تناقلت وسائل الاعلام الغربية خبر شنق رجل من فوكوشيما نفسه وهو في الـ64 من عمره بعد ان عرف ان الملفوف العضوي الطبيعي الذي امضى اكثر من عشر سنوات على تحضير الارض لزراعته، قد ضربته الإشعاعات النووية التي تسربت من مفاعل فوكوشيما.
تؤشر هذه الرواية الى الحالة التي يمكن ان يصل اليها البعض بعد كارثة فوكوشيما ... بالرغم من ان فصولها لم تنته بعد.
فالرجل المتقدم في السن، كان قد شهد اكثر من زلزال في اليابان واعتاد على رؤية الدمار والكوارث والموت... وبالرغم من كل هذه الكوارث لم يلجأ إلى الانتحار. لا بل فكر في تحسين شروط حياته وإطالتها، باعتماده على الزراعة العضوية الخالية من كل اشكال المخصبات والمبيدات الكيميائية المضرة بالبيئة والصحة معا. مما يعني، ان الرجل كان يتقبل الكوارث الطبيعية، بكونها "طبيعية"، ولكنه لم يستطع تقبل الكوارث من صنع الانسان كالطاقة النووية. وربما كان في شبابه من بين المناهضين لاستخدام الطاقة النووية ولم يسمع صوته بالطبع، وقد قرر الانتحار بصوت اعلى بعد الكارثة.
كما تظهر الرواية ان الرجل كان قد تجاوز الخمسين من عمره حين قرر ان يعتمد على الزراعة العضوية التي تحتاج الى فترة طويلة لتحضير الارض وتطهيرها، اي انه كان لا يزال يؤمن بالحياة والصحة وحمايتهما. ولعل الإقدام على الانتحار، كإجراء فوق المنطق، هو اعتراض على شيء فوق العادة، شيء اكبر من الكوارث الطبيعية التي ألفها وتعايش معها. انه بمثابة اعتراض صارخ على منجزات الإنسان ومشاريعه الشرهة وليس على الطبيعة وقدره فيها.
رواية ثانية كتبها احد الصحافيين اليابانيين معلقاً على الناس الذين اصبحوا اقل سرعة بعد الكارثة ! فقد لاحظ أن الناس أصبحوا أكثر صبراً على بعضهم حين يتنقلون على السلالم الكهربائية، بعد ان كانوا معتادين على التدافع ومحاولة التجاوز الدائمة للانتقال بسرعة من مكان الى آخر. وقد لاحظ الكاتب ان اليابانيين قد اصبحوا اكثر صبراً على بعضهم ويتفهمون تعثر الآخرين... ويسألون : "لماذا كل هذه السرعة"؟. فإذ دلّت رواية الرجل المنتحر على حجم الاعتراض الاتي مستقبلا على الطاقة النووية، وعلى تقدم العلم والتكنولوجيا من دون ضوابط، تدل الرواية الثانية على الصدمة التي تركتها الكارثة والتي يفترض ان تؤدي الى مراجعة كل افكار ومكتسبات "التقدم".
فالبلد الذي نُكب بالاستخدام الحربي للطاقة الذرية، عاد وبنى مجده بعد الحرب العالمية الثانية على العمل بسرعة من اجل التقدم والمنافسة في السوق وبناء ثاني اكبر اقتصاد في العالم في سرعة قياسية... ثم عاد ووصل الى الكارثة، وقد ظهر ان كل هذا التقدم، لم يكن الا باتجاه الهاوية!
ألا تستحق هذه الكارثة الجديدة، اذا ما ربطت بتاريخيتها، وبأحداث عالمية كبرى طبعت القرن العشرين وما بعده بطابعها... ألا تستحق الكثير من التأمل والمراجعة من سكان هذه البسيطة كلها (الأقوياء والمسيطرين منهم بالتحديد) المتجهين نحو الانتحار الجماعي من جراء نظام حضاري مسيطر قائم على إنتاجية عالية وخطرة واستهلاك مفرط؟
يقال إن الشدة هي التي تولد الأشداء. وإن الحاجة هي التي تولد الاختراع. والضغط يولد الانفجار. ويمكن ان يضاف الآن، إن الكارثة تولد الثورة والتغيير. الثورة على المستوى الذاتي والفكري أولا.
فالتسرب النووي الياباني، الذي اعتبر اخطر من الزلزال وارتداداته، لا بد ان يعيد الاعتبار الى كل الحركة البيئية في العالم، وليس في اليابان فقط. الحركة البيئية العميقة بالطبع، وليس لتلك المتصالحة مع اقتصاد السوق والمستفيدة منه، المعتاشة والمتعايشة معه. الحركة البيئية المحافظة، التي تدعو الى حفظ الثروات وحسن ادارتها والتعامل معها وليس الى التسابق في استغلالها واستنزافها.
بدأت مؤشرات هذه الكارثة بالظهور فعلا في الكثير من بلدان العالم "المتقدم"، ولا سيما في اوروبا، التي بنت كل "حضارتها" على افكار التقدم والمنافسة والسباق في السوق، وعلى الترويج للحرية الاقتصادية انسجاما مع الافكار الليبرالية والمطالبة بحرية الانسان.
فكما كان "اكتشاف" الفحم الحجري سبباً رئيسياً للثورة الصناعية، ومسبباً رئيسياً بتغير المناخ المهدد بكوارث عظمى غير طبيعية، كان السلاح النووي سبباً رئيسياً في حسم صراع القوميات، وحسم صراع الطبقات، بعد تراجع "الاتحاد السوفياتي" عن السباق في التسلح النووي لعدم تدمير العالم...الخ. لكن الكوارث غير الطبيعية زادت (بدل ان تتراجع) مع سيطرة الليبرالية على العالم، ومع تسخير العلم والتكنولوجيا لاقتصاد السوق ولاستمرار السيطرة.
فهل يمكن التكهن بعد الكارثة اليابانية الأخيرة بقيام ثورة (منتظرة) في التفكير الغربي تجعله يعيد النظر بأسس حضارته "المتفوقة"، القائمة على فكرة إخضاع الطبيعة كمقدمة للتقدم والسيطرة؟
وهل يمكن تفسير ارتفاع اسهم "الخضر" في اوروبا مؤخرا، كبداية، ام هي ردة فعل ظرفية على ما حصل في اليابان، يمكن ان تساهم في تحسين شروط السوق لا تغييرقواعده؟
التعليقات
مجلة افاق البيئة و التنمية
الصفــحة الرئيسيـــة
لماذا آفاق البيئة والتنمية
منبر البيئة والتنمية
الراصد البيئي
مشاهد بيئية
أخبار البيئة والتنمية
أصدقاء البيئة
أريد حلا
مبادرات بيئية
تراثيات بيئية
قراءة في كتاب
سياحة بيئية وأثرية
البيئة والتنمية في صور
أسرة افاق البيئة و التنمية
أعداد سابقة / الارشيف
كُتَابُنا
رسائل القراء
للاشتراك
الاتصال بنا
روابط
دعوة للمساهمة في مجلة آفاق البيئة والتنمية
يتوجه مركز العمل التنموي / معاً إلى جميع المهتمين بقضايا البيئة والتنمية، أفرادا ومؤسسات، أطفالا وأندية بيئية، للمساهمة في الكتابة لهذه المجلة، حول ملف العدد القادم (العولمة...التدهور البيئي...والتغير المناخي.)أو في الزوايا الثابتة (منبر البيئة والتنمية، أخبار البيئة والتنمية، أريد حلا، الراصد البيئي، أصدقاء البيئة، إصدارات بيئية – تنموية، قراءة في كتاب، مبادرات بيئية، تراثيات بيئية، سp,ياحة بيئية وأثرية، البيئة والتنمية في صور، ورسائل القراء). ترسل المواد إلى العنوان المذكور أسفل هذه الصفحة. الحد الزمني الأقصى لإرسال المادة 22 نيسان 2010..
نلفت انتباه قرائنا الأعزاءإلى أنه بإمكان أي كان إعادة نشر أي نص ورد في هذه المجلة، أو الاستشهاد بأي جزء منالمجلة أو نسخه أو إرساله لآخرين، شريطة الالتزام بذكرالمصدر .
توصيــة
هذا الموقع صديق للبيئة ويشجع تقليص إنتاج النفايات، لذا يرجى التفكير قبل طباعة أي من مواد هذه المجلة