مشاهد بيئية
شذرات بيئية وتنموية
عبد الباسط خلف
(1)
شذرية سوداء
لا تكون الشذرات دائما خضراء، فبخلاف الأسلوب السريع الذي يقود صاحبه إلى البوح والكتابة وفق أسلوب مقطعي، أو ما يصطلح عليه بالكتابة الشذرية (fragment ) أو أسلوب النبذة (aphorisme ) لـ فردريك نيتشه، ومن تبعه كـ مارك أوريلسيو وصولاُ إلى بلانشو، ومرورا بـ باسكال وفاليري وغيرهم، قد ننتج في حقل البيئة شذرات قصيرة لكنها توجع القلب، ويطول التأمل فيها.
(2)
ذهب أصفر ومعاملة قاسية
تنتشر في فلسطين أشجار الزيتون في كل ناحية تقريباً، لكن الثروة الوطنية التي ينتظرها أصحابها بفارغ الصبر، تلاقي إهانة في الكثير من المناطق، فيضربها أصحابها بالعصي، ويحطمون أغصانها، وقممها النامية.
يفترض أن يكون الجزاء من جنس العمل، والعصا لمن عصى.
(3)
أبو مكرم وقطعان المستوطنين
أسمه محمد عبد اللطيف عبيد، أو أبو مكرم. يسكن قرية كفر قدوم وتسكنه، يمتلك حقلاً مزروعًا بالزيتون قرب مستعمرة قدوميم سيئة الذكر، له قصة اشتباك يومي مع المستوطنين.
يروي: "يوم يوم بشتبك مع المستوطنين، في الموسم وغير، مرة بيسرقوا الحب، وأحياناً بكسروا الشجر، وقبل أيام سمموا شجر جديد، وحتى المفارش والسلالم سرقوها."
اعتقله جيش الاحتلال عدة مرات، وصار يعرف خصومه بدقه، لكنه يصر على المواجهة والبقاء، فيصمد مع زوجته وبناته الأربع ونجله مكرم في زراعة الأرض وقطافها والمحافظة عليها.
يقول: "للأسف ما في حدا واقف بجنبي، وفي كل يوم أقترح على أهل بلدنا التوجه إلى الأرض بشكل جماعي وفلاحتها وحمايتها من المستوطنين، دون جدوى"
اتصل أبو مكرم بمركز المعلومات لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة "بتسيلم"، وبأعضاء المجلس التشريعي، ومحافظ قلقيلية، وممثلي وسائل الإعلام للمساندة وتقديم الشكوى ضد المستوطنين، لكن الاستجابة لم تكن عالية. ويبدي قدراً من السعادة لوجود حملة تطوع وعونة من جانب وزارة الإعلام للمزارعين.
يقدم نقدا للمؤسسات الوطنية، ويقول: "بشوف المستوطنين مع أعضاء كنيست متطرفين في أرضي، لكنني أشعر بالوحدة. وفي آخر مرة اتصلت بالارتباط العسكري واشتكيت على المستوطنين بعد ما سرقوا لي 14 كيس زيتون، جابوا كيس واحد."
يختتم: سأبقى مثل الشوكة في حلقهم، وعليهم هم أن يفكروا بالرحيل وليس أنا، لأنها أرض جد جد جدي، ومش أرض جلعاد (أحد المستوطنين الذين يشتبك معهم عبيد كل يوم تقريباً).
من يحمي شجرة السماء؟
(4)
وأد البقية
وسط جنين، كانت تصمد بقايا بساتين مرج ابن عامر. منذ حفنة من الأيام، بدأت عمليات "وأد" ما تبقى. كانت مساحة يمكن أن تكون رئة خضراء لمن يرغب أن يفرّ من العمران، أو يرغب في استذكار سوء التخطيط، والتدمير المنظم.
ليتنا نكف عن هذا العبث الأسود.
(5)
من يُراقب أبراج الخليوي؟
أحاور مدير دائرة الإشعاع في سلطة جودة البيئة د. عدنان جودة، أستمع منه إلى كلام خطير حول عمل "جودة البيئة"، ويصف لي قضية الأبراج بفائقة الحساسية في دول العالم كلها؛ وذلك لأنه ولحد الآن لم يحسم العلم موضوع الأبراج، وهل تؤثر أو لا تؤثر على المواطنين؛ كون القضية شائكة علميًا وتدخل بها الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا وهندسة الاتصالات والكهرباء، وحسم الأمر، مسألة صعبة لتعدد جوانبه.
يؤكد جودة أن من حق المواطن الحرص على صحته وسلامته والمطالبة بالعيش في بيئة نظيفة، ومن حقه الخوف من مسألة الأبراج، والتأكد من أن الجهات المعنية في الدولة التي يعيش فيها تقوم بعملها على أكمل وجه، وتُراقب الأبراج، ومن حقه التأكد من أن صحته لا تتأثر من محطات الأبراج الخلوية.
يقول: "الأصل أن تكون الجهات المعنية في الدولة تسير بموجب قوانين وأنظمة، وتحرص على صحة المواطن، لكن مع الأسف نجد أن هذا الوضع لا يكون بهذه الصورة دائماً".
يؤكد المهندس جودة، أن عمل سلطة جودة البيئة تغير بخصوص الأبراج، فمنذ سنة لم تقم السلطة بأي عمل أو قياس أو إجراء أو متابعة أو توعية للأبراج.
ويضيف: منذ سنة حدثت تغيرات داخل المؤسسة، ولم يتم إجراء قياس واحد، ولم تجر متابعة أي برج.
يفيد: "لا يوجد لدى سلطة جودة البيئة أي جهاز قياس، وفي السابق، طلبنا من شركة" جوال" توفير جهاز لقياس الإشعاع وفق مواصفات معينة، وكان القياس يتم بحضور الشركة، ولكن مُعايرة الجهاز انتهت منذ سنة".
يقول جودة: " طلبنا منذ سنوات توفير جهاز خاص بالمؤسسة، ولغاية الآن لم يتم إحضار الجهاز، وثمنه لا يتجاوز ثلاثة آلاف دولار! "
يوضّح، أن سلطة البيئة هي الجهة الوحيدة المُخولة قانونياً لإجراء القياسات للإشعاعات التي تصدر عن الأبراج، ولكن في ظل تداخل الصلاحيات في المؤسسات، صارت هناك جهات أخرى تدعي هذا الحق، ولا نعرف ما تقوم به هذه المؤسسات، ولا علاقة لنا مع هذه الجهات.
يفيد: "تغيرت سلطة جودة البيئة من الداخل للأسوأ، وكانت السنة الأخيرة سلبية للغاية في عملنا، وما يُقدم لنا من شركات الاتصالات الخلوية نمنحه الموافقة بدون أي رقابة كشف وإجراء( ختم على بياض)، ولا ضمان على صحة عمل الشركات ومعاييرها الصحيحة إلا حسن النوايا!".
يضيف أنه في السنة الأخيرة حدثت فجوة كبيرة في عملنا، وانقطعنا عن متابعة الأبراج، ولم تعد تصلنا شكاوى (ولا أعرف إذا كانت تصل مؤسستنا أم لا، وأين تذهب، وهل يُرد عليها؟)، ولم نعد نعرف حتى عدد الأبراج، ولم نتابعها.
يقول: "يهمنا الالتزام بمعاييرنا المهنية بشأن إقامة الأبراج، وكنا نراقب عليها، لكن في السنة الأخيرة لا علم لدينا بتطبيق معاييرنا، وصارت المعايير حبراً على ورق، وموضوعة على الرفوف".
أصاب بالرعب من كلام د. جودة، وأنشر مقابلة طويلة معه، لكنني لم أستمع إلى ردود فعل ترقى إلى حجم المشكلة.
(6)
تطبيع!
خلال وجودي في كفر قدوم، استمع من مزارعي القرية عن قصة غريبة وأمر عسكري جديد لمصادرة أحد عشر دونما منها. يخرج رئيس المجلس القروي والمتضررين من "غول" الاستيطان، لمعاينة المنطقة، يشاهدهم عمال من أبناء جلدتنا يبنون في المستعمرة، وحينما يشاهد هؤلاء أهالي القرية يتفقدون أرضهم برفقة الارتباط العسكري، يصرخ عامل بناء فلسطيني في المستعمرة: "شوفوا شوفوا التطبيع، بحكوا مع اليهود!"
(7)
أُميّون
أجمع لشأن صحافي ثقافي، آراءً حول القراءة ومكانتها. أصاب بالذهول، كون أربعة من أفراد عينتي الخمسة عشر (وهم من الشباب) قالوا بأنهم لا يعرفون القراءة والكتابة. كيف يمكن الحديث عن أي مشروع تنموي دون شن حرب على الأمية؟
(8)
غبار
لا أدري متى سنكف عن إنتاج الغبار في بلادنا. صرت أظن أن قسما كبيراً منا لا يستطيع العيش بدون تلويث البيئة وتدميرها.
أقرر إجراء بحث تطبيقي قصير عن الغبار وتأثيراته النفسية والبيئة والصحية على مجموعة من الأطفال أشاهدهم كل يوم يغرقون في الغبار، خلال رحلتهم غير اللطيفة إلى المدرسة.
(9)
سؤال
أفتش عن إجابة تتصل بالخسائر التي سنُصاب بها، لو أعلنا عام 2011 عاماً نظيفاً من المؤتمرات وورش العمل والندوات الزائدة عن الحاجة. أظن أننا سنوفر أطناناً من الورق، الوجبات السريعة، أجور الفنادق، الإعلانات، تذاكر السفر، وغيرها.
بالمناسبة، هل هناك جهة تقيس أثر المؤتمرات علينا؟ وكم هو عدد الندوات والمؤتمرات التي خرجت بتوصيات جرى تطبيقها بالفعل، أو بلجان عمل ومتابعة ميدانية حققت إنجازاً؟
aabdkh@yahoo.com
|