أنفاق وادي حلوة
ترسيخ الرواية التوراتية والاستيطان في منطقة الحوض المقدس
د. بكيرات: الأنفاق ظاهرة تطرفية لغسيل الأدمغة
متحف دافيدسون على بعد أمتار من المسجد الأقصى، يسعى إلى توصيل التخيل الصعب عن الهيكل لإثارة أشجان اليهود وأتباع العهد القديم
(الحلقة الثانية)
|
|
أطلال القصور الأموية |
الحجارة الكبيرة والقديمة جدا في نفق عين سلوان تدلل على تاريخها اليبوسي ولا صلة لها بالتوراة أو بأي رمز يهودي |
ريبورتاج: ربى عنبتاوي
خاص بآفاق البيئة والتنمية
قبل بدء الجولة في انفاق وادي حلوة، استوقف مجلة آفاق البيئة والتنمية رذاذ مياه عين سلوان العذب، العين التي عرفت منذ أكثر من خمسة آلاف عام، فعلى ضفاف قناتها كانت النسوة يغسلن الثياب، وبمياهها كان الأطفال يلهون، عدا عن القداسة التي لفتها لشفاء النبي عيسى عليه السلام بمائها رجلاً أعمى، أما اليوم، فهي محتلة من جهتها الشمالية، ويحاول الاحتلال الهيمنة على مدخلها الجنوبي التابع للأوقاف الإسلامية. كما لم تسلم العين من عمليات الحفر لترسيخ الاستيطان وبلورة رواية صهيونية متكاملة عن تاريخ القدس، بحيث تم حفر نفق من العين باتجاه البلدة القديمة لربط مدينة داوود بمشاريع مياه سلوان وبحائط البراق.
عند بوابة نفق وادي حلوة، المطل من الأعلى على جزء من بركة سلوان شاهدت "مجلة آفاق" عدة طالبات اسرائيليات تبدو عليهن البهجة وقد قفزن بقناة العين وأخذن يغنين بصوت استفزازي مرتفع وذلك خلال جولة تعليمية لمدرستهن كما يبدو، وفي تلك الأثناء تحدثت المجلة سريعا مع الستيني ابراهيم صيام، والذي يملك دكانا وقفياً صغيراً يغرد خارج سرب السيطرة الاسرائيلية على كل شبر ومتر وزاوية في المكان، ففي الدكان الذي تملكه اسرته منذ 150 عاماً، يبيع صيام قطعاً أثرية وتراثية فلسطينية من حقب زمنية مختلفة فيما يغيب أي رمز يهودي او صهيوني فيه.
يقول صيام وهو يحاول ان يرفع من نبرة صوته لتعالي صراخ الطالبات الاسرائيليات عند العين: "لا يمكن حصر عدد المرات التي عرض علي فيها بيع هذا الدكان مقابل مبالغ خيالية، وفي يوم جاءني مستوطن عارضا علي شراء الدكان، فقلت له اشتريك انت ولا ابيعك الدكان....فأجابني انت اكبر متطرف رأيته في حياتي!!".
بعد تلك الدردشة السريعة مع صيام، انطلقت آفاق مع د. ناجح بكيرات -مدير مؤسسة الاقصى والممنوع من دخول باحة الحرم الشريف للمرة السابعة- عبر انفاق وادي حلوة أسفل جامع عين سلوان المؤدي الى الحائط الجنوبي الغربي للقدس.
|
|
بنات يهوديات يغنين بصوت مرتفع ومستفز عند بوابة نفق وادي حلوة |
حجارة من العصر الأموي داخل المتحف الاستيطاني اليهودي |
نسب تاريخ اليبوسيين العريق بالخداع الى عهد الهيكل المزعوم
"الاحتلال ربط هذا النفق مع أحد أنفاق سلوان، وهو النفق الذي يصل طوله نحو 500 متر ويمتد غربي مسجد عين سلوان ويمر أسفل الطريق الرئيسي لبلدة سلوان وبيوتها باتجاه المسجد الأقصى ويرتبط مع النفق الجديد الآخر عند مدخل حي وادي حلوة، ليصل الطول الإجمالي لنفق سلوان/ المسجد الأقصى بجزأيه نحو 700 متر" قال د. بكيرات مشيراً إلى أن تلك الحفريات تنفذ بواسطة ما يسمى بـ "سلطة الآثار الإسرائيلية" وبتمويل من "جمعية إلعاد الاستيطانية".
واثناء سيرنا أشار د. بكيرات بيده إلى نوعية الارضية والتي كانت عبارة عن درجات صخرية مستطيلة، والتي تدلل على قدمها وتاريخها اليبوسي، الذي كان اساساً قناة عين سلوان التي حفرها اليبوسيون لمرور مياه الامطار الفائضة من مدينة القدس والحرم الشريف داخل الأسوار، ما يعني ان من حولها كانت حياة من بيوت ودكاكين ومنازل، منوهاً إلى أن الاحتلال اليوم يحاول تلفيق وتزوير حقيقة القناة اليبوسية ونسبها بالغش والخداع إلى التاريخ اليهودي.
الرواية التوراتية ...تحايل وتثبيت امر واقع
وفي طريقنا من الجنوب متجهين الى الشمال عبر النفق، تم مشاهدة لوحة طويلة وضخمة لبركة سلوان في الموقع على الجدار الملاصق للقناة، ومن على بعد امتار لوحة اخرى توضح أصل الانفاق وفق الرؤية التوراتية والتي كانت عبارة عن طرق ومن حولها بيوت ومنازل تصل شمالاً الى جبل الهيكل. واثناء مرورنا، تم ملاحظة عاملين اثنين من وزارة الاثار الاسرائيلية يقومان بأعمال صيانة للنفق.
وحيث المسير، فيلاحظ أن حفريات النفق مدعمة بالحديد الغليظ والخشب والمراوح الهوائية والإنارة، وعند اجتياز ما يقارب الـ200 متر من النفق، يجد العابر نفسه أمام مفترقٍ لطريقين: طريق يوصل الى موقف جفعاتي الملاصق لمدينة داوود عند مدخل مدينة سلوان، وطريق آخر يوصل للحائط االجنوبي الغربي للمسجد الأقصى، أختارت مجلة آفاق الطريق الآخر، سرنا في طريقنا لعبور الشارع الفاصل بين سور القدس من جهة باب المغاربة وسلوان باتجاه الحديقة الخاتانية او التوراتية.
|
|
حفريات الأنفاق ليست علمية لخدمة الآثار بل هي عملية غسيل دماغ لليهود الحاليين وللأجيال اليهودية القادمة كما يقول د. بكيرات |
د. بكيرات يشير إلى االخريطةالصهيونية التي تبين مسار النفق نحو الهيكل المزعوم وقد شطب مسجد الأقصى كليا من الخريطة |
غياب أي نقش يهودي يدلل على توراتية الحجارة
أثناء السير تم ملاحظة فتحات دائرية في الانفاق هي عبارة عن ابار قديمة وكبيرة ترتبط بالقناة، بحيث تم تفريغها من قبل الاحتلال وإيصال بعضها ببعض. "الحجر موحد، جيري ضخم وصلب لذلك نحن امام عناصر يبوسية واضحة جدا" قال د. بكيرات. مؤكداً عدم وجود أية نقوش تدلل على ان هذه الحجارة هي حجارة يهودية، وكل الابحاث الاثرية تؤكد أن منطقة الانفاق تعود لمدينة يبوس الكنعانية.
"الانفاق خطرة جدا، هي بمضمونها وبشكلها ظاهرة تطرفية يتم عبرها عملية غسيل دماغ، كما أن حفريات الانفاق ليست علمية لخدمة الاثار بل هي انفاق سياسية عسكرية عنصرية بامتياز". قال د. بكيرات اثناء السير بالنفق.
|
|
داخل المتحف الاستيطاني اليهودي |
رسائل يهودية وضعت في الحائط الجنوبي للأقصى، بزعم أنه جزء مما يسمى حائط الهيكل اليهودي، أي جدار البراق |
جدران الاقصى للتضرع الى الله ولحضور افلام يهودية دينية
واخيراً اقتربت الجولة من النهاية مع الوصول لجدران المسجد الأقصى السفلية، والتي يستغلها اليهود للتضرع الى الله بجز رسائل دينية عبر الثقوب، لاعتقادهم بأنها جدران الهيكل، ومع انبثاق النور من نهاية النفق المظلم انتهت الجولة على بعد امتار عن سور المسجد الاقصى الجنوبي الغربي في القصور الأموية ودار الإمارة المكتشفة في السبعينيات بالقرب من ساحة البراق، أو ما يتم تحويله اليوم اسرائيلياً الى الحدائق التوراتية*.
"افلام توراتية عن الهيكل تعرض باستمرار على جدار المسجد الاقصى" لفت د. بكيرات وهو ينظر لسور الاقصى الجنوبي ومن خلفه الحدائق الاموية.
"الاحتلال يريد تكريس الصورة الأخطر بأن القدس هي ارض توراتية" ختم د. بكيرات محذراً من وصول حرب الانفاق إلى المصلى المرواني أسفل المسجد الأقصى المبارك، تماماً كما حاول الاحتلال الصهيوني الوصول الى المرواني في السبعينيات، لكنه فشل، بعد تصدي الأوقاف الاسلامية للنفق وردمه".
|
|
رسم لعين سلوان داخل النفق |
صيام المرابط في دكانه بمحيط نفق وادي حلوة يأبى الاستسلام للمستوطنين |
**متحف دافيدسون...اثارة العواطف بدمج التقنيات الحديثة بالتاريخ التوراتي
وفي نهاية الجولة، زارت مجلة آفاق متحف دافيدسون، الذي افتتح عام 2001، والمجاور للسور الجنوبي على بعد بضعة امتار فقط الى الشرق من باب المغاربة، وهو بهذا الموقع يكون داخل الارض الوقفية التي وضعت السلطات الاسرائيلية يدها عليها بالقوة. وكما جاء في مقال نُشر في مجلة الدراسات الفلسطينية صيف 2004 لـ أ. يوسف النتشة الباحث في العمارة الإسلامية، فهدف المتحف هو توصيل التخيل الذي يصعب تخيله في اذهان الزائرين الى ما يدعى الهيكل الثاني، وخصوصا بعد زيارة المسجد الأقصى، لذا فقد جاء المتحف ليساعد ويسهل تخيل الهيكل بعد او قبل زيارة ما يعرف بالحديقة الأموية وحيث ان الموقع اثري وداخل حديقة أثرية فأغلب أجزائه تقع تحت مستوى سطح الارض الحالي، حيث الحفر وصل الى 13 متراً وهو مكون من ثلاثة مستويات تمزج بين الحديث والقديم بأسلوب ناجح يعتمد الاضاءة العصرية واللوحات الزجاجية للافتات الارشادية، التي تركز على تاريخ المنطقة في العصرين الروماني والأموي.
ويعرض هذا المتحف احدث ما يمكن اعتماده من وسائل سمعية وبصرية وتكنولوجيا سخرت لخدمة اهداف هذا المركز، ومن ضمن ذلك فيلم قصير يعرض زيارة متخيلة للهيكل في الفترة الرومانية منذ يوم كان فكرة الى ان اصبح واقعاً، ويمزج الفيلم بين المتخيل "اعادة البناء" والمكتشف الباقي من الآثار، والفيلم يتبع اسلوب هوليود حيث صيغ بتصرف كبير وعاطفة جياشة، وكأن سكان فلسطين والقدس في العصر الروماني، كانوا كلهم يهودا يقدسون الهيكل، ولا مجال لديانة مغايرة او ثقافة مغايرة.
وأضاف النتشة بأن هذا المتحف ما هو إلا وسيلة من وسائل دس السم في العسل، يهدف بالنهاية بعد ان يتسلح بالحفريات والعلم، الى خدمة غرض سياسي يسوغ ويشرع الاحتلال الإسرائيلي لمدينة القدس، لتلك المنطقة الدينية المقدسة والحساسة.
ولا شك في ان هذا المتحف، وفق النتشة، ما هو إلا حلقة من الحلقات المحكمة المعدة لغسل العقول بطريقة علمية وعملية بعيدا عن الصراخ ومخاطبة الذات، حيث يمهد لحشد الامكانات والدعم لإعادة بناء الهيكل على حساب ما هو قائم من مبان عربية وإسلامية في منطقة المسجد الأقصى، ومن الواقع فإن من الصعوبة بمكان، ان يزور المتحف عامة الجمهور وخصوصا السياح الغربيين، دون ترك انطباع مقنع بما يشاهدون، يثير لديهم شجن وخاصة لكثير من المرتبطين بالعهد القديم.
|
|
عين سلوان المسيطر عليها إسرائيليا |
مشهد تاريخي قديم لعين سلوان |
الخطر في عدم المعرفة الكافية بمخططات الانفاق
وعودة للحفريات، وباضاءة سريعة عليها، وكما جاء في مقال لـ د. نظمي الجعبة نشر في مجلة حوليات القدس لعام 2009 الصادرة عن مؤسسة الدراسات المقدسية، فإن ظاهرة الانفاق ليست بجديدة في مدينة مثل القدس حيث تحتوي على الكثير من الطبقات الأثرية ومن المباني المتراكم بعضها فوق بعض، كما ان طبوغرافيا المدينة أدت دورا مهما في تشكيل الأنفاق، وهناك انواع متعددة منها.
-ما جاء نتيجة بناء جسر بين منطقتين مرتفعتين بينهما واد، وقد تراكمت فيه الاتربة على مر العصور، ونسي امره الى ان اكتشف في إحدى الحفريات التي تمت منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
- النوع الثاني من الانفاق جاء نتيجة التمديدات الصحية لإزالة مياه الامطار او المياه المبتذلة، او حتى لجر او توزيع المياه العذبة، اذ ربطت المدينة على مر العصور بشبكات من هذه التمديدات التي نسي امرها بعد التمديدات الحديثة، وقد جرى اعادة اكتشافها قديما او حديثاً، وثمة انفاق جاءت نتيجة رفع مستوى المباني، وخصوصا في المنطقة المحيطة بالحرم الشريف ويمكن اعتبار النفق الذي فتح على امتداد الجدار الغربي للحرم الشريف ضمن هذه المجموعة.
-النوع الثالث: الانفاق التي يجري حفرها من جديد ولم يكن لها اصل تاريخي مثل مخطط ربط حارة اليهود بساحة البراق او مخطط ربط مغارة سليمان ببيت شارون.
وذكر د. الجعبة في ذات المصدر، بأن نفق وادي حلوة الواقع على طول طريق تلك المنطقة التي يحمل إسمها يربط بين سلوان والبلدة القديمة ويطلق عليه اسم مطلع داوود، وقد انتشرت المستعمرات على امتداد هذا الطريق وذلك بعد السيطرة على 15 مبنى تقريباً، ويهدف المشروع الاستيطاني الى تفريغ وادي حلوة كله من السكان، والى ربط عين سلوان بطريق تقود من باب المغاربة في سور القدس عند جدار المسجد الاقصى الجنوبي، الى عين سلوان ومنطقة البستان، وهذه الطريق تعتبر مركزاً لحركة المرور المكثفة بالسيارات والمشاة، وقد بدأ الحفر في النفق في سنة 2004، تحت خيمة محروسة بشكل سري، وتم الانتهاء به في اب 2011.
وأضاف د. جعبة في حوليات القدس: "اخطر ما في الانفاق هو عدم معرفتنا بالمخططات، لأن العمل فيها يظل قيد الكتمان، مشيراً في ذات المصدر إلى ارتباط الانفاق في البلدة القديمة ومحيطها بالحركات الاستيطانية، وفي محاولة لحسم الوضع على الارض من طرف واحد تأخذ الحملة المظاهر التالية: - استخدام الحفريات الاثرية ذريعة للتدخل والسيطرة فبعد الآثار يأتي الاستيطان وتكثيفه في كل من راس العامود وسلوان ووادي حلوة والشيخ جراح وطبعا البلدة القديمة، وطرد الفلسطينيين من سلوان وحي البستان والشيخ جراح، عبر هدم المنازل في المناطق المستهدفة استيطانياً
وفي ذات السياق ختم د. الجعبة، بأن المستوطنين تمكنوا من السيطرة على اكثر من 15 عقاراً في وادي حلوة، كما قامت بلدية القدس وسلطة الآثار الاسرائيلية بالسيطرة على اغلبية المساحات المفتوحة، وقد قدرت مساحة الحيازات هذه بأكثر من ثلث مساحة وادي حلوة، وأشار د. الجعبة بأن الاستيطان في وادي حلوة هو مجرد حلقة في سلسلة من المخطط الاستيطاني القاضي بعزل معظم اجزاء البلدة القديمة عن التواصل السكاني مع الفلسطينيين الذين يعيشون في محيطها، ويتم ذلك مرة بإسم الحزام الاخضر الذي سيغلف البلدة القديمة، ومرة اخرى باسم الآثار وإنشاء المحميات الثقافية.
|
|
مواصلة عمليات الحفر الإسرائيلية، والمخيف في هذه العمليات هو سيناريو الحفر أسفل الأقصى |
يواصل خبراء الآثار الإسرائيليون عمليات الحفر في حديقة القصور الأموية |
*للقراءة عن القصور الاموية ودار الامارة راجع العدد الثالث والخمسين من مجلة آفاق البيئة والتنمية
http://www.maan-ctr.org/magazine/Archive/Issue53/topic3.php
** للإطلاع اكثر على موقع متحف دافيدسون الاسرائيلي وتزوير التاريخ العربي الاسلامي لصالح الرواية التوراتية:
|