: منبر البيئة والتنمية
حملة عالمية لتحديد "البصمة الغذائية"... لا تشمل المتحكمين بقواعد التجارة
من يتسبب بهدر 1,3 مليار طن من الطعام كل عام؟
حبيب معلوف / بيروت
يُعدّ تقرير منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) حول هدر ثلث الغذاء العالمي، واثر ذلك على البيئة ومحاربة الجوع والفقر ومعالجة الأزمات الاقتصادية، تقريراً متقدماً ولا شك. إلا أن هذا التقرير الذي استندت اليه المنظمة لإطلاق حملة عالمية تحت عنوان "قلل من بصمتك الغذائية"، بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب)، لم يوظف كفاية وبالشكل الصحيح لإحداث تغيير جوهري في السياسات وفي بنية الاقتصاد العالمي القائم على قواعد تتعلق بالسوق وبحسابات الربح والخسارة، أكثر من أي شيء آخر، سواء أكان بيئياً أم صحياً أم حقوقياً .
تراهن الحملة على "الأفعال البسيطة من قبل المستهلكين وتجار تجزئة الأغذية" لتخفيض كمية هائلة تقدر بـ 1,3 مليار طن من الطعام المفقود أو المهدور سنويا. إلا ان هذا الموضوع، لا يعالج بـ"الافعال البسيطة" ولا بـ"النوايا الحسنة" ولا بـ"كرم الخواطر"، بل كان يحتاج الى تغيير قواعد التجارة العالمية المتحررة من اي قيد، وبحث هذه الإجراءات مع منظمات تستطيع ان تغير هذه القواعد، مثل "منظمة التجارة العالمية"، لا ضمن دوائر الأمم المتحدة نفسها ومع بعضها .
تهدف حملة "قلل من بصمتك الغذائية"، إلى دعم مبادرة «وفر الطعام» الهادفة إلى تخفيض فقدان الطعام وهدره. وتستهدف الحملة بوجه خاص "الطعام المهدور من قبل المستهلكين وتجار التجزئة وقطاع الضيافة". ولكن ماذا عن شركات الإنتاج والتغليف العملاقة التي باتت تمارس نوعا جديدا من "الاستعمار الزراعي"، اي تلك التي تستأجر أراضي زراعية ضخمة في البلدان النامية والفقيرة وتتحكم في الأسواق والأسعار والتي تفضل ان تتلف المنتجات بنفسها وتهدرها بدلاً من ان تخفض أسعارها؟ !
كما لا تميز الدراسة ولا الحملة بين أنواع المأكولات التي تتلف وأثرها وبصمتها الكربونية، مع العلم أن هناك فرقاً كبيراً بين النظام الغذائي في البلدان المتقدمة كالولايات المتحدة الأميركية التي تتكل كثيراً على أكل اللحم كغذاء رئيسي وبلدان نامية كثيرة تعتمد على أكل الحبوب كغذاء رئيسي. مع الإشارة الى أن بصمة اللحوم أكبر بعشرات المرات من بصمة الحبوب، وحجم الهدر فيها من موارد الأرض أكبر بمئات الأضعاف... بالإضافة الى حجم الصيد البحري الجائر الذي تلحظه الدراسة .
تهدف الحملة، بحسب مطلقيها "إلى التعجيل في الإجراءات وتوفير رؤية عالمية ووسيلة لاقتسام المعلومات للعديد من المبادرات المتنوعة التي تجري في مناطق عدة من العالم في الوقت الحاضر ». ولكنها لا تشير إلى أي إجراء قانوني، لا على مستوى عالمي ولا على مستوى وطني، يحمل في طياته إجراءات ومواصفات وعقوبات رادعة او إعفاءات ضريبية لتشجيع الممارسات المستدامة. بالرغم من ذلك يمكن الاستفادة من المعلومات التي شملتها الدراسة ولاسيما حجم الفرق في الهدر بين البلدان المتقدمة وتلك النامية وحجم التفاوت بين "البصمة الغذائية" في البلدان الغنية وتلك الفقيرة .
تؤكد دراسة الفاو التي وضعت على المستوى العالمي، انه يتم فقدان أو هدر حوالي ثلث الطعام الذي يتم إنتاجه والذي تبلغ قيمته حوالي 1 تريليون دولار ضمن أنظمة الإنتاج والاستهلاك وذلك حسب البيانات التي نشرتها منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) نهاية العام الماضي تقريباً. تحصل عملية فقدان الطعام في غالب الأحوال خلال مراحل الإنتاج (جمع المحاصيل والتصنيع والتوزيع)، بينما يتم هدر الطعام في العادة في طرف التجزئة والاستهلاك من السلسلة الغذائية.
يقول أكيم ستينر، نائب الأمين العام للأمم المتحدة والمدير العام لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، بمناسبة اطلاق الحملة: "في عالم يعيش فيه سبعة مليارات نسمة، مع توقع أن يرتفع هذا العدد إلى تسعة مليارات بحلول العام 2050، فإن إهدار الطعام ليس له أي معنى أو تبرير من الناحية الاقتصادية والأخلاقية".
وأضاف قائلاً: "إلى جانب الآثار المتعلقة بالتكلفة، فان جميع الأراضي والمياه والأسمدة والعمالة اللازمة لإنتاج هذا الطعام تتعرّض للهدر، ناهيك عن حدوث انبعاثات غازات البيوت الدفيئة نتيجة تحلّل الطعام في مكبات النفايات ونقل الطعام الذي يتم إلقاؤه في نهاية الأمر. ومن أجل تحقيق رؤية عالم قابل للاستدامة حقاً، فإننا بحاجة إلى إحداث تحولّ في الطريقة التي نقوم فيها بإنتاج واستهلاك الموارد الطبيعية".
في المناسبة نفسها، يحدد جوزيه دا سيلفا، المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة المشكلة بشكل اوضح بقوله: "في المناطق الصناعية يتم إلقاء حوالي نصف مجموع كمية الطعام، أي حوالي 300 مليون طن سنوياً وذلك بسبب قيام المنتجين وتجار التجزئة والمستهلكين بالتخلص من الطعام الصالح للاستهلاك. وتمثل هذه الكمية أكثر من إجمالي صافي إنتاج الطعام لمنطقة جنوب الصحراء في إفريقيا وتكفي لإطعام ما يقارب من 870 مليون جائع في العالم". ويضيف "إننا نستطيع معاً عكس هذه الظاهرة غير المقبولة وتحسين نوعية حياة البشر إذا استطعنا مساعدة منتجي الغذاء على تخفيض الكميات المفقودة من خلال إتباع ممارسات أفضل لجني المحصول والتصنيع والتخزين والنقل واقترن ذلك بتغييرات كبيرة ودائمة في طريقة استهلاك الناس للطعام، فإنه بالإمكان أن يكون لدينا عالم أكثر صحة وخالياً من الجوع".
تأثيرات الريو+20
قيل إن الدافع وراء الحملة «نتائج مؤتمر ريو + 20 الذي عقد نهاية العام 2012 والذي أعطى خلاله رؤساء الدول والحكومات الضوء الأخضر لإطار زمني من 10 سنوات من البرامج الخاصة بالاستهلاك والإنتاج القابل للاستدامة. ويجب أن تمثل عملية تطوير برنامج استهلاك وإنتاج قابل للاستدامة عنصراً حيوياً من عناصر هذا الإطار بالنظر إلى الحاجة إلى المحافظة على قاعدة الإنتاج الغذائي العالمي وتخفيض الآثار البيئية المصاحبة وإطعام السكان البشر الذين يتزايد عددهم». ولكن هذه المهل وهذه التعابير عن «الاستدامة» كانت قد أعطيت منذ عشر سنوات أيضاً في القمة العالمية التي عقدت في جوهانسبورغ العام 2002 ولم يحصل شيء من ذلك. لا بل زادت احوال الفقر وعدد الجياع وزاد التدهور البيئي والهدر في الموارد، باعتراف تقارير منظمات الامم المتحدة نفسها. فما الذي يضمن ان يتغير العالم اذا لم يحصل تغيير جوهري في السياسات الاقتصادية العالمية المسيطرة؟
التفاوت في الهدر
حسب تقارير منظمة الأغذية والزراعة، فإن حوالي 95% من كميات الطعام المفقودة والمهدورة في البلدان النامية تعتبر خسائر غير مقصودة في مراحل مبكرة من سلسلة العرض الغذائي وذلك بسبب القيود المالية والإدارية والفنية في طرق جني المحاصيل ومرافق التخزين والتبريد في ظروف جوية صعبة وفي البنية الأساسية وأنظمة التعبئة والتسويق... إلا ان التقرير لا يتحدث عن استغلال أراضي البلدان النامية من قبل شركات كبرى من البلدان الأكثر نمواً او من البلدان المتقدمة. كما يتحدث عن الفساد في الأنظمة التي تسهل عمليات الاستغلال هذه بالإضافة الى عمليات التهريب التي تتجاوز كل قيود او شروط للزراعة والتصدير والتوضيب... والتي لا يستفيد منها إلا بعض التجار على حساب الطبيعة وحقوق الشعوب .
يرى التقرير النهاية الأخرى من السلسلة الغذائية في العالم المتقدم، أكثر أهمية. فعلى مستوى تصنيع الغذاء والتجزئة في العالم المتقدم، يتم هدر كميات كبيرة من الطعام بسبب الممارسات غير الفعالة ومعايير النوعية التي تؤكد أكثر مما ينبغي على الشكل والارتباك والفوضى حول بطاقات التواريخ وسرعة قيام المستهلكين بإلقاء الطعام القابل للأكل بسبب شراء كميات كبيرة منه ووسائل التخزين غير المناسبة وإعداد وجبات كبيرة من الطعام .
وتتراوح نسبة الهدر لكل فرد لدى المستهلكين بين 95 و115 كلغ في أوروبا وأمريكا الشمالية، بينما المستهلكون في بلدان جنوب الصحراء في أفريقيا وجنوب آسيا وجنوب شرق آسيا يلقون بكمية تتراوح بين 6و11 كلغ في السنة
وحسب برنامج العمل الخاص بتقليل الهدر والمحافظة على الموارد (راب)، فإن العائلة العادية في المملكة المتحدة تستطيع أن توفر 680 جنيهاً استرلينياً (1090 دولاراً أميركياً)، بينما يستطيع قطاع الضيافة في المملكة المتحدة أن يوفر 724 مليون جنيه استرليني (1,2 مليار دولار) سنوياً عن طريق وقف هدر الطعام .
ومن جانب آخر، صرحت الدكتورة ليز جودوين الرئيس التنفيذي لبرنامج العمل الخاص بتقليل الهدر والمحافظة على الموارد قائلة: "في المملكة المتحدة أثبتنا كيف تؤدي عملية معالجة مشكلة هدر الطعام من خلال إشراك المستهلكين والتوصل إلى اتفاقيات جماعية مع تجار التجزئة والشركات المعروفة إلى تقليل الضغوط البيئية والمساعدة في تحقيق تنمية اقتصادية. ومع زيادة عدد السكان ستكون هناك مزيد من الضغوط على الموارد".
خطوات غامضة
يدرس الاتحاد الأوروبي حالياً مشكلة هدر الطعام وقدمت المفوضية الأوروبية دعمها للمبادرة الجديدة ووعدت بخطوات من دون ان توضح ما هي هذه "الخطوات". وقد صرح جانيز بوتوكنيك المفوض الأوروبي للبيئة قائلاً: "لقد وضعنا لأنفسنا في الاتحاد الأوروبي هدفاً وهو تخفيض كمية الهدر من الطعام بنسبة النصف بحلول العام 2020 والتخلص من أماكن دفن الطعام تقريباً بحلول العام 2020. وتخطط المفوضية لتقديم أفكار خلال العام المقبل حول استدامة النظام الغذائي والتي تركز بشكل خاص على ظاهرة هدر الطعام". وأضاف بوتوكنيك: "يؤدي تقليل هدر الطعام إلى زيادة الفعالية في استخدام الأراضي وإلى إدارة أفضل للموارد المائية وإلى استخدام أكثر استدامة لمادة الفوسفور وسيكون لهذا آثار إيجابية على التغيير المناخي". إلا انه لا يقول ما هي الخطوات وكيف يمكن ترجمتها عملياً؟ !
نصائح للمستهلكين
يقدم موقع الحملة على شبكة الانترنت بعض المعلومات والنصائح البسيطة للمستهلكين وتجار التجزئة لوقف هدر الطعام ومنها:
- المحل الأنيق: نظّم الوجبات واستخدم قوائم التسوق وتجنب عمليات الشراء المدفوعة بالغرائز ولا تستسلم للحيل التسويقية التي تجعلك تقوم بشراء كميات طعام أكبر مما تحتاجه.
- اشتر طعاماً مضحكاً: يتم إلقاء كميات كبيرة من الفواكه والخضار وذلك لأن حجمها أو شكلها أو لونها يعتبر "غير مناسب". ومن شأن هذه الفواكه الجيدة تماماً من أسواق المزارعين أو من أماكن أخرى أن يؤدي إلى الاستفادة من الطعام الذي يتم بخلاف ذلك هدره.
- اعرف تواريخ انتهاء الصلاحية: إن "التواريخ المثالية للبيع" تكون في العادة عبارة عن اقتراحات من قبل الشركة الصانعة لضمان الاستفادة من النوعية لأقصى درجة ويمكن استهلاك معظم الأطعمة بشكل مأمون حتى بعد انتهاء فترات الصلاحية هذه. ويعتبر التاريخ الهام هو "الاستخدام قبل تاريخ معين"، حيث أن عليك استهلاك الطعام بحلول ذلك التاريخ أو عليك أن تفحص الطعام إذا استطعت تثليجه.
تشمل الإجراءات الأخرى تجميد الطعام وإتباع الإرشادات الخاصة بالتخزين للمحافظة على الطعام في أفضل حالاته وطلب كميات أقل في المطاعم وتناول ما يبقى من الطعام في وجبات لاحقة، سواء تم إعداد الطعام في المنزل أو في المطعم أو تناول الوجبات السريعة وتحويل مخلفات الطعام إلى سماد والتبرع بالطعام الإضافي للأشخاص والمؤسسات المعنية.
الصراع المائي مع إسرائيل ما بين الإستراتيجي والآني
د. أحمد صافي / غزة
خاص بآفاق البيئة والتنمية
يكتسب الماء موقعاً مهماً في الصراع العربي الإسرائيلي وهذا ليس مستغرباً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار كون الماء حاجة إنسانية واقتصادية أساسية لا يمكن الاستغناء عنها بحال من الأحوال. ليس أدل على هذا الموقع المركزي للمياه من أن أول عملية فدائية فلسطينية كانت تستهدف خط مياه ناقل، يقوم بسحب مياه نهر الأردن إلى إسرائيل في عام 1964 (نفق عيلبون) وكون أحد أسباب حرب العام 1967 هو الخلاف العربي أو تحديدا السوري الإسرائيلي حول مشاريع إسرائيل لتحويل مياه نهر الأردن لأغراض الزراعة في الداخل الإسرائيلي والتي بدأت في العام 1963. سنحاول في هذا المقال تحليل ونقد الإستراتيجيات التي استخدمها الفلسطينيون ممثلين بمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية في إدارة الصراع المائي مع الكيان الصهيوني ما بعد توقيع اتفاقية أوسلو المؤقتة في العام 1993. يعتمد هذا المقال بشكل كبير على البحث العلمي الذي قام به الباحث البريطاني جان سيلبي دارسا لميكانيزمات عمل الهيئة المشتركة للمياه منذ نشأتها في العام 1995 كنتاج لما سمي في حينه اتفاق أوسلو 2 بين منظمة التحرير الفلسطينية ودولة الكيان.

أنشأت الهيئة المشتركة للمياه كإطار مؤسسي ينظم "التعاون" الفلسطيني الإسرائيلي في مجال إدارة الموارد المائية في الضفة الغربية. نلحظ هنا أن إسرائيل أعطيت الحق في الإدارة الحرة لمقدراتها (والجزء الأكبر من مقدراتنا) في داخل دولة الكيان كما أعطي الفلسطينيون الحق في الإدارة الحرة لموارد المياه في قطاع غزة كونها مستنزفة أساسا من ناحية الجودة والكمية. وبذلك فإن الإدارة المشتركة هي للمياه الجوفية الجبلية الفلسطينية في الضفة الغربية فقط. استطاعت إسرائيل عبر هذا التقسيم التحكم بشكل مطلق بمصادر المياه التي هي دولة المنبع upstream) ) لها بالنسبة لأراضي السلطة الفلسطينية وهي مياه نهر الأردن والمياه الجوفية الساحلية الفلسطينية. بل ومنعت الفلسطينيين من الاستفادة ولو بقطرة من هذه المياه على نحو يخالف القوانين والأعراف الدولية التي تنظم العلاقة بين الدول التي تتشارك في مصادر المياه. فالقانون الدولي يحفظ لدول المصب حقهم العادل في المياه وإن تشكلت في دول المنبع. للتوضيح فقط تخيلوا لو أن مصر الشقيقة منعت من استخدام مياه النيل إلا بالقدر الذي تجود به سماؤها كل عام، لضاعت مصر وضاعت حضارتها. وفي نفس الوقت ضمنت إسرائيل لنفسها الحق في إدارة المياه التي تكون الأراضي الفلسطينية هي منبعها في الضفة الغربية والقدس. يتضح مما سبق حجم التغول الإسرائيلي على الحقوق المائية الفلسطينية مستغلة عجز السلطة الفلسطينية سياسيا وضعف المفاوض الفلسطيني قانونيا وتقنيا. بالطبع لا بد من التذكير بأن هذه الاتفاقيات كانت للمرحلة الانتقالية فقط والتي كانت محددة بخمس سنوات ولكنها استمرت لعشرين عاما الآن ومن غير معروف متى ستنتهي. يبدو أن السلطة الفلسطينية كانت متفائلة أكثر من اللازم حول آفاق عملية السلام ولم يخطر ببالها ضرورة الاحتياط لإمكانيات تعطل هذه العملية في حين يبدو أن إسرائيل خططت منذ البداية لجعل ما هو مؤقت دائم، ومن هنا كانت المأساة في موضوع المياه وغيرها فلسطينياً.
لقد أوكلت لهذه الهيئة مهمة التفاوض حول كل المشاريع، التي تشمل تبديل آبار المياه القديمة بجديدة أو تأهيلها أو تطويرها كما تشمل كل مشاريع البنية التحتية المائية وخصوصاً شبكات المياه الأكبر، والتي تتضمن مواسير بقطر أكبر من 2 إنش أو بطول أكبر من 200 متر. لقد ألزمت اتفاقية أوسلو 2 الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي عدم تنفيذ أي مشروع مائي بالمواصفات السابقة دون الحصول على إجماع الطرفين. مما يعني أن لإسرائيل الحق في منع (حق الفيتو) أي مشروع مائي فلسطيني في الضفة الغربية لا تراه مناسباً لمصالحها كما يحق للفلسطينيين نفس الحق فيما يتعلق بالمشاريع المائية في المستوطنات الإسرائيلية. لكن كون السلطة الفلسطينية معتمدة اعتمادا كلياً على الدعم الخارجي خصوصاً الأوروبي في تمويل مشاريعها المائية، هذا الدعم الذي يشترط الموافقة الإسرائيلية دائماً، مقابل الاستقلال الإسرائيلي ماليا وإداريا، ونظراً للخلل الرهيب في موازين القوى العسكرية والسياسية لصالح إسرائيل تحولت هذه الهيئة من هيئة للتعاون إلى هيئة للسيطرة والتحكم الإسرائيلي بشريان حياة الفلسطينيين ومستقبلهم. فبينما لا تستطيع السلطة الفلسطينية عدم الالتزام بقرارات هذه الهيئة أو تجاوز موافقة إسرائيل على أي مشروع بغض النظر عن أهميته لحياة الفلسطينيين، فإن إسرائيل تتعامل مع موافقة الفلسطينيين على أنها اختيارية كونها قادرة على تنفيذ أي مشروع دون دعم الأوروبيين ودون خوف من تدمير الفلسطينيين لهذا المشروع. نتيجة لكل ما سبق فإن الهيئة المشتركة تحولت بمرور الوقت إلى وسيلة ابتزاز مستمرة للفلسطينيين لدرجة أن الفلسطينيين طولبوا بالموافقة على مشاريع مائية في المستوطنات. بل أن الفلسطينيين اضطروا للموافقة على هذه المشاريع طمعاً بالموافقة على مقترحات مشاريعهم المقدمة للهيئة أو لإحساسهم أن رفضهم وموافقتهم لا يحمل معناً كبيراً على أرض الواقع. يؤكد الباحث جان سيلبي صحة هذا الاستنتاج من خلال مقارنة نسب قبول مقترحات المشاريع الفلسطينية والإسرائيلية من قبل الهيئة حيث وجد أن نسبة قبول المقترحات الفلسطينية تدنت إلى 30% ما بين الأعوام 1995-2008 بينما كانت نسبة قبول مقترحات المشاريع الإسرائيلية حولي ال 100% لنفس الفترة. بالتدقيق أكثر في نوعية المشاريع التي رفضها الإسرائيليون، نجد أن إسرائيل قد رفضت كل مشاريع تأهيل الآبار، وحفر وتجهيز آبار جديدة، ومشاريع استبدال آبار بأخرى، في حين أن معظم الموافقات كانت لحفر آبار مراقبة. الأدهى من ذلك أن مقترحات المشاريع الفلسطينية استغرقت ما بين 11-25 شهراً لدراستها من قبل الهيئة، في حين المقترحات الإسرائيلية كانت عادة ما يتم الموافقة عليها في بضعة شهور.
يتضح مما سبق أن الفلسطينيين عند توقيع اتفاق أوسلو 2 مدفوعين ربما بحسن نية ساذج فيما يتعلق بسرعة عبور أوسلو إلى اتفاق سلام نهائي وعادل، وقصر نظر استراتيجي فيما يتعلق بإدارة الصراع المائي مع إسرائيل قبلوا بتحديد حقهم في التصرف الحر بمصادرهم المائية، بل وبتضييع وإن كان مؤقتاً لحقوقهم المائية في حوض نهر الأردن ونظام المياه الجوفية الساحلية، مقابل وعود إسرائيلية ودولية لم وربما لن تتحقق. بل إن الفلسطينيين بموافقتهم على الشروط الإسرائيلية وتأسيس الهيئة قد قبلوا المنطق الإسرائيلي، في أن إسرائيل هي التي تعطي دون مقابل وعلى الفلسطينيين قبول أي شيء يعطيه الإسرائيليون وفي ذلك غبن شديد لمنطق تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حيث أن الفلسطينيين هم من قبلوا الاكتفاء بجزء من حقوقهم دون مقابل إسرائيلي حقيقي. المهم أن هذا التنازل الإستراتيجي قد أسس لمزيد من التنازل فيما بعد، حيث تحول كل مقترح مشروع آني فلسطيني لمزاد للابتزاز الإسرائيلي للفلسطينيين كي يوافقوا على شرعنة حتى المستوطنات التي تأكل ما تبقى من أرضهم مقابل مشاريع لا تتجاوز الحد الأدنى من الاحتياجات المائية الفلسطينية. فيما سبق مثال لكيفية تطويع الإسرائيلي للآني والمرحلي لخدمة الهدف الإستراتيجي في حين يضحي الفلسطينيون بالإستراتيجي من أجل ما هو آني، حالمين ربما بتغيير الأحوال. لكن كل ما سبق يؤكد أن التضحية ولو مؤقتا بالحقوق الإستراتيجية يؤسس حتما لضياع الاستراتيجي والمرحلي معاً.
|