محاولات حفظ الموروث التاريخي والتراثي أصبحت هي التي تهدد هذا الإرث بالانقراض
المعالم الأثرية الفلسطينية: "مقام سيدي شيبان" بين مطرقة الزحف الاستيطاني وسندان محاولات الترميم والتأهيل العشوائي
|
الشارع الزراعي الذي يصل الى مقام سيدي شيبان والذي عملت البلدية على شقه خلال عملية اعادة التأهيل |
دانة مسعد
خاص بآفاق البيئة والتنمية
أصبحت محاولة إنقاذ ما يسمى بمناطق "جـ" في الضفة الغربية من السرقة لصالح الإستيطان الإسرائيلي، مبرراً لتدمير المناطق الطبيعية والأثرية ولتعريض التراث المرتبط بهذه المواقع والإرث الطبيعي للمنطقة إلى الإزالة والمحو٬ ومبرراً لتغيير معالم المناطق الأثرية والطبيعية في ظل غياب أي تخطيط منظم وواعٍ لحفظ المعالم الأثرية والطبيعية الواقعة في تلك المناطق. هذه القصة هي إحدى القصص الكثيرة لمناطق طبيعية وأثرية تغيرت معالمها بحجة الحماية. إنها قصة مقام الشيخ شيبان أو كما يطلق عليها "سيدي شيبان".
يقع مقام الشيخ شيبان شرقي البيرة وهي منطقة أثرية محاطة بجمال طبيعي بري من حوله بعض الاشجار العملاقة وعدد من عيون الماء الجارية، وتحوي المنطقة القريبة من المقام كذلك بعض الكهوف الأثرية بعضها طبيعي التكوين وأخرى تم حفرها. وقد سميت المنطقة نسبة لأحد أولياء مدينة البيرة الشيخ شيبان. وهناك روايتان عن هوية هذا الولي: الأولى أنه جاء من المغرب العربي مع صلاح الدين الايوبي لفتح القدس واستشهد في إحدى المعارك مع الصليبيين المستوطنين في البيرة والتي كانت خط الدفاع الاول عن مملكة القدس الصليبية، فدفن هناك ونال الولاية بعد موته، فبنى له اهالي البيرة ذلك المقام في الفترة الايوبية. وفي رواية اخرى يقال بأن سيدي شيبان كان شيخاً متصوفاً اعتزل الناس ليهتم بأمور الدين فنال الولاية، فيما بني مقامه في الفترة العثمانية. وبالرغم من عدم معرفتنا لأي من الروايتين هي الأدق، لكننا نعي أهمية المقام وقدسيته لأهالي المنطقة وارتباطهم الوطيد بتاريخ المكان. فعلاقة أهالي البيرة بالمكان ما زالت حية وخاصة في ذاكرة كبار السن منهم واثار الشموع التي أضاءها الزائرون في المقام موجودة حتى اليوم..
يقع المقام والمنطقة المحيطة به في ما يسمى منطقة "جـ" حسب التقسيمات الاحتلالية، وتحيطه من الجهة الشرقية الشوارع الإلتفافية الخاصة بالمستعمرات الإسرائيلية المجاورة والتي أوشكت بزحفها ان تطل على الموقع او تبتلعه. وأصبح هذا الواقع السياسي المؤلم يخيف الكثيرين عامة وأهالي المنطقة والقرى المحيطة خاصة، وذلك لأن خطر مصادرة هذا الموقع من قبل الاحتلال قائم كما يحدث يوميا بمواقع اخرى في الضفة الغربية. فانطلقت لهذا السبب حملة لحماية منطقة سيدي شيبان بدأت بناشطين شباب من مدينة البيرة وضمت جمعية متطوعي البيرة ولاحقا بلدية المدينة وجمعيات أبناء البيرة وجمعيات اخرى. فقامت عدد من المجموعات الشبابية التطوعية في يوم الارض من العام الماضي بزراعة اشجار حرجية واخرى مثمرة في المحيط البعيد عن المقام، وساندتهم بها بلدية البيرة بتقديم المياه لري الاشجار وبأعمال الحفر اللازمة للزراعة. وكان الدافع لهذه الحملة هو الحفاظ على هذه المنطقة الطبيعية الأثرية ذات الأهمية التاريخية والتراثية لمدينة البيرة والمنطقة.
|
|
سيدي شيبان قبل الترميم |
صورة من عام 2012 لمقام سيدي شيبان تظهر فيها شجرة البلوط التي قطعت أثناء عملية الترميم هذا العام |
شجرة المقام تُقطع في يوم الأرض
ويبدو أن هذه الحملة التي بدأت العام الماضي نجحت بمهمتها فوضعت العناية بمنطقة مقام سيدي شيبان على جدول أولويات البلدية. وكذلك اهتمت وزارة السياحة والآثار بالموقع فوضعت الخطط لتحويل المساحة المحيطة بمقام سيدي شيبان، وهي ارض تابعة للأوقاف مساحتها 160 دونماً، إلى متنزه عام. وقد لاقى الموقع اهتمام بلدية البيرة حيث قامت مؤخرا بأعمال بهدف ترميم الموقع وإعادة تأهيل مبنى المقام والمنطقة المحيطة به. وشارك في الفعالية كل من محافظ رام الله والبيرة د. ليلى غنام، ورئيس ديوان الموظفين العام الوزير موسى أبو زيد، ورئيس بلدية البيرة المهندس فوزي عابد وعدد من أعضاء المجلس البلدي، ونظمت الفعاليات بالتعاون مع نوادٍ وجمعيات من المدينة والقرى المجاورة.
وبينما يجمع الكل على أهمية الاهتمام والمحافظة وترميم هذا الموقع الاثري والمنطقة المحيطة وحمايته من المصادرة والسرقة، الا أن عملية الترميم وإعادة التأهيل هذه تمت بطريقة غير منظمة او مخطط لها مسبقاً، فغيرت بذلك معالم المنطقة تغييرا جذريا مما اثار غضب العديد من اهالي المنطقة والمترددين على الموقع. وفي الواقع فان الزائر لموقع مقام سيدي شيبان بعد اشهر قليلة من عملية التأهيل والترميم يأسف لحاله. فكان لشق الشارع الزراعي تأثير مدمر على الطبيعة البرية المحيطة بالموقع٬ وقد تم قطع شجرة بلوط عملاقة كانت محاذية للمقام اثناء أعمال اعادة التأهيل بحجة مرضها وتمت زراعة اشجار زينة في المنطقة المحيطة مباشرة بالمقام، وهي اشجار لا تنتمي بصلة لطبيعة المنطقة البرية تلك. وتغيرت الطبيعة الدينية لمعالم المكان وسُوِّر المقام بسور حديدي واغلق ببوابة حديدية ليبدو كالملك الخاص٬ وكان لإضافة ملعب للأطفال تغييرٌ كبير على طابع المكان والمنطقة البرية، فقللّ من احترام الناس للمكان وزاد من حجم النفايات في المنطقة. أما بالنسبة للطاولات وكراسي البلاستيك فقد تكسرت وملأت قطعها المنطقة. كما ان ترميم المقام نفسه باستخدام المونة الاسمنتية والقصارة الاسمنتية لا يعمل على حماية المبنى، بل بالعكس، فهو سيزيد من الضرر واحتمال حدوث مشاكل انشائية ناجمة عن عدم قدرة المبنى على التنفس والتخلص من الرطوبة المتجمعة في جدرانه.
|
شجرة البلوط المقدسة التابعة لمزار الولي شيبان قطعت وحرقت اثناء عملية الترميم |
ترميم دون تخطيط
في حديث مع الاستاذ جهاد عابد رئيس قسم الاشغال العامة في بلدية البيرة٬ أكد بأن قسم الاشغال العامة قام بمناسبة ذكرى يوم الارض في الثلاثين من آذار لهذا العام بأعمال الترميم وزراعة الاشجار في المنطقة، وذلك بموافقة من رئيس بلدية البيرة وبالتعاون مع جمعية ابناء البيرة، بهدف الحماية من الزحف الاستيطاني ومن أجل حماية المقام نفسه من لصوص الاثار الذين قاموا بهدم جزء من حوائط المبنى.. وفي سؤال عن المشاركة المجتمعية في عملية صنع القرارات الخاصة بعملية الترميم، نفى السيد عابد اعلان بلدية البيرة عن اي خطة للترميم اوعقد اي اجتماع يمكّن المواطنين من الإطلاع على خطة الترميم واعادة التأهيل أو إبداء آراء او اعتراضات. لكن تم الاعلان وحسب عن الفعالية التطوعية لعملية الترميم بوسائل الاعلام المختلفة.
وفي سؤال لمهندس بلدية البيرة المهندس موسى جويد عن المعايير المستخدمة في عملية الترميم للبناء التاريخي وخطة تأهيل المنطقة المحيطة، اكد غياب اي خطة لعملية التأهيل وبأن القرارات التي اتخذت في عملية الترميم كانت اجتهادات شخصية من موظفي البلدية، وبأن الطاولات والكراسي التي زودت بها المنطقة كانت من الفائض في مخزن متنزه البلدية "اسعاد الطفولة". وأكد كذلك الاستاذ جويد بأن التخطيط للقيام بالفعالية تلك، تم على عجالة ليتسنى ربطها بيوم الارض وهذا حالَ دون التخطيط الكافي لها.
وفي حديث مع السيد صالح طوافشة مدير عام حماية الاثار في وزارة السياحة والآثار، أكد على ان وزارته كانت على علم بأعمال الترميم وإعادة التأهيل التي قامت بها بلدية البيرة، وبأنها كانت داعمة للترميم الوقائي للمواقع ولحماية الأراضي المهددة بالاستيطان والمواقع الأثرية الواقعة في مناطق "جـ" لكنه أكد أن الوزارة غير قادرة على ان تقوم بأعمال رسمية او تقديم اي دعم مادي لأعمال الترميم في المناطق "جـ" لأنها خارج نطاق سلطتها بحسب اتفاقية اوسلو والاتفاقات الموقعة مع دولة الاحتلال. واكد السيد طوافشة ان الوزارة تزور المواقع الاثرية الموجودة في مناطق "جـ" لكنها لم تزر موقع سيدي شيبان لتطلع على اعمال الترميم. وفي سؤال عن معايير الترميم التي تتبعها وزارة الآثار أشار السيد طوافشة بأن المعايير المتبعة هي المعايير العالمية لترميم المباني التاريخية لمنظمة اليونسكو٬ وأن لا علم له بالمعاييرالتي استخدمت لترميم مقام سيدي شيبان والمنطقة المحيطة به.
وفي دراسة قامت بها المهندسة رناد شقيرات العاملة في مركز رواق للإعمار الشعبي لتقدير تكاليف ترميم مقام سيدي شيبان، تبين أن تكاليف اعمال الترميم للمقام بالمعايير اللازمة اتباعها للمباني الاثرية تبلغ 2500 دولار امريكي فقط، وذلك يشمل المواد اللازمة للترميم وتكلفة العمل. واكدت المهندسة شقيرات بأن مجموعة من مهندسات ومهندسي مركز رواق مستعدون لتوفير الدعم التقني تطوعا لو طلب منهم ذلك.
|
الطاولات والمقاعد البلاستيكية بعد شهر واحد من التركيب في محيط المقام |
الإرث المهدد بالإنقراض
تتعدى أهمية مقام سيدي شيبان وغيره من المقامات الارتباط بقداسة الشيخ شيبان نفسه او قداسة الموقع٬ فهي تجسد المعرفة عن اقدم عاداتنا ومعتقداتها الاصيلة. فتلك الطقوس والمعرفة المرتبطة بالمقامات والاماكن المقدسة في بلادنا تعود لعهود سبقت الديانات السماوية الثلاثة. كان قد حافظ اجدادنا عليها باهتمام شديد فنجت من كل ما مرت به البلاد من غزوات واحتلالات متلاحقة٬ لكن التغيرات الاجتماعية والسياسية التي حصلت في النصف الأخير من القرن الماضي هي التي اوشكت ان تقضي على هذا الإرث وهذه المعرفة.
وقد قام الطبيب والباحث الفلسطيني الكبير الدكتور توفيق كنعان بتوثيق ما استطاع جمعه من هذه المعرفة الاصيلة المرتبطة بمقامات الأولياء في فلسطين. فتحدث في كتابه "الاولياء والمزارات الاسلامية في فلسطين" عن القدرات والمميزات البشرية للاولياء مثل القدرة على شفاء الامراض٬ وكذلك القدرة على ايقاع العقاب بكل من يسيء للمكان المقدس. ويتحدث الكاتب عن خصائص المزارات والاماكن المقدسة حيث الاشجار تشكل عنصرا هاما جدا لها٬ فعادة ما تكون هناك شجرة ضخمة في المكان المحيط بالمقام وهي احد الدلائل على وجود مكان مقدس. ومن الدلائل الاخرى لقدسية مكان ما وجود عنصر مائي عادة ما يكون عين ماء او عدة عيون. ويذكر د. كنعان بأن اهمية شجرة الولي وعيون الماء المحيطة بالمقام هي بأهمية المقام نفسه في التراث الفلسطيني.فالشجرة وعيون الماء التابعة للمقام كلها تستمد قدسيتها من قدسية الولي. و يضيف د. كنعان ان هناك قوانين مجتمعية توجب العناية بالأشجار المقدسة والعيون كما توجب العناية بالمقام نفسه٬ فلا يجوز قطع الشجرة او حرق أغصان منها، واذا ماتت بمرض او حرقت بصاعقة يجب على أهل البلدة زراعة شجرة جديدة من نفس النوع في موقعها.
والخلاصة هي أن الفلكلور الفلسطيني الاصيل والمعرفة بتاريخ المكان واهميته وقدسيته وقدسية الاشجار والينابيع هي التي تمكنت من حفظ وحماية هذه الطبيعة وهذا الإرث عبر آلاف السنين. وبفضلها نتمكن نحن اليوم من الاستمتاع بجمالها والتعريف بعاداتنا الأصيلة وكيفية معيشة أجدادنا، ونتعلم كيف نعتني بأرضنا لتعتني بنا. وما حل بموقع ومقام سيدي شيبان ليس سببه اهمال في عملية الترميم او عدم التخطيط المسبق لها فحسب، بل خسارة هذا الارث والمعرفة٬ حيث اننا فقدنا القدرة على احترام الطبيعة واتخاذ القرارات التي تحافظ عليها، واعتمدنا بدل من ذلك على القوانين الموضوعة والتنظيم الهرمي لمؤسساتنا لأخذ قرارات غير مبنية على معرفة٬ والتي لا تسمح بعملية اتخاذ قرارات جماعية كما كان يفعل أجدادنا. فباتت بذلك قصة مقام سيدي شيبان مثال صارخ لإرث مهدد بالزوال معتقدين بذلك أننا نحميه.
|
المقاعد البلاستيكية بعضها مكسور بعد شهر واحد من احضارها للموقع |
|
تم تسوير موقع سيدي شيبان وزرع اشجار الزينة في الساحة الجديدة |
|