مشاهد بيئية :
شذرات بيئية وتنموية
(من اسطنبول هذه المرة)
|
اسطنبول من الجو تبدو حديقة كبرى جميلة |
عبد الباسط خلف
(1)
فتنة
اخترقت طائرة البوينغ، غيوم اسطنبول، بحثاً عن متسع للهبوط في مطار أتاتورك الدولي. من السماء، وعلى علو 8229 قدماً، بدت العاصمة الاقتصادية لتركيا كحديقة كبرى، تخترقها شوارع، وتجملها المياه. مع أولى الخطوات على أرض المطار، نلمس الفارق البيئي، الأزهار في كل أركانه، وحاويات صغيرة لفرز النفايات، وصور عملاقة للمدينة المسكونة بالتاريخ، والمميزة بالمآذن الشاهقة وأعلام تركيا الضخمة.
أسأل حسن، بائع السوق الحرة، عن درجة حبه للبيئة، وحرصه على عدم تلويثها، فيأتي رده: "كلنا نحبها، ونزرعها بالورود، ومن لا يحب اللون الأخضر، لا يمكن أن يكون قلبه يعمل".
نغادر أرض المطار، ومن أول نظرة، نرى الأزهار وهي تحيطنا من كل جانب، الشوارع، أعمدة الكهرباء، الأرصفة، الحدائق العامة، مداخل المنازل، أبواب المساجد، أما العمال فلا هدنة لهم حتى في أوقات تساقط المطر.
(2)
أزهار في كل مكان
|
|
الأتراك يعشقون الأزهار في كل مكان |
اسطنبول...أزهار في كل مكان |
نتوغل في أحياء اسطنبول الأوروبية، بحثاً عن الفندق، نقاوم النعاس، ولا نستجيب لأوامر النوم الغائب عنا منذ أكثر من 36 ساعة. عمال البلدية يزرعون أشجاراً ملونة شرقاً وغرباً، الكستناء ممشوقة الطول، أما الكرز فيسرق الأبصار، فيما الأزهار الجورية تأخذك في جولة للتأمل، ويساعدك الجو الماطر على طي مؤقت لتجربة الحر القائظ، الذي يلف بلادك المحتلة. تتمنى أن يبتسم الحظ لنا قليلاً لننعم بمناخ معتدل، ومسكون بالأمطار. نصل فندق ( القاعة الذهبية) في منطقة مجاورة لبحر مرمرة، تستقبلنا أزهار الفندق، فتجيد تحيتنا، بخلاف حرارة الترحاب المنخفضة، التي نحظى بها من جانب موظفي قسم الاستقبال.
قصة الأتراك مع الأزهار غريبة عجيبة، هكذا أكتب في مذكراتي، فكأنهم رهنوا أنفسهم للورد وحبه، وتآمر معهم المناخ ليحققوا مكاسبهم، في وقت يستعدون أيضا لنهضة صناعية بين الدول العملاقة. أسأل نجم الدين، الموظف في أحد الحوانيت القريبة، عن سر زراعة أعمدة الكهرباء وتجميلها بالأزهار، بالرغم من المساحات الممتدة على الأرض، فيرد، بلغة انجليزية بطيئة: ازرع أكثر، تربح أكثر.
(3)
طاقة
|
فرز النفايات في المؤسسات والشركات في اسطنبول |
افتح حواراً مع صديقنا عمير مناصرة، الذي أصابته فتنة اسطنبول، عن الطاقة في بلاد الأتراك، فنرى من حولنا سلسلة من الكوابل، والمحطات الصغيرة، لمنح القطار الكهربائي وقوده المطلوب. يسير القطار الأحمر من أمامنا بسرعة عالية، قياساً بالسيارات التي تتزاحم من الاكتظاظ، ونجرب حظنا في جولة قصيرة تقودنا لاحقنا، إلى منطقة مارتر، التي تشتهر بصناعاتها وتجارتها بالجملة. على الطريق، نرى التجربة في فرز النفايات وجمعها، ومن ثم الاستفادة منها في توليد الطاقة. نتذكر ما شاهدناه في برنامج تلفزيوني، عرفنا بتجربة بلدية المدنية، في إنتاج طاقة كبيرة من النفايات، تقدر بنحو 360 مليون دولار كل سنة. نتمنى أن نصاب بالعدوى.
(4)
جبل العرايس
نتجول في اسطنبول، فنصل جبل العرايس( جاميلجا) وهو واحد من أعلى نقطة من مضيق البوسفور واسطنبول ، ويعلو البحر بـ 263 مترا عن سطح البحر. أشجار وأزهار تشكل لوحات فنية، ومن بعضها تتناثر ألوان تشكل علم الدولة التركية بالأحمر والأبيض.
وتشتهر تلة العرائس بمناظر الإطلالة على اسطنبول والبوسفور وبهوائها النقي، ومن المعروف عن تلال المدينة السبع أن العرائس هو الأطول منها جميعاً، وقد شق طريقه إلى العديد من الأغاني المحلية.
تنشر في التل بائعات ورد وتحف سياحية، وبعض الأطعمة الخفيفة، فيما تحافظ الكراسي الخشبية القديمة على حضورها، في مدينة غنية بنحو 39 منطقه سياحية تتنازع على اختطاف قلب السائح وبصره وجيبه.
نفتح حواراً جماعياً، بين أعضاء فريق جمعية خريجي فورد، حيث قدمنا لدورة تدريبية في التخطيط الاستراتيجي، ونتبعها بحوارات ثنائية. يقول ياسر العدم، إن المكان يخطف القلب، ولا يمكن أن تمله العين، ولا يمكن لمن يراه، إلا أن يفكر ثانية في إعادة الكرة لزيارته. أقارن مع الزملاء والزميلات: وهيب حنني وباسمة ضميري ورويدة القاضي حال بيئتنا، وأتحسر على تراجع وعينا البيئي. أما عمير مناصرة، فيقول: الماء هنا كفيل بإنجاح كل شيء.
(5)
البسفور
|
مضيق البسفور الذي يقسم اسطنبول إلى شطرين أوروبي وآسيوي |
تأخذنا سفينة كبيرة في رحلة في مضيق البسفور، الذي يقسم اسطنبول إلى شطرين: أوروبي، وآسيوي، قاصدين جزيرة الأميرات، نشاهد من بعيد قصر دولما باشا وحصن روملي، وغابات تتنازع على احتلال جنبات المضيق. ننطلق من ميناء "قابطاش" في الجانب الأوروبي، وقبل الأميرات، نشاهد جزيره بور غاز آضا، وفينالي آضا، وهيبلي آضا، وبيوك آضا.
تتحد السفوح الخضراء المنحدرة، في ما يشبه رقصة تهوي لتعانق مياه بحر مرمرة، نهبط بعد أن ضللنا الطريق، برفقة صديقين: ياسر العدم وعماد ابو الرب، بعد أن خدعنا الوقوف على رصيف البحر، نكتشف الجزيرة، التي تنشر فيها عربات الخيول(الحناطير)، والدرجات الهوائية للتجوال حفاظاً على البيئة، فيما تجلس مقاهيها، وبقالاتها، ومطاعمها، وباعة حلوى لقمة القاضي، لتقديم وجبات تركية، تفتح الشهية.
نجلس في مطعم بجوار المياه، نشعر وكأنه يتحرك، فيما تتنافس طيور النورس على الهبوط بجوار نوافذنا، نسارع إلى إطعامها القليل من الخبز، ونفتش عن وجبة سمك، لسد جوعنا.
في الجزيرة، يحرصون على نظافة الشوارع، ولا يدعون الخيول تُلوث بروثها الطرقات، فيما نشاهد خليطاً من الأشجار كالأسكدنيا والتوت والكستنا، ولوحة فسيفساء من جنسيات تمثل شعوب الأرض شرقها وغربها.
حسن إبراهيم، عراقي مثلاً يهرب وأمه من أجواء بغداد الحارة، وعبد المنعم رجل أعمال ليبي، يفر من توتر بلاده بعد الإطاحة بالقذافي، أما سليم فسوري ينشط في السياحة، بعد تغير أحوال بلاده. ويأتي فهد من السعودية في رحلة فرار من الرمال.
أفتح حوارات تربط البيئة بالسياسة، والتنمية بالنهضة الصناعية، نرثي حالنا في عرض البحر، ونتمنى أن ننهض من تحت رمادنا، وأن نصل إلى قائد رشيد.
(6)
السلطان أحمد
|
بيع الخيار والتفاح في اسطنبول بعد إزالة قشورها |
نشتبك مع النعاس الذي لم نذق طعمه منذ وصولنا. نصل جامع السلطان أحمد، تستقبلنا مساحات خضراء تحيط به كالسوار في معصم، ونتجول بأبصارنا في مآذنه الست. مما نعرفه من التاريخ أنه بني على يد المعماري محمد أغا عام1616، فيما يرتفع 47 متراً، ويظفر بلقب أعلى قبة في العالم كله. ندخل المسجد الأزرق لكثرة الفسيفساء التي تحمل هذا اللون، ونجول في معماره، بعد خلع أحذيتنا، وتختطفنا الأضواء الدائرية. نخرج إلى قصر السلاطين، وهو مقر الباب العالي زمن الحكم العثماني للشرق، ثم نتجه لآيا صوفيا، الذي كان كنيسة تحولت بعد فتح القسطنطينية إلى مسجد، وصار منذ عام 1934 متحفاً بجدران ذهبية اللون.
(7)
دراما تركية
في داخل بنايات آيا صوفيا المسكونة بالتاريخ، والمحاطة بالماء والخضرة، ينشط طلبة مدارس في مشروع للتعريف بالثقافة التركية، يقرأ أحدهم مقطعا لك، بالإنجليزية يشير إلى جزء من تاريخ البلاد وأصحابها، يحمل سجعاً جميلاً، ثم يطلب منك الإدلاء برأيك، وبما عرفته من خلال زيارتك لبلادهم.
ننهي الإجابة، وانتهز الفرصة لسؤال الصغيرة أسمى، عن مدى الشغف بالدراما التركية، التي تقتحم عقولنا، أسرد لها قائمة من الشخصيات التي تسيطر على أطفالنا كمراد علم دار، وميماتي، وظاظا، ولميس، ونور، ومهند، وفاطمة، فتجيب، أنها وصديقاتها يفضلن القراءة والمطالعة والرحلات على الجلوس أمام التلفاز.
(8)
مشاهد خضراء
|
كيفما وأينما تطلعت حولك في اسطنبول ترى الأزهار الجميلة والمنسقة |
يدفع بائع شاب إسمه مصطفى بعربة في سوق( جراند بازار) المسقوف الضخم( به نحو 4 آلاف دكان و800 شارع وفق نشرة تعريفية)، وينادي على الزبائن لبيع الخيار والتفاح بعد إزالة قشورها. يضع مصطفى القشور في العربة ذاتها. يقول:" نستغل كل شيء، ولا نرمي بقايا الطعام على الأرض، نريد مدينتنا نظيفة".
عند حواف الشارع، القريب، وفي أمكنة أخرى ملاصقة لمبنى بلدية المدينة، تنشط بعد منتصف الليل رافعات كبيرة، في رفع حاويات نفايات من الأرض، لا يظهر منها في النهار غير بوابة صغيرة لرمي القمامة، ثم تأخذها إلى مكان للفرز، في طريق الاستفادة منها. تحافظ الطريقة على نظافة المكان، وتوفر حيزاً، ولا تتناثر النفايات بعشوائية.
(9)
يالوفا
تخطفك ضفة بحر مرمرة لأخرى، حين تجود جبال يالوفا بمياه كبريتية ومعدنية ساخنة، بجوار قصر أتاتورك، وعند حوافه نتخلى عن التاريخ، لصالح الجغرافيا. ساعة في هذا المكان تسرق رصيدك من الهموم، وتجعلك لا تفكر في حواجز الكرامة ومعابر الإذلال. الأشجار والأسماك والمطر والبحيرة والكستنا والماء البارد والحار، باتحادها وتناغمها تمنحك رشفة أمل، لتعيش في موجات حر صيفية ستضربك بقوة، وكأنك أغضبتها.
|