كيف نفكر بالاقتصاد ونمارسه خارج الصندوق بعيدا عن المفاهيم التي ثبت فشلها؟
الاستراتيجية الانتاجية المقاومة تدعم المزارع الصغير وتمنحه استقلالية أكبر عن إملاءات السوق
|
النمو الاقتصادي بالمفهوم التقليدي يعتمد على الإنتاج بواسطة النفط ومشتقاته |
ج. ك.
خاص بآفاق البيئة والتنمية
ازداد في الآونة الأخيرة، عدد الشركات والمنشآت الفلسطينية التي أغلقت أبوابها، كما تعاني حاليا العديد من المشاريع الإنتاجية من مشاكل اقتصادية تهدد استمرارية وجودها. ولو عالجنا أوضاع هذه الوحدات الاقتصادية، والبنية الاقتصادية الفلسطينية بشكل عام، من منظور اقتصادي تقليدي، نجد بأن التعامل معها يكون من منطلق ما يعرف بالنمو الاقتصادي. إذ أن مبدئين أساسيين لا يزال يستند عليهما العديد من المنتجين وأصحاب الصناعات الكبيرة والصغيرة على حد سواء، وهما: كلما اقترضت الشركة أو المنشأة مزيدا من القروض وكلما زادت استثماراتها، كلما ارتفعت قيمتها. أما المبدأ الثاني: كلما أُنْتِجَت سلع أقل جودة وعمرها أقصر، كلما ازداد "النمو" الاقتصادي!
وفي الواقع، مجمل "النمو" الاقتصادي، منذ ما يعرف بالثورة الصناعية، يعتمد على إمكانية الانتاج بواسطة المادة الخام الرخيصة والسريعة، ألا وهي النفط ومشتقاته. وتتيح هذه المادة إمكانية إنتاج المواد الخام ومنتجاتها ونقلها ببساطة وسرعة أكبر، وبالتالي مكنت تلك المادة من حدوث نمو اقتصادي في مختلف أنحاء العالم. إلا أن النفط يعد مادة محدودة وغير متجددة، وكمياتها الاحتياطية آخذة في الاضمحلال؛ ما يتسبب بالتالي في هبوط النمو الاقتصادي.
إذن، ما الحل؟ ربما يكمن الحل في تغيير طريقة قياسنا للنمو، من شيء مادي إلى شيء اجتماعي ونفسي. كيف ذلك؟ البدء باتباع نمط حياة بأقل قدر من الوقود أو ربما التخلي عنه كليا، وذلك كما يلي:
أولا: تعزيز نمط الحياة الاجتماعية، بمعنى تعزيز عملية الأخذ والعطاء في إطار المحيط المجاور لنا، والذي لا يتطلب سفريات بعيدة. فضلا عن قضاء ساعات الفراغ والتنزه مع الناس المحيطين بنا وفي بلدنا؛ بدلا من السفريات البعيدة والجذابة ظاهريا.
ثانيا: تعزيز ممارسة إعادة الاستعمال، بمعنى تغيير عقليتنا التي تتعامل مع السلعة التي انتهينا من استخدامها باعتبارها قمامة. فمن خلال خيالنا الابتكاري وعملنا اليدوي، نستطيع تحويل العديد من المنتجات إلى سلع عملية جديدة، توفر علينا المزيد من الإنفاق وتقلل من استنزاف الموارد والثروات.
ثالثا: الانتاج الذاتي والتسوق الاجتماعي. يمكن لمجموعات من الأسر أن تتأطر سوية بهدف الإنتاج والشراء الجماعي للمواد الخام والمنتجات التي نحتاجها يوميا. ومن خلال الإنتاج الذاتي وممارسة عملية الشراء الاجتماعي نقتصد في المواصلات ونقلل من فائض الانتاج، ونتمكن من الشراء بأسعار أرخص.
تعد الأفكار السابقة مجرد أمثلة قليلة لما يمكننا ممارسته كأفراد وكمجتمعات، بهدف التأثير من خلالها على أنماط حياتنا، وعلى مستقبل أطفالنا وبيئتنا المحلية. وفي مثل هذه السلوكيات والممارسات يعتمد السوق على ذاته؛ بحيث تتمكن الشركات والمنتجون من مواصلة العيش دون الحاجة للقروض ولشروط السداد المجحفة، أو للاعتماد على وسائل التمويل المضاربة للبنوك التي تتلاعب بأموال الجمهور. التغيير، إذن، متاح، والمطلوب أن نبدأ بالخطوة الأولى المتمثلة بتغيير مفاهيمنا وتصوراتنا.
وحيث أننا شعب تحت الاحتلال، فإن مثل هذا النمط الانتاجي والاستهلاكي الذاتي يصب في تعزيز الاستراتيجية الإنتاجية المقاومة. وكتجربة حية على هذا التوجه نطرح لاحقا نموذج الزراعة المدعومة مجتمعيا.
الزراعة بالحماية الشعبية
في سياق الاستراتيجية الإنتاجية المقاومة، يمكننا تشجيع أصدقائنا ومعارفنا وأقاربنا في المدن على شراء الخضار والفاكهة مباشرة من المزارعين الشباب البلديين (أو العضويين) في مزارعهم وحقولهم. وبإمكان مجموعات شبابية طليعية من هؤلاء المزارعين إقامة شبكات تسويق ودكاكين خاصة بهم في المدن والبلدات والقرى والمخيمات بحيث يسوقون فيها منتجاتهم الطبيعية والعضوية.
ولضمان إنتاج زراعي نظيف صحيا وبيئيا، بإمكان مجموعات من المستهلكين تنظيم عملية مقايضة المال بالمنتجات الزراعية مع مزارعين بلديين - عضويين من الملاكين أو الذين يتعاملون بالمزارعة، أو مع مزرعة معينة في المدينة. ويوجد حاليا، في بعض البلدان، نماذج عملية لمشاريع إنتاجية تعرف بالزراعة المدعومة مجتمعيا أو "الزراعة بالحماية الشعبية". وفي مثل هذه المشاريع المجتمعية المكونة من منتِج زراعي (أو أكثر) ومجموعة من المستهلكين (وقد تكون في أغلب الأحيان مجموعة من الأسر الشبابية في القرية أو المدينة)، يدفع المستهلك سلفا للمنتِج في بداية الموسم مبلغا ماليا محددا، لدعمه في عملية الإنتاج بمختلف مراحلها. وفي المقابل، يحصل المستهلك على نسبة معينة من الإنتاج. ويمتلك المستهلك رأيا مقرِرا في ما سيُزرع.
وفي عام 2003، خاضت مثل هذه التجربة نحو 17 أسرة فلسطينية، من بينها أسرة كاتب هذه المقالة؛ ومعظم هذه الأسر عبارة عن أسر شابة في محافظة رام الله والبيرة، حيث ارتبطت تلك الأسر بشكل مباشر مع مزارع عضوي من البيرة، يمارس الزراعة البلدية وتربية الماعز والخراف والدجاج. وتميز إنتاج المزارع العضوي بكونه نظيفا وخاليا من الكيماويات الزراعية. وقد كان يزود مجموعة العائلات بتشكيلة منوعة من الخضراوات والفاكهة، فضلا عن الحليب والجبنة البلدية والبيض البلدي ولحم الخروف.
وهناك نماذج معينة من المشاريع المجتمعية التي تزود المستهلكين بالخضار والفاكهة العضوية، فضلا عن كمية غير محددة من البيض البلدي، وقد يشارك هؤلاء في ملكية بقرة أو أكثر ضمن المشروع، بحيث يستفيد من حليبها البلدي وغير المعالج كلا الطرفين (المستهلكون والمنتجون) على حد سواء. وقد تختلف آليات العمل والإنتاج من مشروع لآخر، ولكن في معظم الحالات يدفع المستهلك رسما محددا في بداية الموسم لمشاركة المنتِج في المخاطرة أو في الثروة الإنتاجية. وليس بالضرورة أن تكون المشاركة مالية دائما، فقد يساهم المستهلك من خلال عمله بالمشروع، سواء بالفلاحة أو بالحصاد أو بالتوزيع. وقد يكون المستهلك نفسه منتجا لمنتجات بلدية لا ينتجها المشروع الذي ينتمي إليه، وبالتالي قد تكون مساهمته، كليا أو جزئيا، عبارة عن مقايضة بعض منتجاته بمنتجات أخرى في المشروع. وتعد الزراعة المدعومة مجتمعيا أسلوبا فعالا لتسويق المنتجات العضوية (أو البلدية) في مواقع الاستهلاك بالمدن أو بالمخيمات الفلسطينية. وعادة ما يتم نقل منتجات المشروع أو التعاونية إلى نقطة تجميع متفق عليها (مثلا: بيت أحد الأعضاء) حيث يتم من هناك إعادة توزيعها محليا. وتحل هذه العملية مكان سلسلة المتاجر الكبيرة وأسعارها المرتفعة (بسبب تكاليف التغليف والنقل والتسويق وغيرها) وتدعم المزارع البلدي الصغير، بحيث تمنحه استقلالية أكبر عن إملاءات السوق والتجار، وتضمن عمليا تزويد المستهلك مباشرة بالغذاء العضوي الطازج ذي الجودة العالية.
|