12% من العاملين في لندن يصلون أماكن عملهم بسياراتهم الخاصة و81% يستخدمون المواصلات العمومية
آن الأوان لاتخاذ قرار استراتيجي شجاع بإهمال السيارات الخاصة والتركيز بقوة على المواصلات العمومية
كلما ازداد عدد الناس الذين يستخدمون المواصلات العمومية كلما قلت تبعيتنا للوقود من الاحتلال
ج. ك.
آفاق البيئة والتنمية
شح المساحات المخصصة للبناء، الازدحامات المرورية الخانقة في جميع المدن الفلسطينية، أسعار الوقود المتفاقمة والأزمة المالية الحكومية اللانهائية، يفترض أن تدفع الجهات الرسمية والحكومية إلى التخلي عن سياسة تشجيع الناس على استعمال المركبات الخاصة، وبخاصة السيارات الفارهة؛ لصالح تحفيز حقيقي للمواصلات العمومية. إنها اللحظة الحرجة التي تستطيع فيها حكومتا رام الله وغزة الإعلان عن تحول شامل ونوعي في قطاع المواصلات.
والحقيقة أن إدمان الفلسطينيين على السيارات الخاصة بلغ حدا لا يطاق. بل إن العديد من الناس المنتمين إلى الشرائح الاجتماعية الوسطى والعليا، حققوا، خلال العقود الأخيرة، حلمهم "الأميركي" المتمثل في بناء "فيلا" بضواحي المدن الفلسطينية؛ إلى جانب سيارتين عائليتين أو أكثر في موقف سيارات المنزل الفخم. إنه الحلم الاستهلاكي الاستعراضي المكلف، اقتصاديا وصحيا، والملوث بيئيا، والخطر، بل والمميت من ناحية هول الخسائر البشرية التي نلمسها يوميا في الشوارع.
والمفارقة، أن الضفة الغربية وقطاع غزة (وسنؤجل الحديث هنا، مرحليا، عن فلسطين التاريخية المحتلة) لا تتمتعان بمساحات الأراضي الشاسعة كما في أستراليا أو كندا أو كاليفورنيا، كما أننا لا نملك صناعة سيارات؛ بل ما هو متاح لنا مجرد رقع صغيرة من الأراضي المعزولة عن بعضها البعض، كثيفة السكان والمحاصرة بالمستعمرات والقواعد العسكرية والجدار الكولونيالي. لذا، يفترض، منطقيا، بفلسفة وسياسة قطاع المواصلات، أن تعكسا هذا الواقع. ويجب ألا ننسى، بأن الوظيفة الأساسية لنظام المواصلات أصلا هي نقل الناس من نقطة معينة إلى نقطة أخرى، بسرعة وكفاءة معقولتين.
لكننا نجد أن نظام المواصلات الحالي ومعظم الموارد المستثمرة به، يعملان على مجرد نقل علب معدنية من نقطة إلى أخرى؛ وهذا لا ينفذ بالسرعة والكفاءة المطلوبين؛ إذ أن نظام المواصلات الفلسطيني المعطوب مكلف جدا، من ناحية التلويث الكبير للهواء، شق الشوارع والطرقات، إنشاء مواقف السيارات التحت أرضية، حوادث طرق يومية، تبذير الوقت، تكلفة وقود مرتفعة وغير ذلك. فالسيارة التي يفترض بها خدمتنا، تحولت إلى عبء لا يطاق.
لذا، آن الأوان لاتخاذ قرار استراتيجي واضح وشجاع، بإهمال وتهميش الاهتمام بالسيارات الخاصة، والتركيز بقوة على تشجيع المواصلات العمومية، وبخاصة الحافلات.
وبطبيعة الحال، لا يعد مثل هذا التغيير سهلا، وهو لن يحدث بين ليلة وضحاها؛ لما يترتب عليه من خسائر في مداخيل الحكومة من ضريبة الشراء، فضلا عن البنى التحتية غير المناسبة، والعديد من المواطنين الذين لا يؤمنون بنظام المواصلات العمومية.
لكن، وكما أننا طورنا آليات للتكيف مع سياسة التعطيش التي يمارسها الاحتلال ضدنا منذ سنوات طويلة؛ والمتمثلة بالشح المصطنع للمياه، والانقطاعات المتواصلة والطويلة لمياه الشرب، وبخاصة في أشهر الصيف؛ بل إن أهالي غزة كيفوا أنفسهم، منذ زمن، للتعامل مع الانقطاعات المتواصلة والطويلة للتيار الكهربائي بسبب الحصار التجويعي المفروض صهيونيا وعربيا عليهم- فكما كل ذلك، نستطيع أيضا التعامل مع هدف وطني استراتيجي، يرنو إلى إحداث تغيير جذري في أنماطنا السلوكية المتعلقة بالمواصلات، سواء في المستوى الشعبي أو مستوى متخذي القرارات. ومن الواضح أنه، كلما ازداد عدد الناس الذين يستخدمون المواصلات العمومية، كلما قلت تبعيتنا لاستيراد الوقود من الاحتلال أو مصادر خارجية أخرى تتحكم في أسعار الوقود وكمياته وكيفية توزيعه.
محفزات تشجع على تقليل استعمال المركبات
وفي هذا المقام، من المفيد التعلم من تجارب العديد من مدن العالم التي أحرزت تخفيضاً كبيراً في مدى استعمال السيارات الخاصة؛ وذلك من خلال استخدام وسائل بسيطة ورخيصة بشكل مدهش؛ مثل تخصيص مسارب خاصة للمواصلات العامة، ونظام معلوماتي مريح وفعال للمسافرين، وتخطيط سليم وعملي لخطوط المواصلات، وغير ذلك.
يضاف إلى ذلك بعض الوسائل الأخرى؛ مثل تشجيع العمل من المنزل، وسفر الموظفين والعمال والطلاب بالمشاركة، مما يضمن انخفاضا إضافيا في مدى استعمال السيارات الخاصة.
لقد آن الأوان كي نتحرر من "العبودية" لسياراتنا الخاصة، تلك "العبودية" التي يمتد عمرها إلى عشرات السنين. إذن، بإمكاننا تقليل تبعيتنا المبالغ بها للسيارة الخاصة، وزيادة اعتمادنا على البدائل الأكثر صداقة للإنسان والبيئة.
إن أعدادا كبيرة من العاملين والموظفين يصلون إلى أماكن عملهم بسياراتهم الخاصة، والقلة هي التي تستخدم المواصلات العامة، بل الأقل منها أيضا من تستخدم أرجلها للمشي. وللمقارنة، فإن 12% فقط من العاملين في لندن يصلون إلى أماكن عملهم بسياراتهم الخاصة، بينما يستخدم 81% منهم المواصلات العمومية.
بالطبع، يتطلب تحفيز الناس على استعمال المواصلات العامة، العمل على إشاعة استعمال الحافلات والمركبات العمومية داخل وبين المدن والبلدات، وبأسعار شعبية، فضلا عن توفير البنية التحتية المناسبة من شوارع وطرقات ومحطات خاصة للمركبات العمومية.
وفي غياب البنية التحتية المناسبة، ووجود مواصلات عامة غير فعالة، من السهولة بمكان اتهام الجهات الرسمية المعنية والحكومة بالتقصير والإهمال. لكن، ليس بالضرورة أن ننتظر تغير البلد حتى نبدأ بتغيير عاداتنا. بل يمكننا البدء، على مستوى أماكن العمل والمؤسسات والشركات، بخطوات عملية سهلة، تهدف إلى التقليل كثيرا من استخدام السيارات الخاصة والعامة التي تشكل سببا أساسيا في التشوهات الحاصلة في البنية التحتية للمواصلات. وذلك، من خلال توفير محفزات تشجع على تقليل استعمال المركبات، وبالتالي التوفير في استهلاك الوقود. ومن المفيد، في هذا السياق، التعلم من تجارب بعض الشركات الأجنبية التي درجت على تخصيص سقف محدد شهري من الكيلومترات لكل موظف (بما في ذلك استخدام سيارته الخاصة أثناء العمل). وفي نهاية الشهر يتسلم الأخير تقريرا يفصل كيفية استعماله السيارة، وبالتالي تتم محاسبته ماليا. ففي حال سافر الموظف أقل من السقف المخصص له، يتم تحويل المبلغ الفائض إلى حسابه البنكي. أما إذا كان استخدامه للسيارة أكثر من السقف المخصص، فيتم عندئذ خصم القيمة المالية الزائدة من راتبه الشهري. وقد أثرت هذه الطريقة، بشكل مثير للإعجاب، على عادات السياقة لدى العمال والموظفين. بل إن بعض الشركات، مثل شركة "فورد" البلجيكية، التي طبقت بنجاح هذه الطريقة الهادفة إلى تغيير الأنماط السلوكية المتصلة بالمواصلات، تمكنت من تقليص عدد الموظفين الذين يصلون إلى مكان عملهم بسياراتهم الخاصة إلى 27.8% من إجمالي 12 ألف موظف في الشركة.
وفي الحالة الفلسطينية، بالإضافة للبعد البيئي والصحي، هناك أيضا البعد الاقتصادي الوطني؛ إذ من الضروري تخفيض استهلاك وقود السيارات، والذي يتم شراؤه من إسرائيل (البنزين والسولار وغيرهما). وذلك باستعمالنا للدراجات الهوائية (بدلا من السيارات) في الجزء الأعظم من التنقلات القصيرة. كما أن المشي يعتبر خيارا آخر للتوفير في استخدام الوقود، بالإضافة للشعور الفعلي بالاعتماد على الذات، والناتج عن اعتمادنا على طاقتنا الجسمية الخاصة.
أخيرا نقول، إن عصر الأزمة الاقتصادية والمالية المزمنة التي نمر بها، يعد فترة مناسبة جدا للبدء في تغيير أنماطنا السلوكية المتعلقة بالمواصلات؛ إذ في أوقات البحبوحة الاقتصادية، يصعب إقناع المؤسسات والمنظمات والشركات بأن تسلك هذا الطريق البيئي - الصحي والاقتصادي. بينما، في هذه الأيام الصعبة معيشيا واقتصاديا، من الواضح أن هناك حاجة ملحة لأن يقتصد الجميع في استهلاك الوقود وفي النفقات المرافقة، بما في ذلك النفقات المتصلة باهتلاك السيارة وصيانتها وترخيصها وتأمينها واستخدام مواقف السيارات. وذلك أفضل بكثير من اضطرار المؤسسات والشركات تسريح بعض عامليها لأسباب مالية.
|