مجلة الكترونية شهرية تصدر عن مركز العمل التنموي / معا
أيــــــــــــــار 2012 العدد-44
 
Untitled Document  

في مواجهة الانفلات الاستهلاكي الأرعن

ج. ك.
خاص بآفاق البيئة والتنمية

لقد تفشت ثقافة الاستهلاك في مجتمعنا، لدرجة يصعب التحكم بها.  فالعديد من الناس لا يعون كمية الأشياء غير الضرورية في حياتهم؛ فيشترون سلعا معينة بهدف إمتاع ذواتهم في حالة محددة.  وكثيرا ما يشتري الناس سلعا معينة بدوافع انفعالية أو عاطفية؛ وفي المحصلة، يشترون أكثر بكثير مما يحتاجون.  الشراء يكون أحيانا لمجرد وجود تنزيلات، أو لأنني أرغب في أن "أرفه" عن نفسي بسبب اليوم السيئ الذي مررت به.  كم مرة اشترى بعضنا ألبسة ظلت في الخزانة بعد ارتدائها مرة أو مرتين؟  كم مرة اشترى بعضنا لعبة لطفله الغارق في الدمى والألعاب، لمجرد أننا لم نبق معه خلال الأسبوع بما فيه الكفاية؟  ثم لماذا تسوق شركات الأزياء أربع مجموعات في الموسم الواحد، بدلا من مجموعتين كما كان في الماضي؟ 
إذا أردنا حقا الحفاظ على بيئتنا نظيفة، أو التقليل إلى الحد الأدنى من تلوثها؛ فيفترض بنا، بالدرجة الأولى أن نمتنع عن الاستهلاك المفرط غير الضروري والذي يمكننا الاستغناء عنه؛ وأن ندقق فيما إذا كنا نحتاج حقا كل ما نشتريه.  فهل نحتاج شراء قناني مياه الشرب، أو المشروبات الخفيفة؟  ماذا بشأن كمية النفايات الهائلة الناتجة عنها، والتلوث الذي تتسبب به للبيئة أثناء عملية إنتاجها، فضلا عن التلوث الناتج عن نقلها بالشاحنات؟  
وحالياً، نواجه نمطا استهلاكيا عماده مفهوم "استعمله وألق به إلى القمامة"؛ فما كان له قيمة أمس تحول اليوم إلى نفاية.  والمفارقة أننا في الماضي غير البعيد، كنا نعيش في عالم من الموارد الطبيعية الكثيرة والسلع الاستهلاكية القليلة؛ أما اليوم، فأصبحنا نحيا في عصر من الانفلات الاستهلاكي الأرعن القائم على السلع الرخيصة التي تنتجها قوى عاملة رخيصة يتم استغلالها، بل استعبادها، في دول العالم الثالث.  يضاف إلى ذلك، أن الصناعات الضخمة التي تقف خلف منظومة الاستهلاك الرعناء، تقوم بعدد لا نهائي من المناورات التجارية، كي تحول دون ممارستنا خياراً استهلاكيا حكيما؛ بحيث نختار السلعة التي تم الالتزام بمبادئ العدالة الاجتماعية والبيئية أثناء عملية إنتاجها، كما تم تفادي الإضرار الذي لا لزوم له بموارد وقيم الطبيعة.

تغيير الواقع الاستهلاكي البائس
وبهدف تغيير الواقع الاستهلاكي البائس، يجب أن تتحول التربية البيئية إلى مكون عضوي من مكونات الجدل المجتمعي؛ بحيث تتجاوز حدود الحفاظ على البيئة والطبيعة والنظافة وجمع الورق والقناني بهدف تدويرها.  إذ أن المواطنة الصالحة والقضايا الاقتصادية والسياسية والعدالة الاجتماعية والبيئية تعد أموراً أساسية في التربية البيئية، ويشمل ذلك تطوير حس المسؤولية والمشاركة في النظرية والممارسة، بقضايا البيئة والمجتمع والوعي السياسي والحراك الشعبي.
إن موضعة التربية البيئية في الوعي الفلسطيني يعد تحديا جديا؛ وبخاصة أن نقاشات الجمهور الفلسطيني تتمحور بمعظمها حول الأمور السياسية والاقتصادية، بينما يتعامل الكثيرون مع الجدل البيئي باعتباره مسألة نخبوية بعيدة ومغتربة عن الواقع، ولا تتعاطى مع الواقع الحالي المعاش، بل مع عالم أفضل للأجيال القادمة.
والسؤال هو:  هل يجب أن نرضى بهذا الحال؟  هل غلاء المعيشة والوضع السياسي-الأمني يبرران تهميش قضايا هامة مثل ارتفاع نسبة الوفايات بسبب تلوث الهواء والمياه والطعام؟  وهل يعقل ألا نواجه ظواهر مقلقة مثل التلوث الإشعاعي في الضفة وغزة الناتج عن الانتشار العشوائي لأبراج الخلوي؛ أم تلوث الهواء الناتج عن حرق أكوام النفايات التي أصبحت جزءا من المعالم الجغرافية للعديد من القرى والبلدات الفلسطينية؛ أم استباحة الأوساخ الكيماوية التي نتناولها كل يوم لأجسامنا وأجسام أطفالنا؟  ولماذا لا نرفع صوتنا عاليا ضد التسميم المباشر لأطفالنا؟  وهل توجد قضايا أهم وأكثر ملحاحية من أطفالنا؟  هل يعقل أن نتجاوز حقيقة أن المخلفات الكيماوية والطبية الصلبة والسائلة الخطرة تختلط كل يوم مع سائر النفايات العادية في الحاويات والشوارع والمكبات وشبكات المجاري؟  أم هل يمكننا السكوت على حقيقة أن مصانع وورش صناعية فلسطينية تتعاطى مع مواد خطرة وينبعث منها إلى الهواء غازات سامة، دون أن تطبق التكنولوجيات المناسبة لمنع التلوث الذي تتسبب به، وذلك لأسباب اقتصادية؟  من منا يوافق على السكن في منطقة ترتفع فيها نسبة تلوث الهواء لدرجة تشكيله خطرا على صحة الناس؟  المسألة إذن تتعلق بفقر الوعي وعدم الثقة بقدرة الناس على التأثير.
وبالرغم من العلاقة الوطيدة بين المجتمع والبيئة، إلا أن مكانة الجدل البيئي متدنية في حراك الشعب العربي إجمالا.  وهنا يجب ألا ننسى بأن الشرائح الشعبية الضعيفة هي الأكثر تضررا من الانتهاكات والجرائم والكوارث البيئية؛ سواء في مناطق سكنها أم في أماكن عملها.  فهي التي تدفع مرات عديدة، دون ضجيج، ثمن الانفلات الاستهلاكي الأعمى، وهي التي غالبا ما تمتص عواقب التكاليف البيئية التي يحفزها النظام الاقتصادي السائد. 
وفي المقابل، تمتهن الشرائح الاجتماعية الغنية والقوية الترف الاستهلاكي من الوزن الثقيل، وهي التي تتحمل بالتالي أكثر من غيرها مسؤولية تآكل الموارد وزيادة التلوث البيئي؛ كما يسهل عليها أكثر النأي بنفسها عن هذا التلوث، أو ممارسة نفوذها السياسي على الجهات الحكومية لتغيير الوضع لصالحها.

ما العمل؟ 
ما العمل؟  كما الحال في مجالات أخرى، لا بد أن تكون البداية في التربية منذ الطفولة، في الروضات.  فهناك القليل جدا من روضات الأطفال التي أخذت تشجع وتربي الأطفال على التدوير، وجمع الخردة، وتلوينها واستعمالها لأغراض أخرى.  كما أن بعض الروضات، على قلتها، تشجع مراكمة الخبرات التشاركية بدلا من التنافسية، وتعمل على تأصيل وتعميق الارتباط الحسي بالمكان وبقيم الطبيعة، بالإضافة إلى نشاطات كثيرة أخرى.  إن مثل هذا المنهج التربوي المتبع منذ الطفولة، قادر على خلق علاقة صحية متوازنة بين الطفل وبيئته الفيزيائية والإنسانية.  كما أنه يسهم في بلورة مواقف وقيم إيجابية تجاه البيئة، فضلا عن اكتساب المعرفة والوعي الأكبر بالبيئة.
أما الخطوة اللاحقة فتتلخص في ترجمة مواقفنا النظرية الإيجابية إلى سلوك وممارسة.  إذ لا يكفي أن نفهم ونعرف، بل الأهم أن نطبق معرفتنا؛ كأن نكثر من استعمال المواصلات العمومية وبالتالي أن نسهم في التقليل من التلوث الناتج عن مركباتنا الخاصة ونقلل من استهلاك الوقود الأحفوري الذي تتحكم به شركات الاحتلال، وأن نقتصد في استهلاك المياه، وأن لا نستعمل الأدوات المعدة للاستخدام مرة واحدة، وأن نصلح ونعيد استعمال الأشياء بدلا من شراء سلع جديدة.  وهكذا، بالإضافة إلى البعد البيئي، فإننا نقتصد أيضا في أموالنا ونزيد من قدرتنا على مواجهة غلاء المعيشة، ونعزز من نهجنا الاقتصادي والسياسي المقاوم.  ولدى تحولنا إلى هذا النهج البيئي، سرعان ما سندرك أن بيئتنا ليست مجرد أمور "خضراء" و"قيم الطبيعة"، بل هي المجتمع ذاته الذي نعيش في كنفه، والثقافة التي نصوغها ونتحلى بها.
فالتربية البيئية، إذن، عبارة عن تطوير المعرفة والمواقف والقيم الإنسانية والسلوك الصديق للبيئة والنشاط الاجتماعي الهادف إلى بناء مجتمع أفضل.  كل هذه الأمور جديرة بأن تقف في مركز الفعل التربوي.  وهكذا تربية قادرة، بل جديرة بأن تشغل حيزا هاما في الجدل المجتمعي، وأن تشكل جزءا جوهريا من التربية المدنية التي تحفز على التدخل والنشاط وتحمل المسؤولية، والفعل المؤثر نحو تغيير البنى الفاسدة والمتخلفة والمريضة في مجتمعنا.   
إن إدراك العلاقة بين البيئة والمجتمع والسياسة يساعدنا في العمل على تغيير الواقع، وفي أن نناضل، على سبيل المثال، ضد البناء في الأراضي الزراعية أو في الأراضي المفتوحة التي هي ملكيتنا الجماعية؛ وأن نناضل كذلك ضد تلويث هوائنا وضد سائر الانتهاكات البيئية والمعاصي الاجتماعية.

التعليقات

الكثيرون تحدثوا عن النزعات الاستهلاكية...لكن القليلون جدا الذين استطاعوا طرح هذه المسألة بأسلوب علمي تحليلي نقدي شيق ومقنع كما هذا النص...فهنيئا لك يا منهلنا الفكري جورج .

وحيد ديراوي

 

الأسم
البريد الألكتروني
التعليق
 
 

 

 
 
الصفحة الرئيسية | ارشيف المجلة | افاق البيئة والتنمية