمياه وهو أيضاً حقٌ مقدس. ونعود لنلتقي بعد عام في القرية البيئية مرة أخرى، ويعود النقاش حول المقدس، وكيف سندافع عنه، لكن أيضاً يطفوا على السطح سؤال: هل المقدس يحتاج أن ندافع عنه؟ سؤال يأتي من أهل الحكمة، السكان الأصليين، ليجيب نفس الناس على هذا السؤال بالقول: "نحن من يحتاج الحماية، فالمقدس يعرف كيف يدافع عن نفسه، بينما نحتاج نحن لحماية أنفسنا من أنفسنا ولكي نستطيع فعل ذلك، علينا أن ندافع عن المقدس-الطبيعة بكل مكوناتها، لأن دفاعاً عنها هو حماية لنا، حماية لحياة الإنسان على الأرض، وهذا هو جوهر الدفاع عن المقدس".
ونعود للشواطئ التي يريد رأس المال أن يخربها، يقوده جشعه، الذي لا يأبه بشيء ـ لا الطبيعة تعني له شيئاً، ولا حياة البشر على الأرض، كل ما يعنيه هو تعظيم رأس المال، وتعود الجموع إلى الشواطئ، دفاعاً عن حقها، وبعد شهر من مظاهرات الاحتجاج ترضخ الحكومة وتلغي عقود التنقيب عن الغاز والنفط في البحر، ليفوز المدافعون عن القضية ويتحقق الانتصار على تغول رأس المال، وفي العام الثالث لبدء الحركة ٢٠١٩، يتحول تجمع المدافعين عن الطبيعة وعن الحق في الحياة إلى تحالف دولي تحت اسم "تحالف الدفاع عن المقدس".
سد لبنان
في لبنان وجدت مجموعات الدفاع عن البيئة قضية، لتقف دفاعاً عنها، قضية بناء سد بسري، الذي سيدمر مساحات واسعة من الغابات الطبيعية، وسيدمر مواقع أثرية كثيرة تزيد عن الخمسين موقعاً، سد أدركت كل الحركات البيئية والمدافعين عن الطبيعة في لبنان الكوارث الكبيرة التي ستنتج عن بناء سد كهذا، يقولون أنه ليس له أي ضرورة، ولم يتم إقراره بنائه على دراسات حقيقية لآثاره البيئية التدميرية، بل والأدهى من ذلك أنه سينقل مياهاً ملوثة إلى بيروت وكل ذلك وغيره يدفع لشم روائح الفساد التي تزكم الأنوف، من وراء تنفيذ هذا المشروع. هبت المجموعات البيئية اللبنانية دفاعاً عن مقدس من مقدسات الطبيعة، لكنها بقيت حتى الآن لبنانية الطابع وحيدة وتحتاج من كل المدافعين عما هو مقدس في حياتنا للوقوف دعماً وتأييداً لأخوات وأخوة لنا في لبنان، أمام حالة فساد مستعصية وأمام جريمة بيئية قادمة، في حال تم تنفيذ مشروع مشبوه كهذا.
البيئيون الفلسطينيون والحركات البيئية الفلسطينية، هل وجدت المقدس الذي يحتاج منها الاتحاد للدفاع عنه؟ الانتهاكات والجرائم البيئية عندنا كثيرة وكثيرة، انتهاكات تتزايد كل يوم وتطرق أبواباً كثيرة مخلفةً مآسٍ كثيرة الأوجه، لكن أبرزها تلك المرتبطة بحياة الناس وصحتهم، فالأمراض وخاصة السرطانية أصبح لها بؤر كثيرة في فلسطين وتنتهي هذه الأمراض بموت المصابين بها غالباً، وأسباب ذلك معروفة في كثير من الحالات، لكن ليس من اتحاد لحركات بيئية وبيئيين للدفاع عن الحياة المقدسة قدسية الأرض، قدسية الطبيعة، بل يُترك الناس في كل حالة لوحدهم، كأن ما يجري يخص مجموعة منعزلة هناك أو هنا. الدفاع عن المقدس هو دفاع عن الحياة، دفاعٌ عن الحق في حياة، لنحمي أنفسنا، هو ليس حالةٌ تَرَفيَّة، بل حاجة فردية وجماعية للوقوف في وجه تَغَوُّل رأس المال.
في حالتنا الفلسطينية، يضاف إلى ذلك احتلال استعماري يعمل على تدمير الإنسان وقتل روحه، من خلال خلق المشاكل المستعصية على الحل، يبقى الفلسطيني مشغولاً في همه الخاص، بينما يؤسس الاحتلال بخبثه لحالة تفريغٍ لفلسطين من أهلها بكل وسيلة ممكنة، بما في ذلك جعل الحياة أصعب على الإنسان الفلسطيني، لينتهي الأمر به بالرحيل أو الموت أو البقاء مهموماً بمرضه ومعاناته. مياهنا باتت ملوثة وقطاع غزة يئن من ذلك بشكل صارخ، تربتنا تموت بفعل ما يُسكب فيها من سموم كيماوية، هواءنا الذي نتنفس؛ في أماكن عديدة مشبعٌ بالسواد بفعل محارق المخلفات الإلكترونية والإطارات والبلاستيك المسرطن والمخلفات الإسرائيلية، التي تُنقل إلى الضفة الغربية، حيث بات هذا الجزء من فلسطين مكباً لنفايات المستعمرين الصهاينة. الدفاع عن الطبيعة في فلسطين في الجوهرِ دفاعٌ عن المقدس، هو معركة حقٍ في البقاء كمجموعة بشرية موجودة في هذا الجزء من العالم، هو دفاع عن الحياة بقدسيتها.