استنزاف ونهب مواردنا الطبيعية إلى متى؟
المقالع والكسارات ومناشير الحجر العشوائية تنتعش في ظل غياب سلطة القانون
|
التشوه الطوبوغرافي الذي تحدثه الكسارات في عصيرة القبلية |
دانة مسعد
خاص بآفاق البيئة والتنمية
يعد قطاع الصناعات الحجرية من أهم القطاعات المساهمة في الاقتصاد الفلسطيني وﺘﺤﺘل الضفة الغربية وقطاع غزة ﻤﻜﺎﻨﺔ مرموقة ﻓﻲ ﺼﻨﺎﻋﺔ ﺍلحجر، ﻓﻬﻲ ﺘﺄﺘﻲ ﻓﻲ المركز الثاني عشر عالميا، ﻭﺘﺴﺎﻫﻡ ﺒﻨﺤﻭ 1.8% ﻤﻥ ﺍﻹﻨﺘﺎﺝ العالمي، فمثلا ﻴﺒﻠﻎ ﺍﻹﻨﺘﺎﺝ الفلسطيني ﻤﻥ الرخام ضعفي ﺍﻹﻨﺘﺎﺝ الألماني، ﻭﻨﺼﻑ ﺍﻹﻨﺘﺎﺝ التركي، ﻭ 70% ﻤﻥ ﺍﻹﻨﺘﺎﺝ ﺍﻷﻤﺭيكي. هذه قصة النجاح التي تصاغ بعبارات براقة تساعد في تسويق منتجات قطاع الصناعات الحجرية الذي يعد مربحا لأصحاب هذه الصناعة وبعض كبار رجال الأعمال القائمين عليها لكن وراء هذه القصة وجهاً مظلماً لا يراه الكثيرون.
|
شاحنة تنقل الحجارة من إحدى كسارات قرية جماعين |
صناعة المحاجر والكسارات: البدايات والانتشار
أخذت صناعة المحاجر والكسارات بالانتشار في الضفة الغربية بعد النكبة وتوسعت بشكل سريع بعد إنشاء السلطة الفلسطينية بحيث تتواجد المقالع والكسارات اليوم في كل محافظات الضفة، إلا انها تتركز بشكل خاص في جنوب الضفة في محافظة الخليل وخاصة في بني نعيم والشيوخ وتفوح ويطا وسعير وفي محافظة بيت لحم ( بيت فجار، مخيم الدهيشة، الدوحة) وفي شمال الضفة الغربية (جماعين، قباطية، عجة، عصيرة الجنوبية).
ويلاحظ مؤخرا انتشارها في مناطق جديدة وفي أراضٍ زراعية ذات طبيعة صخرية كانت مليئة بأشجار مثمرة كالزيتون واللوزيات والكروم. وعند سؤال أحد ملاكي الأراضي في قرية الزبابدة "لماذا قمت باقتلاع أشجار الزيتون في أرضك؟ " أجاب: "واحدة من الشركات عرضت عليّ التنقيب عن الحجر مقابل نسبة من الأرباح في حال وجود الحجر.. والحجر مجدٍ أكثر من الزيتون". وبهذا النمط من الفهم والعمل انتشرت ظاهرة نبش الأراضي وخاصة الأرض ذات الطبيعة الصخرية للتنقيب عن "الذهب الابيض"، فكثيرا ما تشاهد أراضٍ منبوشة بعمق عدة أمتار بغرض الاستكشاف، وتترك بعد أن أصبحت لا تصلح للزراعة أو لأي شيء آخر. وتتم ﻤﺭﺤﻠﺔ ﺍﻻﺴﺘﻜﺸﺎﻑ ﻫﺫﻩ ﺒﻁﺭﻴﻘﺔ ﺍلتجربة والخطأ وﻻ ﺘﺴﺘﺨﺩﻡ ﺃﻴﺔ ﺃﺴﺱ ﺃﻭ ﻁﺭﻕ ﻫﻨﺩﺴﻴﺔ ﺠﻴﻭلوجية مع الأخذ في الاعتبار التكلفة الباهظة لعملية الاستكشاف. وبالرغم من ارتفاع تكلفة الاستثمار بالمحاجر الذي يبلغ أضعاف حجم رأس المال اللازم للاستثمار في أي قطاع صناعي آخر، إلا أنّ القطاع آخذ بالنمو.
ومن أبرز العوامل التي أدت للانتشار السريع لهذه الصناعة ارتفاع المردود المادي لها نتيجة توفر المحاجر والكسارات في المناطق الفلسطينية التي احتلت عام 1967 وشحها في الأراضي المحتلة عام 1948، نتيجة السياسات الاسرائيلية المقصودة لاﺴﺘﻨﻔﺎذ ﻫﺫﺍ ﺍلمصدر الطبيعي ﻭﺤﻤﺎﻴﺘﻪ ﻭﺘﻭﻓﻴﺭﻩ ﻓﻲ "ﺇﺴﺭﺍﺌﻴل"، ما أدى لوجود طلب إسرائيلي مرتفع على هذه المنتجات. كما ساعد على انتشار هذه الصناعة، تراخي السلطات الفلسطينية في تطبيق القوانين الخاصة بمنح التراخيص اللازمة لإنشاء المقالع والكسارات بحيث تقام العديد من المحاجر والكسارات بشكل عشوائي وبلا تراخيص من الجهات ذات العلاقة. وساهم الحصار الاسرائيلي على قطاع غزة وشح المواد اللازمة للبناء بانتشار الكسارات ومقالع الرمل في القطاع بحيث يعاد استخدام ركام الأبنية التي تم تدميرها بفعل القصف الاسرائيلي وإعادة استخدامها، ورغم أن العملية تعد تدويرا للمواد إلا أنّ العديد من الخبراء البيئيين حذروا من أن الركام يحتوي على مخلفات مشعّة ومسرطنة، بالإضافة إلى التلوث الذي تحدثه الكسارات بطبيعة الحال.
استنزاف الثروات ونهبها
ولا يمكن إغفال مساهمة الاحتلال في نهب ثرواتنا من خلال المقالع والكسارات المنشأة على أراض منهوبة من أصحابها في الضفة الغربية وخاصة في مناطق ما يسمى "ج"، وبالطبع فإن القوانين الصارمة من حيث شروط التراخيص وسلامة العاملين والشروط البيئية التي تفرضها إسرائيل على منشآت الحجر داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 لا تطبق في هذه المنشآت، فمع إدراك إسرائيل لحجم المردود المادي لهذه الصناعة إلا أنها أدركت أيضا حجم الضرر البيئي لها ففضلت تحويل الأعمال القذرة إلى الجانب الآخر واستنزاف الموارد في الأراضي المحتلة عام 1967 ، بعدما نجحت منظمات بيئية إسرائيلية في اغلاق عدد من المحاجر في الأراضي المحتلة عام 48. ويقدر حجم إنتاج المقالع (الإسرائيلية) في الضفة الغربية بنحو 12 مليون طن من الحجارة والحصى والرمل سنويا، ما يعني استنزافا متزايدا لمواردنا الطبيعية غير المتجددة بحيث لا يمكن تعويضها ولا استبدالها. فليس من الغريب أن تدعم وتشجع إسرائيل هذه الصناعة وتكون معظم صادراتنا من الحجر من نصيب السوق الإسرائيلي الذي يقوم بدوره بتصديره للخارج وتسويقه تحت شعارات ترويجية براقة على غرار "احتفظ بقطعة من القدس في بيتك".
|
كسارة بمحاذاة المباني السكنية في دير شرف |
الأخطار البيئية
وتشكل المحاجر والكسارات ومناشير الحجر خطرا محدقا بالبيئة الفلسطينية من نواح عديدة حيث تقتلع الغطاء النباتي وتؤدي إلى انحسار رقعة الأراضي الرعوية والزراعية وتعيق التنوع الحيوي في المناطق التي أنشئت بها والمناطق المحيطة كما حدث في منطقة سعير التي تحتوي على 30 نوعاً من النباتات النادرة المهددة بالانقراض نتيجة فعل المحاجر. كما تعمل المحاجر على تغيير المعالم الطبوغرافية للأرض بشق تلك التجاويف العميقة فيها والتي تتراوح مساحتها من دونم الى عدة دونمات، وعلى أعماق شديدة تتراوح من 10 إلى 40 مترا محدثة تشويها لمنظر الأرض الطبيعي، كما أنه يؤدي إلى تجريف الأتربة والصخور وتهديد البيوت المحيطة بالانهيار، يضاف إليه خطورة سقوط المواطنين فيها وبخاصة الأطفال، لا سيما إذا كانت المقالع في أماكن سكنية كما هو الحال في عدة مناطق فلسطينية.
كما يسبب التلوث الجوي الناجم عن الغبار والجسيمات العالقة وانبعاثات الآلات المستخدمة والضجيج المستمر أمراضاً مزمنة كما هو الحال في منطقة بيت فجار بالقرب من بيت لحم التي تحوي أكثر من 120 محجراً وكسارة، وبلدة جماعين جنوب نابلس والتي أقيم فوق أراضيها 70 مقلع حجر و 35 منشارا و 7 كسارات وبات أكثر من نصف سكانها يعانون من أمراض الربو والقصبات الهوائية، كما زادت نسب الإصابة بسرطانات الرئة بشكل كبير. ويشتكي السكان والمزارعون من أنّ الغبار المتراكم بسبب أعمال التحجير والكسارات يؤدي إلى تأخير نمو المحاصيل والأشجار المثمرة وانخفاض إنتاجيتها، خاصة أن المقالع تستخدم غالبا الطرق الزراعية لنقل حمولات شاحناتها مما يزيد من انتشار الغبار في كل مكان . ويؤثر الغبار الناتج عن المحاجر على المواصفات الكيميائية والفيزيائية للتربة، ويؤدي إلى تغيير قوام التربة ونسب الحموضة فيها، أما المياه المحمّلة بهذه العوالق فتقوم بتلويث المياه الجوفية والآبار وأحواض المياه القريبة .
قوانين غير مطبقة
وبسبب ضعف تطبيق القوانين من قبل السلطات المعنية تنتشر المحاجر والكسارات المرخصة وغير المرخصة في كل المحافظات بشكل عشوائي وغير ملتزم بأي من شروط الترخيص التي نصت عليها المادة ( 16 ) من قانون البيئة الفلسطيني رقم 7 لسنة 1999. فمعظم المحاجر القائمة تقع ضمن مناطق سكنية وبمحاذاة شوارع رئيسية ولا تلتزم بأي من معايير السلامة العامة للمناطق المحيطة أو لسلامة العاملين فيها. كما يستمر العمل في بعضها ليلا ونهارا علما أن القانون يحدد ساعات عمل المحاجر من الساعة السابعة صباحا وحتى السادسة مساء. ومن المؤسف أنه بعد الانتهاء من استغلال المكان، يترك هذا المكان مهملاً ومصدراً للخطر على السكان والبيئة ككل. ويعتبر الاختلاط والتداخل في الصلاحيات حول الشؤون البيئية من العوامل التي تساعد في إضعاف القوانين الخاصة بها. فالموافقات لترخيص المحاجر والكسارات تمر بعدة جهات من ضمنها وزارات شؤون البيئة والزراعة، والصحة، والحكم المحلي بحيث تحوي الوزارات المذكورة ﺩﻭﺍﺌﺭ للشؤون البيئية تقوم بالعمل حسب مخططاتها مما يؤدي إلى اختلاط الأمور. وتتلقى المجالس البلدية والبلديات العديد من الشكاوي بحق أصحاب المحاجر والكسارات من قبل المواطنين والمزارعين المتضررين دون جدوى.
توصيات
لا بد من التحرك السريع للحد من انتشار هذه الظاهرة التي من الواضح أنها خرجت عن السيطرة. ويشير السكان المتضررون إلى عدم وجود رغبة عند المستثمرين للسيطرة عليها نظرا لاستفادة كبار رجال الأعمال من بقائها واستمرارها كما هي. وهنا لا بد من الإشارة إلى ضرورة تنظيم عمل المحاجر والكسارات ومناشير الحجر في كافة المحافظات وضبطها في الإطار القانوني مع عدم منح أي تصاريح جديدة إلا بعد مطابقة الشروط البيئية بشكل صارم وذلك بعد ﺤﺼﺭ كافة التشريعات والقوانين البيئية وتنظيم الجهة المسؤولة عن تطبيقها ومتابعة الالتزام بها ومحاسبة المخالفين لها دون الرضوخ لأي ضغوطات. ولا بد من زيادة الوعي المجتمعي لحجم الضرر الناجم عن مقالع الحجر والكسارات، والعمل على توعية المهندسين بشكل خاص في البلديات لتغيير القوانين التي تجبر على استخدام الحجر في عمليات البناء، علماً بأن استخدام الحجر هو أمر تجميلي فحسب ولا يحقق هدف تحسين الأداء في البناء، وبأن هناك حلولاً تجميلية أخرى للمبانى لا تستنزف الموارد التي نحتاج اليها جميعا وتحتاج لها الأجيال القادمة.
وعلى الوجه الآخر، يجب وضع خطط لتأهيل المحاجر المهملة والمخالفة التي صدرت بحقها أوامر إيقاف العمل أو التي تم الانتهاء من استغلالها وعدم تركها كما هي، وعدم استخدامها كمكبات للنفايات كما يحدث في الكثير من المناطق. وهناك نماذج ناجحة في عدد من الدول كالكويت حول مشاريع إعادة تأهيل محاجر سابقة، ويمكن الاستثمار بمشاريع استصلاح مواقع المحاجر للاستخدام الزراعي بحيث يتم ردم الموقع وتأهيله لزراعة أشجار تتحمل الظروف البيئية والمناخية الجديدة، كما يمكن دراسة موضوع تربية الحيوانات الملائمة لبيئة المنطقة وزراعة نباتات رعوية. وإذا كانت المنطقة غير ملائمة للزراعة يمكن إنشاء مشاريع إعادة تأهيل لاستخدامات أخرى مثل ملاعب رياضية أو استخدامها كمناطق لتخمير النفايات العضوية وتحويلها الى أسمدة زراعية وإنتاج غاز الميثان. ومن المؤكد أن مشاريع إعادة التأهيل ستكون مكلفة لكنها ستعوض جزءاً من خسارتنا الناتجة عن فقدان بعض مواردنا غير المتجددة، فتلك الجبال الخضراء التي زرعها أجدادنا هي أحد الأدلة على حضاراتنا ووجودنا وبقائنا على هذه الأرض، التي تعد مصدر الرزق الذي يعطي ولا يتوقف عن العطاء، وهي الذهب الحقيقي.
|