: منبر البيئة والتنمية
لا للكائنات المعدلة
|
نشطاء غرينبيس يتظاهرون في شتوتغارت بألمانيا ضد زراعة الذرة المعدلة وراثيا- تصوير AFP |
حبيب معلوف/ بيروت
مع انضمام لبنان الى بروتوكول قرطاجنة المتعلق بالسلامة الإحيائية، يفترض البدء بإعداد العدة لتحصين هذا البلد المستورد لكل شيء، والذي يتحكم به التجار بالتحالف مع قطاع المصارف، بشكل كبير، من شكل جديد من السلع المعدلة جينياً التي لم تدرس كفاية انعكاساتها البيئية والصحية، في البلدان المصنفة نفسها "متقدمة". ومن تابع هذه القضية منذ أكثر من عشر سنوات، يمكن ان يكتشف بسهولة الصراع الذي دار بين الدول المتقدمة نفسها، لا سيما بين الشركات الأميركية الكبرى التي تعمل في حقل الهندسة الجينية، وبين دول الاتحاد الأوروبي بشكل عام، التي ظلت حتى الأمس القريب، ممانعة لإدخال هذه التقنية في نظم الإنتاج وممانعة أيضاً لإدخال المنتجات والبذور المعدلة الى الأسواق الأوروبية. وبعد طول صراع استمر لسنوات، سمح الاتحاد الأوروبي بإدخال هذه المنتجات الى الأسواق، شرط ان يتم وضع ملصقات عليها بأنها معدلة، وترك الخيار للمستهلك في استهلاكها. إلا ان الموضوع لم يقف عند هذا الحد. والمعركة لا تزال مستمرة في الاتحاد الأوروبي لتحديد المهلة التي يفترض أن تمضيها المواد المعدلة جينياً في المختبرات كي يعرف ما اذا كان لها تأثيرات على الصحة والبيئة قبل ان يسمح بتسويقها. هل هي فترة أسابيع ام أشهر، ام فترة سنتين على الأقل. الاتحاد الأوروبي قرر مؤخرا ان تكون فترة الاختبار 90 يوماً. إلا ان الجدل حول هذا الموضوع لم يتوقف بالطبع. فقد كانت شركة "مونسانتو" الأميركية التي تعتبر الأشهر والأكبر في العالم في تعديل الجينات على النباتات والبذور، قد قامت باختبار إطعام الفئران الذرة المعدلة جينياً لمدة ثمانين يوماً وأعلنت أنها لم تتأثر بأي تأثير سلبي. فيما أكدت مراكز بحثية أخرى ان هذه المدة غير كافية لرصد التأثيرات، وقد أجرت اختبارات طويلة المدى على الفئران أظهرت التسبب بأورام معينة في الثدي والكبد واضطرابات في الكلي، وان هذه المواد المعدلة نفسها تقلل من متوسط العمر المتوقع لهذه الحيوانات. رد خبراء الشركة بشكل كاريكاتوري على هذه الأبحاث بالقول "نحن لسنا فئران بوزن 70 كغم"، معتبرين ان ما يصح على الفئران الصغيرة، قد لا يصح على النوع الإنساني، مع ان الكثير من الأبحاث التي أجريت على الفئران تم اعتمادها تاريخياً كدلالة قوية حول أثرها على الإنسان .
المشكلة اليوم أن الصناعيين وأصحاب الشركات (أصحاب المصلحة) هم الذين يمولون البحث العلمي المتعلق بهذه الهندسة في حين لا تزال بعض الدول المتقدمة ترفض ان تدعم ابحاثاً علمية تتعلق بتحوير الجينات والتلاعب بها لأسباب اخلاقية. وقد زاد الأمر خطورة حين تركت هذه المهمة للقطاع الخاص والشركات العملاقة، لكي تضع هي نفسها آليات وقواعد الاختبار والرقابة واخذ العينات وفترات التجارب... الخ وهذا ما يتعارض مع ابسط قواعد "عدم تضارب المصالح"، ويدخل العالم في دوامة خطرة، تسيطر عليها قوة المصالح وتهدد الامن الصحي والغذائي للبشرية جمعاء .
مَن تابع السجالات التي ترافقت مع تشريع الاتحاد الأوروبي فتح الأسواق أمام المنتجات المعدلة جينياً (جريدة "السفير" 25/8/2009)، عليه ان يقلق أكثر، لاسيما تلك الضجة التي أثيرت العام 2009 والتشكيك الخطير بدور ومهام وعضوية "الهيئة الأوروبية لسلامة الغذاء"، حين شكك وزراء البيئة في 11 بلداً اوروبياً في مصداقية هذه الهيئة التي تمنح التراخيص للشركات لإنتاج الأغذية المعدلة جينياً، متهمين أبرز أعضائها بأنهم على علاقة بشركات التكنولوجيا الحيوية، مطالبين بإصلاح هذه الهيئة وبالتشدد في تطبيق مبدأ الاحتياط عندما تتضارب الأبحاث حول القضايا .
فإذا كانت الحال على هذا المنوال في البلدان المتقدمة كالاتحاد الأوروبي، فما ستكون عليه الحال في بلد مثل لبنان، يعتمد دائماً على المواصفات والقوانين والإجراءات الأوروبية كمثال؟! أليس علينا ان نقلق أكثر وأكثر وان نصيغ قوانين أكثر تشدداً من الاوروبيين، تقضي بتطبيق "مبدأ الاحتياط" الذي يقضي بالمنع الكلي لإدخال هذه المواد والحظر الكامل على استيراد جميع البذور والحيوانات والفطريات والبكتيريا والفيروسات المعدّلة جينياً؟ والحظر الكامل على زراعة الحبوب والأشتال وتربية الحيوانات المعدّلة جينياً؟ والحظر الكامل على إجراء البحوث العلمية في شأن الكائنات المعدلة جينياً في الهواء الطلق أو في المختبرات المغلقة... لحين تتضح معالم هذه المغامرة الخطرة جداً.
قد تكون المسألة متعلقة بالوقت إذن. ولكن ليس بمعنى سرعة التطور، بل بالوقت الكافي لدراسة الأثر. مع لحظ الفارق الكبير بين السرعة التي يطلبها المستثمر في ظل اقتصاد السوق القائم على المنافسة وعولمة ساحقة، والوقت الذي يحتاجه العالم كي يتأكد من الاكتشاف الجديد وانعكاساته البعيدة المدى. ولعل مهمة الدول، التي يضعف دورها يوماً بعد آخر، ان تظل مؤتمنة على دعم البحث العلمي المجرد... وهو أهم مطلب إصلاحي للعولمة، يفترض أن يشكل بنداً رقم واحد عند أول ثورة عالمية منتظرة، لتصحيح مسار ومغامرات العولمة وشركاتها الكبرى .
|