مؤتمر المناخ في الدوحة (COP 18): احتراف الثرثرة دون إنجاز فعلي
|
مؤتمر المناخ العالمي في قطر |
جورج كرزم
مركز العمل التنموي / معا
كثرت في السنوات الأخيرة المؤتمرات الدولية المختصة بالمناخ والتي لم تتوصل إلى اتفاقات حقيقية مؤثرة، سوى التسويف والتأجيل المتكرر للمشاكل المناخية الخطيرة. وقد شكل مؤتمر المناخ العالمي في الدوحة بقطر (أواخر تشرين ثاني وأوائل كانون أول 2012) مثالا حيا انضم إلى سلسلة طويلة من المؤتمرات العالمية خلال العقد الأخير، حيث احترفت الحديث عن التسخين العالمي، دون تسجيل إنجاز فعلي في هذا المجال. وذلك بالرغم مما يتسببه التسخين العالمي من أحوال طقس متطرفة في مختلف أنحاء العالم. ويعد مؤتمر الدوحة مخيبا للآمال بكل المقاييس؛ حيث لم ينجز سوى "تفسير الماء بالماء بعد جهد وعناء" كما يقال. إذ لا تحتاج عملية إصدار وثيقة غير ملزمة وتتميز بالكلام العمومي الذي لا يحمل الدول الصناعية الغربية المسئولية الأساسية في الانبعاثات الغازية، وبالتالي إجبارها على الالتزام بتخفيض الانبعاثات بنسب كمية واضحة تتناسب مع الحقائق العلمية - لا يحتاج الأمر- إلى الإنفاق المالي الهائل على أكثر من خمسة عشر ألف مندوب من نحو مائتي دولة، سافروا من مختلف أنحاء العالم إلى الدوحة مدة أسبوعين، في أسطول من الطائرات والحافلات والمركبات التي أطلقت كميات ضخمة من الغازات الكربونية التي كان يمكن تفادي انبعاثها، لو تم الاتفاق على هذه الوثيقة من خلال البريد الإلكتروني. والأهم من ذلك، لم يساهم المؤتمر في تسهيل عملية تعميم المعلومات العلمية والتكنولوجية الخاصة بالسلع البيئية، وبالتالي، التعهد الغربي، في أي اتفاق مستقبلي، بكسر احتكار المعرفة العلمية والتقنية الخاصة بالمنتجات البيئية، والالتزام بتقديم المعلومات عن التكنولوجيا النظيفة.
تبنى مؤتمر المناخ اتفاقية مرحلية هزيلة، على شاكلة كيوتو 2؛ بحيث تمتد صلاحيتها حتى عام 2020. وفي ذات الوقت، لا تزال الخلافات الأساسية قائمة دون حل بين الدول الغنية والفقيرة حول ماهية وأهداف ومحتوى اتفاقية جديدة لحل أزمة المناخ، يفترض أن يتم التوقيع عليها عام 2015؛ لتصبح نافذة المفعول بحلول عام 2020. وقد توصل المؤتمر إلى رزمة متواضعة جدا من الصفقات أهمها تمديد فترة اتفاقية كيوتو، ونص فضفاض حول زيادة تمويل الدول الفقيرة، من الآن وحتى عام 2020، لمساعدتها على مواجهة ارتفاع حرارة الأرض والتحول نحو مصادر الطاقة الصديقة للكرة الأرضية؛ لكن دون ذكر أي أرقام ملزمة. ولم تنص الوثيقة على ضرورة أن تلتزم الدول التي تعتبر أكبر منتج للانبعاثات الكربونية ولم توقع على اتفاقية كيوتو، بتقليص تصاعدي تدريجي لانبعاثاتها، من الآن وحتى عام 2020، أي العام الذي يفترض أن يشهد تنفيذ اتفاقية مناخ جديدة متوقعة (بدلا من كيوتو 2). ومن بين هذه الدول الصين (أكبر منتج للانبعاثات)، الهند (رابع منتج للانبعاثات)، والولايات المتحدة (ثاني منتج للانبعاثات). مندوب الفلبين، ألقى خطابا عاطفيا، ناشد فيه المؤتمرين بأن يحذروا في مواقفهم، ويتذكروا أكثر من 500 إنسان قتلوا في إعصار التيفون الذي ضرب الفلبين أثناء انعقاد المؤتمر ومحادثاته المتعثرة.
مؤتمر الدوحة جسد تجسيدا واضحا المصالح السياسية المحلية الضيقة للعديد من الدول، وبخاصة الولايات المتحدة التي تعارض بقوة إبرام اتفاقية مناخية عالمية جديدة تفرض أهدافا محددة، بذريعة أنها تؤيد بلورة نظام مرن يترك المجال للدول المختلفة بأن تحدد بنفسها سقف مساهماتها!
البلدان الغنية فشلت في الالتزام بمواعيد لدفع الاموال التي تعهدت بها للدول الفقيرة، كما فشلت في نصب أهداف لكبح انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. وعمليا، لم تحدد سوى لبنان وروسيا البيضاء واوكرانيا وجمهورية الدومنيكان أهدافا جديدة للانبعاثات. أما الولايات المتحدة وكندا واليابان فتتحمل إلى حد كبير مسؤولية فشل مؤتمر الدوحة لأنها رفضت الالتزام بـِ أو التوقيع على زيادة جدية في نسب خفض الانبعاثات الكربونية، فضلا عن رفضها الانضمام إلى كيوتو 2. وفي المقابل، طالبت بعض الدول النامية بتخفيض يصل إلى 40% – 50% حتى عام 2020، وذلك لضمان بقاء معدل زياد حرارة الأرض دون الدرجتين مئويتين، للحؤول دون تحولات متطرفة ومدمرة في النظام المناخي.
الملفان الرئيسيان اللذان عالجهما وزراء ورؤساء أكثر من مائة دولة في الدوحة هما أولا المساعدات المالية لدول الجنوب للتكيف مع التغيرات المناخية والتحول التدريجي إلى الطاقات المتجددة؛ وذلك من خلال ما يعرف بالصندوق الأخضر الذي يعد قناة تمرير الأموال للدول الفقيرة. وثانيا إقرار تمديد الالتزامات ببروتوكول كيوتو لفترة إضافية (ما يعرف بكيوتو 2)، اعتبارا من الأول من كانون ثاني 2013؛ وذلك عملا بما تقرر في مؤتمر المناخ العالمي في دربان بجنوب إفريقيا عام 2011؛ علما أن هذا البروتوكول الذي ينتهي مفعوله في 31 كانون أول 2012 يعد الاداة الوحيدة التي تلزم قانونيا الدول الصناعية بتقليص انبعاثاتها من غازات الدفيئة. ويطلب كيوتو من الدول خفض انبعاثاتها المسببة للاحتباس الحراري بنسبة 5.2% بالمقارنة مع معدلات 1990، وذلك خلال الفترة 2008- 2012. ويعد الاتفاق على تمديد كيوتو شرطا أساسيا لصياغة الإطار العام لاتفاقية عالمية جديدة يفترض إبرامها عام 2015 وتصبح نافذة عام 2020؛ علما أن قمة كوبنهاغن عام 2009 فشلت في التوصل الى اتفاقية أممية بدلا من كيوتو.
ومن بين بؤر النقاش الهامة التي شغلت حيزا في أعمال المؤتمر مسألة "الإنصاف" في توزيع جهود التحكم بسخونة الأرض بين دول الشمال والجنوب؛ علما أن الدول الأخيرة تعتبر، وبحق، أن الدول الأولى تتحمل المسؤولية التاريخية في اختلال التوازن المناخي، وبالتالي يجب أن يتاح لها ممارسة حقها في التنمية.
وفي الواقع، يعد تمديد بروتوكول كيوتو مسألة رمزية لأن الالتزامات بهذا البروتوكول تشمل حاليا الاتحاد الاوروبي واستراليا وسويسرا والنرويج الذين لا يتجاوز مجموع انبعاثاتها 15% من إجمالي غازات الدفيئة العالمية، بينما انسحبت منه كندا وروسيا واليابان ونيوزلندا، بذريعة أن لا معنى من تمديد كيوتو في ظل غياب القيود على الانبعاثات المتزايدة في البلدان الناشئة الكبيرة. أما ما تبقى من الانبعاثات العالمية، أي 85% (ومعظمها من الولايات المتحدة والصين) فستبقى دون أي فعل جدي لمواجهتها حتى العام 2020. وبالرغم من ذلك، تصر الدول النامية على تمديد البروتوكول باعتباره الاتفاقية الأممية الوحيدة التي تلزم دول الشمال بالتصدى للاحتباس الحراري باسم "مسؤولياتها التاريخية" عن تغير المناخ. ويهدف التوقيع على قواعد كيوتو 2، ومن ثم تصديق البرلمانات الوطنية عليه، تفادي أي فراغ قانوني بعد كانون أول 2012. ويُلزم كيوتو نحو 35 دولة متقدمة يجب عليها خفض انبعاثاتها المسببة للاحتباس الحراري. وحتى هذه اللحظة يتمسك الاتحاد الأوروبي بموقفه القاضي تخفيض الانبعاثات بنسبة 20% في الفترة من عام 1990 حتى عام 2020. ومع ذلك، فإن بعض الدول الأوروبية، وبشكل فردي، التزمت طوعا بتخفيض أكبر قد يصل إلى 40% عام 2020، كما حال ألمانيا.
وناقش المؤتمر مسألة إبرام اتفاق عالمي جديد، يفترض إقراره عام 2015، ليدخل حيز التنفيذ عام 2020؛ ويكون ملزما لجميع الدول بمن فيهما الصين والولايات المتحدة أكبر ملوثين في العالم (25% و17% على التوالي)، وهما لم يوقعا أصلا على كيوتو. وقد تشكلت في مؤتمر المناخ بدربان عام 2011 مجموعة عمل وظيفتها التوصل، خلال ثلاث سنوات، إلى توافق حول هذه المسألة، وبخاصة الشكل القانوني للاتفاق.
والحقيقة أن مبادرات الدول المختلفة لتخفيض مستوى انبعاثاتها الغازية لم تحقق اي نتائج ملموسة حتى الآن، سواء من ناحية منع الارتفاع المتوقع لدرجة حرارة الارض واحتوائه في إطار الدرجتين مئويتين اللتين حددهما العلماء قياسا بمستوى ما قبل العالم الصناعي؛ علما أن تجاوز هذا السقف سيخلخل بدرجة عالية النظام المناخي العالمي، وسيؤدي إلى مزيد من الفيضانات وارتفاع مستوى سطح البحار، وموجات الحر والجفاف.
وفي الوقت الذي كانت المفاوضات المناخية الماراثونية والمعقدة جارية في الدوحة، اشارت دراسة أممية جديدة إلى أن سرعة انبعاثات ثاني اكسيد الكربون تضاعفت وتجاوزت 3% سنويا بين 2000 و2011؛ بل إن غازات الاحتباس الحراري سجلت عام 2011 مستوى قياسي جديد. وقد تؤدي هذه الانبعاثات الى ارتفاع في حرارة الكرة الأرضية بأكثر من 5 درجات مئوية حتى عام 2100؛ أي أكثر بثلاث درجات مئوية عن الحد الاقصى (درجتين مئويتين) الذي حدده العلماء قبل ان تبدأ فوضى مناخية. وخلال ذات الفترة، ازدادت الظواهر المناخية المتطرفة مثل الأمطار الغزيرة وموجات الحر، ويقدر الخبراء بـأن هذه الأحداث المناخية ستزداد خلال القرن الحالي.
وبسبب الحرارة المرتفعة، تعاني الزراعة العربية من خسائر كبيرة. ومن المتوقع أن تتواصل الخسائر كلما سجلت درجات الحرارة أرقاما قياسية.
المنطقة العربية على أعتاب تغيرات مناخية متطرفة
في تقريره الخاص الذي نشر خلال مؤتمر المناخ في الدوحة، وتحديدا في 5/12/2012، حذر البنك الدولي من أن استمرار وتيرة الانبعاثات الغازية الحالية سترفع درجات الحرارة في المنطقة العربية بنحو ثلاث درجات مئوية في المتوسط حتى العام 2050. كما ستهبط كثيرا نسبة هطول الامطار، وستصبح الفيضانات الفجائية أكثر انتشارا. وسيتفاقم شح المياه في المنطقة، وخاصة مع ارتفاع عدد السكان، وقد تتلاشى المياه اللازمة لري الاراضي الزراعية، فضلا عن المياه العذبة للشرب. ومع تزايد ارتفاع مستوى سطح البحر ستتملح الاراضي الزراعية وستهبط خصوبة الارض. وبحسب التقرير، سيعاني نحو مئة مليون عربي الأشد فقرا أكثر من غيرهم؛ لأنهم لا يملكون سوى القليل جدا من الموارد التي تساعدهم على التأقلم مع التغير المناخي. وما سيفاقم الخطر أن نصف السكان العرب يعيشون في مناطق ريفية، وتعد نحو 40% من قوة العمل زراعية. لذا؛ يفترض العمل على إدارة فعالة للأراضي الزراعية، وتمويل الأبحاث المتصلة بالزراعات المقاومة للجفاف؛ إضافة إلى إقامة منشآت لمعالجة المياه العادمة.
وفي الحالة الفلسطينية، تحديدا، يضاف إلى ذلك أيضا الوقائع الصارخة على الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967؛ حيث شكل الاحتلال الإسرائيلي ولا يزال يشكل، أخطر عامل مدمر للأرض والبيئة والمناخ.
وتتمثل أبرز الجرائم الإسرائيلية، في الآثار التخريبية الناتجة عن جدار العزل الكولونيالي على مئات آلاف الدونمات من الأراضي الفلسطينية المزروعة والخصبة التي جُرِّفَت ونُهِبَت، فضلا عن تدمير الغطاء الأخضر، واقتلاع وسرقة مئات آلاف أشجار الخروب، والزيتون، واللوزيات، والنخيل، واجتثاث النباتات البرية النادرة، وسرقة التربة السطحية الخصبة، وتهديد التنوع الحيوي، وبعض الأنواع الحيوانية وتهديدها بالإنقراض.
كما نهب الاحتلال الإسرائيلي، ولا يزال، المياه الفلسطينية الجوفية والسطحية، وجفف ويجفف الآبار الجوفية، والينابيع المتدفقة بشكل طبيعي، لصالح مستعمراته في الضفة الغربية وقطاع غزة، وللإسرائيليين داخل "إسرائيل" نفسها، مما أدى، بشكل مباشر، إلى تدمير الزراعة الفلسطينية، وبشكل غير مباشر، إلى تصحر بعض الأراضي الفلسطينية.
ومنذ أواخر عام 2000 (انتفاضة الأقصى)، وصلت عمليات التخريب الإسرائيلية الوحشية للبيئة الفلسطينية، إلى ذروة لم تصلها من قبل، من ناحية تجريف وتدمير واسع للأراضي الزراعية، والمناطق الحرجية، واقتلاع نحو مليوني شجرة مثمرة.
ويقول بعض خبراء الزراعة والغذاء بأن على فلسطينيي الأرض المحتلة عام 1967 الاستعداد، خلال العقدين القادمين، لمواجهة صعوبات جدية محتملة في الحصول على منتجات غذائية حيوية وأساسية. ويشير الأخصائيون إلى ثلاثة عوامل محتملة للنقص الحقيقي أو المفتعل في الغذاء بالعالم؛ ما سيؤدي إلى ارتفاع كبير في أسعار المنتجات الغذائية: التزايد السكاني السريع، التغيرات المناخية التي ستعيق العمل الزراعي، والانكماش المتزايد في الأراضي الزراعية. ومما يثير القلق أن الغذاء الأساسي لغالبية فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة بات مستوردا من الأسواق الإسرائيلية والأجنبية الأخرى. فمعظم الحبوب والقمح والحنطة والذرة والشعير وغيرها يستورد من الخارج.
|
تظاهرة أممية في الدوحة أثناء انعقاد مؤتمر المناخ تطالب بالتحرك الجدي لإنقاد النظام المناخي العالمي ومنح الحقوق الأساسية للعمال المسحوقين في قطر |
مفارقات وتناقضات كثيرة وتهرب من التعهدات
يشكل التئام مؤتمر التغير المناخي في قطر التي تعد أكبر بلد مصدر للغاز المسال في العالم مفارقة كبيرة ؛ علما أن قطر تخاف من أي تحول عالمي نحو الطاقة المتجددة؛ لأن مثل هذا التحول سيخفض الطلب على نفطها وغازها، إضافة إلى منتجات أوبك النفطية. لذا، لم تضع قطر، في محادثات الأمم المتحدة، أهدافا واضحة لخفض انبعاثاتها من غازات الاحتباس. وهي تزعم بأن صادراتها من الغاز الطبيعي المسال تعني بأنها تقوم بدورها في مساعدة الدول الاخرى على التخلي عن استخدام الفحم الاكثر تلويثا للبيئة. وهذا الزعم غير دقيق لأن الغاز المسال أيضا يعد وقوداً أحفوريا، تماما كما النفط والفحم؛ وتعتبر المواد الثلاثة مسؤولة عن ثلثي الانبعاثات العالمية للغازات الكربونية، وبخاصة غاز ثاني أكسيد الكربون. وقد كان واضحا منذ البداية أن قطر لا تتمتع بالقدرة الدبلوماسية والإرادة السياسية للعب دور إيجابي في المفاوضات؛ حيث أن هذه الدولة الخليجية الصغيرة والثرية عملت، خلال تاريخ محادثات المناخ، على عرقلة التوصل إلى التزامات للحد من استعمال الوقود الأحفوري بهدف الحد من ارتفاع حرارة الأرض. بل إن تقرير منظمة الأمم المتحدة لحماية البيئة نشر في أيار الماضي، صنف قطر باعتبارها صاحبة أكبر بصمة كربونية في العالم، قياسا بعدد سكانها (نحو مليون ونصف نسمة)، وصاحبة أعلى مستوى لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري في المنطقة العربية. ليس هذا فقط، بل دأبت قطر على إسكات بعض أصوات الناشطين البيئيين في مؤتمر الدوحة؛ فعملت على ترحيل ناشطين ينتميان إلى مجموعة إندي أكت الناشطة في مجال تغير المناخ إلى خارج قطر، لمجرد دعوتهما الدوحة، عبر لافتة رفعاها في قاعة الاجتماعات الرئيسية، إلى لعب دور قيادي وليس مجرد استضافة المؤتمر.
وفي المحصلة، خيبت قطر آمال نشطاء البيئة ولم تستطع تحقيق انفراج في محادثات المناخ؛ إذ أن مكان عقد المفاوضات لم يحفز البلدان العربية بعامة، والنفطية بخاصة، على طرح إجراءات جديدة طموحة في المسألة المناخية؛ فالأقطار العربية فشلت في الاستفادة من المحادثات الأممية حول المناخ، ولم تقدم أي إجراءات جدية قيمة لمواجهة التغير المناخي فيها. كما لوحظ، أثناء المؤتمر، بأن المجموعات الإقليمية، مثل مجموعة "77+الصين" والمجموعة الإفريقية وغيرهما تعمل وتتحرك بنشاط؛ وفي المقابل، لا وجود لمجموعة عربية في المؤتمر.
ومن جهة أخرى، برز أثناء المؤتمر تهرب العديد من الدول المتقدمة من تعهداتها بمساعدة الدول الفقيرة، وبخاصة تلك المعرضة اكثر من غيرها لعواقب التغير المناخي. إذ تسعى الدول النامية إلى الحصول على تعهدات من الدول الغنية بزيادة مساعداتها المالية في السنوات القادمة؛ كي تتمكن من خفض انبعاثاتها والتكيف مع عواقب التغير المناخي. الدول المتقدمة التي تواجه أزمات اقتصادية وتخفيضات في ميزانياتها الداخلية تقول بأن التزامها الأساسي هو بالتعهدات التي قطعتها على نفسها في قمة كوبنهاغن المناخية عام 2009، وتحديدا تقديم ثلاثين مليار دولار خلال الفترة 2010-2012، أي عشرة مليارات دولار سنويا في اطار برنامج المساعدات العاجلة. وتعهدت أغلب الدول الغربية، وحصراً الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة وسويسرا بمواصلة مساعداتها دون الالتزام بزيادة إضافية للأموال.
ومن ناحيتها، تطالب الدول النامية بمبلغ 60 مليار دولار حتى العام 2015 لضمان تغطية المرحلة الانتقالية (أي 2013-2015) التي تنتهي خلالها المساعدة العاجلة (30 مليار دولار) التي أقرت عام 2009 في قمة كوبنهاغن للفترة 2010-2012، إضافة إلى التعهد الذي أقر في قمم مناخية سابقة بمساعدات قيمتها 100 مليار دولار سنويا حتى العام 2020، لمساعدة الدول الفقيرة والضعيفة على تغطية تكاليف التكيف مع انعكسات التغير المناخي وتخفيف آثاره ورفع كفاءة الطاقة والتحول نحو الطاقة المتجددة. وفي ظروف الأزمات الاقتصادية الغربية يبقى مصدر هذه الأموال، سواء العامة أم من مصادر اخرى، مسألة مفتوحة. ومن بين الاقتراحات القائمة لتوفير دخل للصندوق الأخضر برامج تقليص الانبعاثات من سفن الشحن، أو فرض رسوم ضريبية جديدة على المعاملات المالية. وحاولت بعض الدول الغربية، أثناء مؤتمر الدوحة، القيام بتكتيكات لتحويل الانتباه عن هذا الملف.
وقد تخلل مؤتمر الدوحة محادثات مغلقة من وراء الكواليس. وهذا ما أكدته بعض وسائل الإعلام الآسيوية؛ إذ تحدثت وسائل الإعلام في الهند عن "محادثات خفية تدور في الدوحة".
وقد برز صراع قوة بين ائتلاف الجزر الصغيرة المهددة بارتفاع مستوى البحار (وربما الغرق) والاتحاد الاوروبي الذي يعد اللاعب الأبرز في مفاوضات كيوتو 2، وبخاصة إثر انسحاب روسيا، كندا واليابان.
وتطالب دول كثيرة في الجنوب، وبخاصة ائتلاف الجزر الصغيرة، على ألا تتجاوز فترة الالتزامات الثانية خمس سنوات وليس ثماني كما يرغب الاتحاد الاوروبي؛ وذلك "لتفادي حدوث جمود طويل الأمد في الاهداف الهزيلة أصلا لخفض انبعاث غازات الدفيئة"؛ وتشكل فترة الثماني سنوات المدة التي التزم الاتحاد الأوروبي، في إطار تشريع داخلي، أن يقلص خلالها الانبعاثات بنسبة 20% حتى عام 2020. وفي سياق دعوته الدول الغنية إلى عمل المزيد، تساءل رئيس الوفد الصيني: إذا لم ننجح في الاتفاق على إجراءات فورية، فكيف سنتفق على الإجراءات المستقبلية؟
ومن بين النقاط الساخنة التي ساهمت مسبقا في تشويه النتائج المتوقعة من كيوتو 2، إصرار بعض الدول، وبخاصة في أوروبا الشرقية، مثل بولندا، روسيا، أكرانيا وبلوروسيا، على احتساب ما يعرف بحصص "الهواء الساخن"، أي فائض الانبعاثات المتبقية من فترة الالتزامات الاولى، وهي تطالب بالتالي بمواصلة استغلال هذه الانبعاثات التي تبلغ نحو 13 مليار طن في المرحلة الثانية.
الرأسمال المدمر للمناخ
بالرغم من مطالبة الدول الفقيرة بأن تتعهد الولايات المتحدة بزيادة نسبة تخفيضها لانبعاث غازات الدفيئة حتى العام 2020؛ إلا أن الأخيرة ترفض بقوة هكذا تعهد، وتتمسك بخطة اوباما (عام 2009) لخفض الانبعاثات الامريكية بنسبة 17% مقارنة بمستويات عام 2005 بحلول عام 2020، علما بأن مجلس الشيوخ لم يصادق على هذا الهدف.
وفي الحقيقة، الدوافع الأميركية الأساسية للتفتيش عن بدائل للطاقة النفطية، ليست بيئية تهدف إلى الحد من الانبعاثات الكربونية، بل تجارية-اقتصادية-سياسية بالدرجة الأولى، نابعة من التخوف الأميركي من أي تغيرات أو انقلابات سياسية جذرية تطيح بالأنظمة الخليجية النفطية الحالية الحليفة للولايات المتحدة. لذا، الحسابات الأميركية هي تجارية – سياسية في المقام الأول.
وفي تقريره الذي نشر في الرابع من كانون أول 2012، أثناء مؤتمر الدوحة، كشف المنتدى الدولي للعولمة عن الوجوه الرأسمالية الأميركية التي تقف خلف أزمة المناخ العالمية، وتجعل من الولايات المتحدة أكبر العقبات التي تحول دون تثبيت التزامات دولية متعددة الأطراف لتقليص الانبعاثات الغازية الخطرة المتسببة في تخريب النظام المناخي، علما أن الولايات المتحدة تعد أكبر ملوثي الغلاف الجوي في العالم. وبين التقرير دور أبرز الرأسماليين الأميركيين الذين أسماهم "مليارديرات الكربون"، أمثال الأخوين شارلز ودفيد كوخ- دورهم في شل السياسة المناخية الأميركية التي أوصلت مفاوضات المناخ، في إطار الأمم المتحدة، إلى طريق مسدود. وقد دأب أولئك الرأسماليون الذين يستثمرون أموالا هائلة في الوقود الأحفوري، إلى جانب شركات النفط الضخمة، مثل "إكسون"، على قتل أي احتمال لسن تشريعات أميركية خاصة بالمناخ، من خلال حملات التأثير المكثفة على المشرعين في الكونغرس ومجلس الشيوخ، وتمويل الأبحاث العلمية الهادفة مسبقا إلى إنكار وجود تغير مناخي سببه العنصر البشري، ومهاجمة قوانين الهواء النظيف، ومنع إزالة الدعم على الطاقة الأحفورية، وهجوم منظم ضد حق الوكالة الأميركية لحماية البيئة في تنظيم الانبعاثات الكربونية، ناهيك عن إعاقة عملية وضع معايير أقوى لمنشآت الطاقة الأميركية ونشاطات أخرى تهدف إلى التأثير السلبي على السياسة المناخية. واعتبر المنتدى أن المفاوضين الأميركيين في محادثات المناخ يمثلون رأسماليي شركات النفط، ولا يمثلون الشعب الأميركي.
وفي بيان مشترك، أعلنت ست من أكبر وأبرز المنظمات البيئية والتنموية في العالم (Action Aid, Christian Aid, Friends of the Earth International, Greenpeace, Oxfam وWWF )، بأنه رغم خطورة الأزمة المناخية التي تواجهها شعوب العالم، فقد أمضت الدول الصناعية الغنية أسبوعين في الدوحة؛ لتشطب حتى الحد الأدنى اللازم لإبرام اتفاقية ملزمة لخفض جدي في الانبعاث، وتمويل الإجراءات المناخية الضرورية. واعتبرت بأن هناك فجوة كبيرة بين الكلام والواقع؛ وبالتالي فإن المجتمع المدني لن يتواطأ مع مخرجات الدوحة التي تشكل تهديدا على حياة الملايين.
خلاصة القول، يمكن أن يلعب المجتمع المدني الواسع والمنظمات الجماهيرية والقاعدية في دول الشمال، دورا ضاغطا وفاعلا باتجاه إرغام الحكومات الغربية على إحداث التغييرات الاقتصادية - السياسية والبيئية الجذرية اللازمة لإنقاذ كوكبنا الأرضي والبشرية من الفناء.
|