في ظل التبعية الكاملة لاقتصاد الاحتلال: مجموعة شبابية فلسطينية تطوعية تشق بتواضع طريق العودة نحو السيادة على الغذاء
|
جانب من السوق الأسبوعي-أكلي بلدي |
دانة مسعد
خاص بآفاق البيئة والتنمية
شراكة هي مبادرة تطوعية محلية تتمثل رسالتها في الحفاظ على الموروث الزراعي الفلسطيني من خلال شراكة حقيقية بين المزارع والمستهلك بحيث تشجع وتحمي صغار المزارعين. وتهدف شراكة الى تشجيع استهلاك المنتجات البلدية التي تنتج بطرق طبيعية صديقة للبيئة، وإلى زيادة الوعي بفوائد تناول المنتج البلدي الموسمي، والعودة الى الأساليب التقليدية في الزراعة .
|
متطوعو شراكة وطالبات المدرسة الإسبانية في البيرة يعملون على تحضير الحديقة العضوية الخاصة بالمدرسة |
سوق لدعم الزراعة البلدية
انطلق سوق "أكلي بلدي" في بداية أيار الماضي متزامنا مع موسم المزروعات البلدية في منطقة رام الله. وهو سوق أسبوعي متخصص بالمنتجات البلدية الموسمية المحلية، يهدف الى ايجاد شراكة بين المزارعين والمستهلكين، ويبدأ في الفترة ما بين شهر أيار حتى انتهاء الموسم الصيفي للمزروعات البلدية. وبالرغم من كون مبادرة سوق المزارعين ليست بالفكرة الجديدة، إلا أن ما يميز هذا السوق هو أن المجموعة التي تعمل على تنظيمه ليست بجهة رسمية، ولا هو نشاط ضمن مشروع آخر من مشاريع المؤسسات الأهلية العاملة في مجال الزراعة أو مشاريع أحد المؤسسات الأجنبية العاملة في البلد٬ فتلك المشاريع تبدأ هنا وهناك ثم تختفي عدما تنتهي مدة المشروع والدعم المخصص له. فيما يميز هذا السوق أنه يُنظم بمبادرة محلية من خلال شباب وأفراد من المتطوعين المعنيين بتغيير الحال الذي آلت إليه المنظومة الغذائية الفلسطينية. ويعمل أعضاء المبادرة التطوعية التي تهدف إلى تحقيق سيادة غذائية فلسطينية تحت اسم "شراكة"، التي تكونت وبدأت عملها قبل عامين ونصف العام بمجموعة صغيرة من الأفراد الذين رفضوا فكرة القبول بالمنتجات الزراعية والغذائية الموجودة في الأسواق كبديل وحيد.
وفي حديث مع عائشة منصور إحدى الشابات المؤسسات لمجموعة "شراكة" حول الدوافع التي جعلتها تعمل على بدء هذه الحركة، ذكرت أن الدوافع في البداية كانت شخصية، بمعنى أنها أرادت معرفة مصدر غذائها وكيف تم إنتاجه فوجدت أن ذلك شبه مستحيل. فالمنتجات الإسرائيلية تستبيح أسواقنا دون أي نوع من الرقابة، والمزروعات البلدية التي كانت تغذينا بدأت تدريجيا بالاختفاء، وتدريجيا فقدنا معرفتنا بمصدر غذائنا وبطريقة إنتاجه، فلا سبيل لمعرفة إذا ما كان المنتج الزراعي الذي نأكله مرشوش بالكيماويات السامة والمسرطنة أو معرفة إن كان المنتج معدل وراثيا أم لا. ومع غياب القوانين والمعايير واجراءات الرقابة التي تحمي المستهلك من هذه المنتجات التي تم حظرها في دول عديدة، اكتسحت المنتجات المعدلة وراثيا أسواقنا حتى أصبحت الأغذية الأساسية معدلة وراثيا كالطحين والذرة التي نستهلكها يوميا، وفي المقابل ارتفعت أعداد المصابين بالأمراض المزمنة والخبيثة. وتتحدث عائشة عن فقداننا لزمام الأمور المتعلقة بالقرارات الشخصية الأساسية كقدرتنا على اختيار الغذاء الذي نتناوله أو نطعمه لأطفالنا. وهذا ما دفعها للبحث عن طرق لإيجاد بديل للوضع الراهن بشكل يتم من خلاله خدمة المجتمع والمحافظة على البيئة والصحة العامة.
|
مجموعة من متطوعي شراكة يزرعون الأشجار عند الجدار الفاصل في يوم الأرض |
اتفاقية باريس: تعميق التبعية
تركز "شراكة" من خلال سوق أكلي بلدي وغيرها من الفعاليات التي تقوم بها على دعم المزارعين الفلسطينيين، وخاصة أولئك الذين ما زالوا يقومون بالزراعة بالطرق التقليدية٬ فيحفظون البذور البلدية ولا يستخدمون الأسمدة والمبيدات الكيماوية التي تتطلبها ما يسمى بالزراعة الحديثة البلاستيكية. وفي سؤال عن أسباب الوضع الراهن للمنظومة الغذائية الفلسطينية وعن أكبر التحديات التي يواجهها المزارعون المنتجون للزراعات البلدية تقول عائشة بأن الأسباب عدة، أولها وأهمها الإحتلال الصهيوني الذي سيطر على الأرض والموارد الطبيعية. فقد كانت فلسطين تتمتع بسيادة غذائية واكتفاء ذاتي قبل النكبة. وكانت المناطق الفلسطينية التي احتلت عام 1967 تنتج محلياً كل ما تحتاج إليه من غذاء قبل الاحتلال. ولا تقتصر محاولات الاحتلال للسيطرة على غذائنا ومواردنا وسوقنا على احتلال الأرض وحسب، بل تعدته لدرجة وصلت حد التبعية بشكل فاضح في السنين اللاحقة لاتفاقية أوسلو وبتوقيع السلطة الفلسطينية على البروتوكول الاقتصادي الملحق لهذه الاتفاقية والمعروف باتفاقية باريس.
تنصّ اتفاقية باريس في البند 51 على أن يكون هناك نقل حر للمنتجات الزراعية، بدون جمارك وضرائب استيراد بين الجانبين الفلسطيني ودولة الاحتلال. وبينما ينص البند على أن النقل الحر متبادل بين الطرفين، إلا أن دولة الاحتلال تتحكم بمرور البضائع الفلسطينية للأسواق الإسرائيلية وتمنع مرورها متى تشاء تحت ذريعة أن هذه البضائع لا تتناسب مع معايير السوق الإسرائيلي. ما يعني فعليا تحويل سوقنا المحلي لمكب للبضائع الزراعية الإسرائيلية دون تحديد معايير أو وجود رقابة على تدفق هذه المنتجات إلى السوق الفلسطيني، مما أدى إلى حرمان مزارعينا من امكانية بيع منتجاتهم حتى في السوق المحلي لأن المنتجات الزراعية الإسرائيلية مدعومة من قبل دولة الاحتلال٬ والأرض والمياه المسروقة متوفرة للمزارعين الإسرائيليين بأسعار زهيدة٬ مما يخفض كلفة الانتاج ويجعل المنتجات الزراعية الاسرائيلية أقل سعرا بالنسبة لتلك المحلية. فمثلا يبلغ سعر كيلو المشمش المنتج في إسرائيل 4 شواقل بينما يصل سعر كيلو المشمش البلدي إلى 10 شواقل من نفس النوع . بالإضافة إلى ذلك، فإن التقنيات الحديثة التي يستخدمها المزارعون الإسرائيليون، تمكنهم من إنتاج المحاصيل في غير موسمها فتكتسح أسواقنا قبل موعد إنتاج محاصيلنا المحلية مما يعمل على خفض سعر المنتج المحلي، فلا يستطيع المزارع المحلي المنافسة معها وتصبح الزراعة الموسمية البلدية غير مجدية اقتصاديا.
|
مشروع للجلوبال جاب لزراعة الفراولة في طمون والذي يعزز التبعية للاحتلال |
الدول المانحة والمشاريع المدعومة
عملت اتفاقية باريس على زيادة اعتمادنا وتبعيتنا لدولة الاحتلال وللخارج من خلال السياسات الاقتصادية المبنية على هذه الاتفاقية والتي تدعمها الدول المانحة وتعمل على تشجيعها من خلال مشاريعها. وأحد الأمثلة على ذلك مشروع "الجلوبال جاب" وهو المشروع الذي تبنته عدد من المؤسسات الدولية كمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة والمؤسسات الأهلية الفلسطينية العاملة في مجال الزراعة كالإغاثة الزراعية وغيرها. والجلوبال جاب عبارة شهادة تعطى لمنتوجات زراعية أنتجت بطرق زراعية منصوص عليها ضمن معايير وضعت لتستجيب لحاجات الأسواق الأجنبية. ويقوم المشروع بتشجيع المزارع المحلي على استخدام البذور المستوردة بدلا من البذور البلدية - التي هي الأنسب لبيئتنا- بهدف التصدير. فالبذور البلدية والزراعات الموسمية البعلية العضوية لا تطابق معايير الجلوبال جاب، لذلك لن يتمكن المزارع الذي حافظ على التقاليد الزراعية الطبيعية من التصدير للخارج، بينما يكافىء المزارع الذي استبدل الطرق التقليدية في الزراعة بالبذور غير البلدية واستخدام التربة والأسمدة والمبيدات المستوردة بالشهادة والدعم اللازم للتصدير.
ومن الأمثلة الأخرى لما تطلق عليه عائشة مصطلح "الاحتلال المزدوج" هو "مشروع أبو خيزران" في منطقة الفارعة وهو مشروع مدعوم من قبل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID ) لإنتاج الأعشاب الطبية بغرض التصدير وباستخدام معايير معينة تتطلب أحيانا استيراد التربة اللازمة لبعض هذه الأعشاب مقابل تغطية المنظمة لنصف تكاليف المشروع. بذلك يشتري مزارعونا التربة والبذور والمواد اللازمة لهذا النوع من الزراعة من إسرائيل أو الخارج للتمكن من انتاج هذه الأعشاب التي باتت كلفة انتاجها عالية ليتم تصديرها ويأخذ المزارع الفلسطيني فتات الأرباح بعد هذا الجهد، بينما يكون نصيب الأسد من الأرباح للوسطاء والموردين للمواد في هذه السلسلة.
اقتصاد المقاومة
يجمع الكثيرون على أن اتفاقيتي أوسلو وباريس قد انتهت صلاحياتهما فلماذا التمسك بهما؟ وهل بإمكان السلطة الفلسطينية إلغاءهما أو التعديل عليهما في ظل غياب أي سيطرة لها على المعابر البرية والبحرية والجوية، خاصة في ظل انعدام التكافؤ السيادي والسياسي والاقتصادي بين الطرفين؟ وهل يمكن التعويل على مشاريع مدعومة من قبل الدول المانحة التي خصصت هذا الدعم في الأصل بهدف ترسيخ هاتين المعاهدتين؟ أم أن الحل يكمن في حركة شعبية واعية لأهمية المقاطعة الاقتصادية ودعم اقتصاد المقاومة ومقاطعة منتجات الاحتلال. يبدو لأعضاء مجموعة شراكة بأن الحل واضح ويكمن في توعية شعبية لما يحدث بمنظومتنا الغذائية وتأثيره على كل منا، إضافة الى التوعية لأهمية الأكل البلدي الموسمي للصحة الشخصية والمجتمعية وللحفاظ على البيئة والتنوع الحيوي. هذه هي الرسالة التي يأمل أعضاء "شراكة" أن يتمكنوا من إيصالها من خلال سوق "أكلي بلدي".
ولمعرفة المزيد عن نشاطات مجموعة شراكة يمكن متابعة الصفحة الخاصة بالمجموعة على الفيسبوك أو زيارة السوق الأسبوعي المقام كل يوم سبت من الواحدة ظهرا حتى الخامسة مساء، في ساحة المحكمة العثمانية بمركز مدينة رام الله.
|