عبد الباسط خلف:
يقول علم المناخ: إن فصل الربيع يبدأ في 21 آذار من كل عام. غير أن هذا التقسيم لأمزجة السنة واعتدالاتها، يعيش في محنة "تطرف" هذا الموسم. وبخلاف الأمل الذي كان حاضراً مطلع 2013، بمطره الغزير، تبدلت الصورة، وتسللت الأحزان إلى مكوناتها.
شباط مر جافاً، ولم يذبحنا سعده فيه بالبرد والمطر، وحرمنا من سعوده وبلعه أيضاً. وتمنيت لو أن اليافطة التي رفعها أنصار الثورة الإيرانية ترحابا بالإمام الخميني، ومفادها" وسط الشتاء جاء الربيع"، تندرج على حالنا المناخي دوما.
لا زلت أفتش عن سر ضعفي أمام الربيع، وقلقي عليه، منذ الطفولة، لدرجة أنني كنت أتألم حين كان يهم والدي بحراثة الأرض للخلاص من حشائشها. ربما مزجت قلقي بأن السجادة الخضراء الطبيعية، بألوانها: الخضراء، والحمراء، والصفراء، والزرقاء، والبنفسجية، والبيضاء، تموت قبل أن تأخذ حقها في الحياة الحرة، وتنشر عبقها في الأجواء، ونتعلم منها الاختلاف والتنوع والعطاء.
من التجربة، وخلال فترات الطفولة مطلع العام 1980، وبعده بسنوات، كنت أجد في الطبيعة متنفساً، وحين يأتي الربيع، كان الفرح يأسرني، وإذا ما تلاشى زهر اللوز، أو تراجع بهاء شقائق النعمان، أو بدأت أزهار البسباس بالجفاف، أو شاخت أعشاب الأرض، أو هرمت السوسنة السوداء، أو صار الأقحوان أثراً بعد عين أشعر بغصة.
وفي اللحظة التي كنت أشاهد فيها الفلاح يحرث أرضه، لم أكن أميز الخط الفاصل بين حب الطبيعة والوقع رهينة لزهرها وأفقها الملون وعطرها، وحاجة المزارع لخدمتها، ورعاية أشجارها.
كنت أذهب إلى دفتر يومياتي الأزرق، أكتب بارتجال وعفوية وبراءة عن ألمي لإتلاف الربيع، أو لاقتراب دنو أجله. رحت أنثر الأماني، أن يدوم بهاء هذا المشهد، وأن يبقى زهر الربيع في شبابه، بعيداً عن الاحتضار، مع أن دورة الحياة تتجدد، ويأتي الربيع ثم يرحل ليعود من جديد؛ لنتعلم الدروس.
|
شهدت فصول الربيع الفلسطينية في السنوات الأخيرة تآكلا ملحوظا في التنوع الزهري |
وعلى ضفاف المدرسة ومقاعدها، وحينما حفظنا أشعار الغزل لأبن الدمينة، التي قال فيها:
سَلِي البانَةَ الغَنّاءَ بالأَجْرَعِ الذي به البانُ هل حَيَّيْتُ أَطلالَ دارِكِ
وهَلْ قُمْتُ في أطلالِهِنَّ عَشيَّةً مَقامَ أَخِي البَأْساءِ واختَرتُ ذلِكِ
أرى الناسَ يرْجُونَ الرَّبيعَ وإنَّما رَبيعي الذي أرجو نوالُ وصالِكِ
كنت أستغرب مقايضة الشاعر بين حب ربيع وامرأة؛ لأن الأول يتجدد ويدوم ولا يمكن أن نغضب منه، أما البشر فأمزجتهم تُتلف أحياناً حتى بالعلاقات العاطفية، وقد تنتهي بالانفصال وجرعات الألم، من غير رجعة.
وعندما حفظت عن ظهر قلب شعر أبي تمام في مدح الخليفة العباسي:
أربيعنا في تسعَ عشرة حجة حَقّاً لَهِنَّكَ لَلرَّبيعُ الأزْهَرُ
أسعدني ذلك التشبيه، في ظل ملوك ورؤساء يجلبون لنا القحط والفقر.
ولا أجد حرجاً في نقد اصطلاح "الربيع العربي"، الذي لم يزهر حرية بعد، واختلط حابله بنابله.
هذا العام أيضاً أشعر بحزن وحسرة يومية، كل يوم أترقب النشرات الجوية وتوقعات الطقس، أكاد أعترف أنني أسقط الأماني والرغبات، حين أجد واحداً من بين العشرين موقعًا أو أكثر التي التصق بها، يتحدث عن فرصة ولو ضئيلة للمطر، وأقول لنفسي: لعلهم يُعدّلون النشرة والتوقع، ونرى قوس قزح من جديد، أو نسمع هزيم الرعد، ونشم رائحة الأرض التي تكتوي ألماً بغياب عاشقها الأكبر.
للأسف والحسرة، صمتت سماء شباط "الخباّط"، وتحالفت معها العشرية الأُولى من آذار"أبو الزلازل والأمطار"، حتى( لحظة إعداد النص) وبدأ الربيع يتبخر، وصار شاحب الوجه، منهك القوى، ضعيف البنية. أخاله كطفل يتلوى جوعاً، أو كمن فقد عزيزاً.
وعندما أرى الغيوم، أُصاب بنوبة سعادة، ولا أغادر النافذة، أراقب حركتها، ولكنها تتبخر مع رحيلها دون مطر ينقذ الربيع المتهالك.
أخشى أن تصّفر قبل الأوان، أو تموت.
كم أنت قصير يا ساكن القلب، وساحر العين والروح.
وكم صرت أكره السماء الزرقاء في غير موعدها.
وأكن العداء للشمس الوقحة التي تسطو على الأقحوان.
وأغضب لعطش الحنون.
وأحزن لحمى قرن الغزال.
ولا أستطيع سد ظمأ اللوف.
وأعجز عن ري السوسنة السوداء.
امنحنا يا رب بعض المطر، لترد الروح إلى عزيزنا، قليلاً، فلم نره بعد، ليُحلي مرارة عيشنا، وجفاف أيامنا، ويصبغنا بالفرح الغامر، ونتحرر من الجفاف بعض الوقت.
aabdkh@yahoo.com
|