مجلة الكترونية شهرية تصدر عن مركز العمل التنموي / معا
حزيران 2013 - العدد 55
 
Untitled Document  

روايات النكسة: هلع وموت في كومة قش واحتماء بظل البرتقال!

القدس قبل النكسة

عبد الباسط خلف
خاص بآفاق البيئة والتنمية

أكملت الدولة العبرية احتلال فلسطين، في حزيران عام 1967، فيما زالت اللحظات الحالكة حاضرة في ذاكرة من عاصرها، بتفاصيلها الدقيقة، رغم مرارتها.
تسجل "آفاق البيئة والتنمية" لحظات الاحتلال، وتنقل حال البلاد والعباد والضياع والحصاد المر.

مُرٌ متجددٌ
يسترد عاصم توفيق دراغمة رسم لحظات الضياع، بالقول:" كنت أستاذاً في مدرسة ثانوية بمدينة نابلس، وعرفنا قبل الخامس من حزيران أن الحرب ستقع؛ فإذاعة صوت العرب التي تبث من القاهرة، وصوت أحمد سعيد، وخطابات الرئيس المصري جمال عبد الناصر، أشعلت الأوضاع، وجعلتنا نتوقع كل شيء. قبلها، تشكلت في معظم المدن الفلسطينية لجان للدفاع المدني، والإنفاذ ووزعت الأسلحة الخفيفة على بعض الشبان، ونصب البعض رشاشات من نوع (برين) التي كانت تُثبت على قاعدة. ولم يتلق الشبان، الذين حصلوا على الأسلحة، أي تدريب عسكري في السابق."
يضيف: "لا أنسى لحظات تدريبنا على إطفاء الحرائق، حين أشعل الضابط  المسؤول عن التمرين، ناراً وطلب منا إخمادها، فما كان من أحد المشاركين معنا، إلا وداسها برجليه، وقال: أنهيتها بدون إطفائية! لنضحك جميعنا دون توقف، رغم سخونة الموقف.
وفي الخامس من حزيران، شاهدت بعيني أحد الشبان، وهو يطلق النار على طائرة ميراج بمسدسه؛ ظناً منه أنه سيهزم إسرائيل بطلقاته!
يتابع: وقتها، كانت أجواء الاستعداد للحصاد على قدم وساق، أما حرارة الصيف فلا تُحتمل، وفر معظم الأهالي إلى بلدات بعيدة عن طوباس، وبعضهم أجبرته الإشاعات والحرب النفسية، ورعب الحرب على الفرار إلى الأردن. وشاهدت الدبابات الأردنية الساعة التاسعة صباحًا تقتحم مشارف مدينتنا، التي كانت بلدة وقتها"
وقد صل دراغمة إلى الفارعة يوم النكسة، واحتمى الأهالي بأشجار البرتقال. كانت كل أربع عائلات، وأكثر تجلس في ظل شجرة، وتظن أنها أكثر أمنا من البيوت.
يتذكر:" بتنا ليلة في البيارة، وجاء شقيقي مصطفى بجراره الزراعية وعربته الصغيرة، صعدت إليها عائلتي، وكانت مكتظة، اتجهنا إلى الشريعة ( نهر الأردن)، وتبعتهم أنا سيراً على الأقدام، وقطعناها وجه الصبح، قبلها، أقمنا ليلة في منطقة (مراح الفرس)، ولا أنسى كيف أنني وجدت في حلة (كومة) القمح عجوزاً ميتة، كان اسمها أم زيدان، وكأنها تحتمي من الطائرات، بما تيسر لها. وفي الصباح، جاء رجال ونقلوا جثتها على ظهر حصان. ووصلنا إلى منطقة (الكريمة)، وأقمنا في إربد مدة شهرين".
والمفارقة التي يقدمها دراغمة، أن بيارات البرتقال بمعظمها، أما جفت، أو اقتلعها أصحابها، بينما بقيت الذكرى السوداء حاضرة.
يعود ليرسم ملامح السابع من حزيران:" إطلاق نار، هروب، طلاب التوجيهي لم يكملوا آخر إمتحانين، اختلاط في التقدير، إشاعات متداخلة، اعتقاد من البعض بأن الاحتلال  ليس إلا  جيشا  قادما من الجزائر لتحرير البلاد، مشاهد قاسية على ضفتي النهر، البحث عن مناطق المياه الضحلة، أو ما كنا نسميه (المخاضات)، وأشهرها مخاضة أبو السوس."
احتاجت "رحلة" صوافطة ست ساعات حتى وصل الضفة الشرقية (الأردن)، لكنه عاد يوم الثامن من حزيران إلى فلسطين برفقة فايق أبو الحسن، وفي الطريق نصحه كبار السن أن لا يرجعوا إلى محيط نابلس، خشية تكرار قتلهم كما فعل الاحتلال في أول أيامه بالشهداء: عبد عطية، ومطر الشريدة، وعلي أبو القرون، حين قتلهم بدم بارد. فعادوا إلى الأردن ثانية.

جنين بين عامي 1950 و1960
جنين قبل النكسة

أيام عصيبة
وقال محمد التاج، الذي ولد عام 1960:" استيقظنا في ذلك اليوم من نومنا، أردنا أن نذهب إلى الحارة كي نلعب، فمنعتني أمي أنا وأخوتي الثلاثة الخروج إلى (الحوش)، وكان أبي يعمل في دولة الكويت. بعد وقت قصير جاء سيدي توفيق إلينا، وطلب من أمي فوزية أن ترحل، فرفضت، لكنه قال لها: سنرجع إليكم في الصباح لنرحل، جهزوا أنفسكم.، فعاد جدي ثانية، غير أن أمي أصرت على موقفها. فقررنا أخيرًا أن نخرج إلى مغارة في أطراف البلد، كانت مليئة بالناس."
ولا تفارق ذاكرة التاج، كيف أن والدته أصرت على الإمساك بإخوته. كانت تقول لهم: لا تتركوني، ولن أترككم، إما نموت معاً، أو نظل معًا.
يضيف:" نمنا ليلة بالمغارة،  وجاء جدي، وأصر على رحيلنا إلى الأردن، كان يجر حصاناً حمراء وبيضاء، وتناوبنا على  ركوبه، أما والدتي فرفضت الصعود على ظهره، وظلت تمشي، وحين وصلنا إلى نهر الأردن، أصرت على أن تقطعه بمفردها، أما نحن فنقلنا جدي على ظهر الحصان على دفعتين، ووصلنا  الضفة الأخرى، وشاهدنا الكثير من الناس، أما الأطفال فكانوا أكثر رعباً."

أرض وسماء
يسترد خيري أحمد صوافطة  فصول الحكاية، فيروي: "كان عمري يومها 22 سنة، كنت في نابلس وأعمل  بدائرة البريد،  كنا نتوقع الحرب بعد إغلاق مضائق تيران وطرد الرئيس جمال عبد الناصر للقوات الدولية. عدت يوم الاثنين التاسعة صباحًا إلى طوباس، وشاهدت الناس ينتشرون على جانبي الطريق، وينتظرون وصول الجيوش العربية. وصلنا البلد، واستلمت رشاشا، ونصبته على ظهر دائرة البريد، وصرت أضرب به على الطائرات، لم أكن مدرباً، فيما كانت تشاهدني الحاجة آمنة التاج، كانت تزغرد كلما سمعت صوت الرصاص، وتظن وأنا معها أنني أسقطت الطائرات التي تنخفض في ارتفاعها، وتغير حركتها."
قبلها،  ظن صوافطة وأبناء جيله أن  السد الذي أقيم قبل اندلاع الحرب في منطقة عقابا، بدعم أمريكي وبكلفة عالية، سيكون الحدود الفاصلة بين العرب واليهود. بعدها، أمضى يوماً في ديوان عائلته، وراجت التحليلات والتوقعات، وكانوا يتوقعون استعادة فلسطين.
يكمل:" يوم النكسة جاء أخي من دمشق في إجازة، حيث كان يدرس التاريخ، وفي اليوم نفسه نزح مع أمي إلى الأردن، وكنت أشاهد  جيش الاحتلال يوزع الحلوى "الملبس" على الناس، وبقيت وحدي في طوباس، قبل أن أغادر إلى طمون، وسمعت الكبار في السن يقولون إن الجيش الذي دخل بلدنا هو جزائري، غير أنني قلت لصديقي الذي استضافني: الجيش هو إسرائيلي، وشاهدت نجمة داوود على الدبابة."
يتذكر صوافطة أول حادثة منع تجول في طوباس يوم السابع من تموز، وبعد شهر من سقوط البلاد، ويستعيد لحظات إصابة سلوى وجلال شهيل، وانقلاب الحافلة التي كانت تقل العائدين من الأردن إلى طوباس؛ لزيادة حمولتها. يلخصها بصوت منهك: "كانت لحظات قاسية جداً، وأصر أن أحكيها لأولادي دائماً، حتى لا يرحلوا عن فلسطين، مهما كانت الظروف".

سرو وفقوس
تقول ليلى سعيد، التي ترأس اتحاد المرأة في طوباس:" كنت في السادس الابتدائي يوم وقعت الحرب، وعشت في جو كله عسكر، فأخوتي وأبناء عمومتي  كانوا يخدمون في الجيش الأردني. واستمعت إلى توقعاتهم عن الحرب وحدوثها. ويوم السادس من حزيران، خرجنا إلى منطقة (الحفرية) بعيدًا عن المنزل، واحتمينا بأشجار السرو. وقتها، قرر والدي أن نبقى في البيت، ورفضنا الرحيل، حتى لا تتكرر مأساة خروجنا يوم النكبة من بلدنا. وعشنا لحظات قاسية، وانضم إلينا عدد من أهالي المخيم. كنا أطفالا نأكل الفقوس من مزرعة قريبة، وشاهدنا مناظر الرحيل والخوف."
تضيف: كانت الأوضاع فظيعة جداً، ولم أتصور أن تكون بهذه القسوة، واليوم أنقل اللحظات للأجيال الجديدة، كي تتمسك بأرضها، ولا تفكر بالرحيل.

ما بعد النكسة...
ما قبل النكسة...

ذاكرة من وجع
ويقول محمود أمين أبو لبادة:" كنت أشاهد الطائرات الإسرائيلية تقصف العربات العسكرية في معسكر الفارعة، فدمرت مدفعية الجيش الأردني، وشاهدت بعضها يحتمي من الطائرات، ويحاول التواري عن الأنظار. فيما سادت حالة من الهلع بين الأطفال والنساء، وفكرت مجموعات أخرى الرحيل، وبدأت معالم الجنود تختفي عن أنظارنا. أرشدت أخي أحمد الذي أراد النزوح إلى الأردن، وفي الطريق شاهدنا الطائرات الإسرائيلية تقصف سهول البقيعة، وكانت القنابل لا تحرق غير مساحات صغيرة من القمح والشعير. وقبل أن نصل إلى (خزق موسى) في الضفة الشرقية رأينا عشرات الجثث على الطريق، وفتشنا عن مخاضة (مكان بمياه قليلة العمق) لعبور النهر، ورأينا في دير علا داخل الأردن، الناس في حالة يرثى لها، من جوع، عذاب، وقلق."
أرشد أبو لبادة الجرار الزراعي أمامه، على نقطة لاجتياز النهر، غير أنه غرق في المياه. واحتفظ في ذاكرته بعشرات المشاهد والصور للنكسة بمرارتها، بعد أن  كان من أوائل أسرى طوباس بعد الاحتلال.

على ضفتي النهر
أما  فايز أبو ناصرية، فقد كان  في نابلس يوم السادس من حزيران، لتأدية امتحان الثانوية العامة، لكن أخبار النكسة قطعت اعتيادية "التوجيهي"،  وعاد إلى طوباس. يقول:" شاهدنا جوانب الطريق مليئة بالناس، وكأنهم ينتظرون لحظة انتصار. دخلت بلدنا، وبدأت أشاهد الكثير من الأحداث. أما أخي فترك تنك الكاز الذي كان يعمل على توزيعه، وقاد سيارة وراح ينقل النازحين إلى الأردن، وانتظرنا عودته ليأخذنا، لكنه تأخر، فخرجت مع أمي وأخوتي الساعة الخامسة صباح السادس من حزيران، ومشينا من وادي الفارعة القريب من نابلس، وأخذنا استراحة بمغارة قرب النصارية، وتابعنا حتى جسر الملاقي ورفضنا الركوب، ووصلنا بعد المغرب. كنا نشاهد الجثث على الشارع، ولا ننسى الجرحى وبعضهم كانت أمعاؤه خارج جسده."
بحسب أبو ناصرية، فإنه بات ليلة داخل الأراضي الأردنية، وبالقرب من جسر دامية، حتى صباح اليوم التالي لسقوط البلاد، وواصلوا السير، وركبوا  من السلط  حتى توقفوا ببيت عمهم في عمان. بعدها، اعتاد أبو ناصرية التنقل بين الضفتين، وصار خبيراً بالدروب، والمناطق الضعيفة في نهر الأردن، وحفظ مناطق وادي اليابس، وعين البيضاء، عن ظهر قلب.
يتابع:" في إحدى المرات، لما قطعنا الطريق  بجوار قرية بردلة بغور الأردن، وصل خبر لأمي أنني استشهدت مع 17 شابا من بلدتنا،  ولم يوقف دموعها  وحزنها الشديد غير عودتي سالماً، حينها أُغمى عليها."
ينهي: تغير حال نهر الأردن اليوم كثيراً، ويكاد أن يجف، والسبب أيضاً الاحتلال. ولا أصدق أثناء سفري هذه الأيام لعمان، الحال الذي وصل إليه النهر!

جبال محتلة
يروي الحاج محمد إسماعيل الخطيب، الذي ولد في يافا قبل النكبة وعاش هزيمة النكسة:" وزعوا في مدينة طوباس رشاشات على مجموعة شباب من البلد، قبل النكسة بيوم، وفي 6 حزيران، سمعنا أصوات إطلاق النار من جهة بلدة عقابا، بعدها شاهدنا دبابات وعربات عسكرية إسرائيلية، كنا نقف أمام مقهى أبو مرسال، وهربنا إلى مخيم الفارعة. وشفت بعيني الدبابات تطلق النار على معسكر (سميط)، وبعدها احتلوا جبال طوباس الواحد تلو الآخر، وكأنها مسبحة وانفرطت حباتها."
ينهي بحرقة: ضاعت السهول والجبال والأغوار، وانتهى كل شيء...

التعليقات

 

الأسم
البريد الألكتروني
التعليق
 
 

 

 
 
الصفحة الرئيسية | ارشيف المجلة | افاق البيئة والتنمية