ضربة قوية لشركات الكيماويات الزراعية: حظر الاتحاد الأوروبي استخدام المبيدات المنتمية لمجموعة neonicotinoids التي تتسبب بأضرار فادحة للنحل وللجهاز العصبي في الحشرات والإنسان
غموض وعدم وضوح منهجية منع بعض المبيدات أو السماح باستخدامها في الضفة الغربية وغزة
جورج كرزم
خاص بآفاق البيئة والتنمية
تحولت أوروبا، أواخر نيسان الماضي، إلى القارة الأولى التي يحظر فيها استعمال المبيدات الكيميائية المسببة لأضرار فادحة في النحل. فقد حظر الاتحاد الأوروبي استخدام المبيدات المنتمية لمجموعة neonicotinoids التي تتسبب بأضرار بالغة للجهاز العصبي في الحشرات والإنسان. وستعكف المفوضية الأوروبية على متابعة تنفيذ قرار الحظر الأوروبي. ويعد قرار الحظر نصرا لملايين الناشطين البيئيين الذين ازداد، في السنوات الأخيرة، خوفهم من ظاهرة الانخفاض الهائل في أعداد النحل. كما أن القرار يعد ضربة قوية لشركات الكيماويات التي تراكم أرباحا سنوية بمليارات الدولارات نتيجة بيع هذه المبيدات.
النحل وسائر الحشرات ضرورية لإنتاج الغذاء في العالم؛ إذ أنها تعمل على تلقيح نحو ثلاثة أرباع إجمالي المحاصيل.
ويعزو الخبراء أسباب الهبوط الهائل في أعداد الحشرات التي تلقح النباتات، إلى الاستعمال الكبير للمبيدات الكيميائية بالدرجة الأولى، إضافة إلى الأمراض وفقدان الموائل؛ علما أن السبب الأول (المبيدات) يتسبب في تفاقم السببين الأخيرين. وقد وجدت الأبحاث العلمية علاقة سببية قوية بين استعمال مبيدات neonicotinoids التي تعتبر الأكثر استخداما في العالم، وبين موت أعداد هائلة من ملكات النحل والارتفاع الكبير في نسبة النحل الفاقد، أي النحل الذي لا يعود إلى خلاياه، بعد خروجه بحثا عن الغذاء.
وقد قررت المفوضية الأوروبية حظر هذه المواد، إثر توصل الهيئة الأوروبية لسلامة الأغذية (EFSA ) في كانون ثاني الماضي إلى نتيجة مفادها أن ثلاثة مبيدات تنتمي لمجموعة neonicotinoids وهي تحديدا: thiamethoxam ؛ Clothianidin ؛ و imidacloprid تشكل خطرا جسيما على النحل. وكمرحلة أولى، سيحظر استعمال هذه المواد لمدة سنتين على النباتات التي يتغذى النحل على أزهارها، مثل الفاصوليا والذرة وعباد الشمس، إضافة للنباتات التي تستخدم بذورها لاستخراج الزيوت، كالقطن على سبيل المثال.
إثر قرار الاتحاد الأوروبي، زعمت شركة "سينجنتا" التي تعد من أكبر منتجي هذه المبيدات، قائلة: "هذا القرار يستند إلى فرضيات علمية خاطئة، وهو يتجاهل العديد من الأدلة الميدانية التي تشير إلى أن مبيداتنا لا تسيء لصحة النحل. على الاتحاد الأوروبي أن يتعامل مع الأسباب الحقيقية للأذى الواقع على النحل، وهي الأمراض والفيروسات وفقدان الموائل"!
منهج عشوائي
في السنوات الأخيرة، بادرت بعض الدول، بشكل فردي، إلى حظر استعمال المبيدات المذكورة أو بعضها. أما في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكما بين كاتب هذه السطور في تقرير سابق نشر في آفاق البيئة والتنمية في عددها الصادر في كانون أول 2012، فإن حظر تداول مبيد imidacloprid ، كما بعض المبيدات الأخرى، أو السماح باستعمالها في مناطق السلطة الفلسطينية، يتم، أحيانا، بشكل عشوائي ولا يستند إلى منهج علمي واضح؛ فيمنع مبيد محدد في سنة معينة، ثم يعاد السماح باستعماله في سنة أخرى. وعلى سبيل المثال، منعت وزارة الزراعة الفلسطينية عام 1997 (جريدة الأيام 24 / 11 / 1997) استعمال مبيدي "جاوتشو" (الذي يحوي المادة الفعالة imidacloprid المسرطنة، والمسببة لتشوه وراثي في كروموسومات الكرات اللمفاوية) ومبيد ميتاك" (الذي يحوي المادة الفعالة amitraz التي تتلف الجهازين التناسلي والعصبي)، وثبتت الوزارة منعهما مرة أخرى في "دليل المزارع" الذي أصدرته عام 1999. لكن الوزارة سمحت باستعمال مبيد "ميتاك" عام 2010، أي بعد مرور 13 سنة على منعه!! (دليل مبيدات الآفات المسموح تداولها لعام 2010). أما دليل مبيدات الآفات المسموح تداولها لعام 2005 فسمح باستعمال مبيد الجاوتشو!! علما أن وزارة الزراعة، وقبل ذلك بسبع سنوات، منعت تداول وبيع ذات المبيد. ثم في سنوات ما بعد 2005 منع استخدام "الجاوتشو" مرة أخرى شكليا بذات الإسم التجاري؛ إلا أن الترويج الرسمي لاستعمال ذات المبيد الذي يحوي على ذات المادة الفعالة (imidacloprid ) وذات التركيز لا يزال متواصلا إلى يومنا هذا بأسماء تجارية أخرى. فدليل مبيدات الآفات الزراعية المسموح تداولها لعام 2012 يوصي باستخدام مبيد "جاوتشو" تحت أسماء تجارية أخرى ("كونفيدور"، "كودكود"، "كومودور"،"كوهنير"، و"إماكسي") التي تصنعها شركات Lied Chemical ، Tapazol ، Chemia Spa ، Makhteshim ، وRotam China ) على التوالي. وهذه المبيدات التي تحوي على المادة الفعالة (imidacloprid ) هي عمليا مبيد الجاوتشو ذاته، والاختلاف فقط بالأسماء التجارية والشركات المنتجة. بل إن الدليل المذكور (لعام 2012) يوصي باستخدام ذات التركيز (لمادة imidacloprid ) المذكور في حالة "الجاوتشو" في دليل العام 2005، وتحديدا ( g/l 350). والسؤال الذي طرحته آفاق البيئة في حينه هو: لماذا مُنِع مبيد "الجاوتشو" الذي تنتجه شركة باير الألمانية، وسُمِح بمواصلة استعمال ذات المبيد بأسماء تجارية أخرى ولشركات أخرى؟ على أي حال، المشكلة لا تكمن فقط في كمية أو تركيز المادة الفعالة بالمبيد، بل في نوعية المادة الفعالة ودرجة سمية المبيد والأمراض الخطيرة التي قد يتسبب فيها.
الربحية هي السبب الأساسي والوحيد لتسويق المبيدات
وقد بين أيضا التقرير المذكور، بأن المشكلة الأساسية ليس فقط ضمان عدم استعمال المبيدات المحظورة، بل أيضا كيفية التعامل مع العديد من المبيدات "غير المحظورة" رسميا، كعدد كبير من المبيدات الفسفورية العضوية والكربمات وغيرها التي أثبتت الأبحاث العلمية استحالة تعامل المزارعين "الآمن" معها؛ إذ تشكل تركيباتها الكيميائية خطرا كبيرا على المزارعين، بسبب عدم فعالية "الثياب الواقية" التي تنصح شركات الكيماويات المزارعين بارتدائها أثناء الرش، والتي، أي "الثياب الواقية، تسمح، في كل الحالات، باختراق نسبة عالية من هذه المبيدات إلى جسم المزارع أثناء عملية الرش الاعتيادية؛ ناهيك عن التكلفة العالية جدا لإدارة هذه المبيدات واستحالة تطبيق التعليمات الخاصة باستعمالها "الآمن"، ضمن الظروف البيئية والمناخية والمعيشية السائدة في بلدنا؛ علما أن معظم المبيدات تصنع في الدول الغربية بما ينسجم مع ظروفها البيئية والمناخية والمعيشية المختلفة تماما عن ظروفنا العربية عامة، والفلسطينية خاصة. فعلى سبيل المثال، المبيدات السامة جدا (درجة سميتها a أو b ) "المسموحة" والمستعملة حاليا (عام 2013) في الأراضي الفلسطينية، مثل "سوبر أسيد"، "نماكور" وغيرهما، يجب لدى استخدامها (وبحسب تعليمات الشركات المنتجة!!) لبس كمامة قابلة للحمل تغطي كل الوجه وتتصل باسطوانة مملوءة بالأكسجين (كما رواد الفضاء!!) ووزن هذا النوع من الكمامات ثقيل؛ علما أن تكلفة الإجراء الوقائي لاستعمال أي من هذه المبيدات باهظة جدا (بضعة آلاف من الدولارات)، لا يستطيع معظم المزارعين، إن لم يكن جميعهم، تحملها. وإجمالا، لدى التعامل مع مبيدات سميتها مرتفعة جدا (a أو b ) في أميركا الشمالية والدول لأوروبية، يَرُش هذه المبيدات مهنيون متخصصون، وفي حال تعذر ذلك، تستخدم بدائل أقل خطرا وسمية. أما في الضفة والقطاع، فنجد المزارعين يستخدمون مثل هذه المبيدات دون أي إجراء وقائي، أو ربما قد يلبس بعضهم قفازات عادية وقناع واق بسيط للوجه. والسؤال الذي طرحه التقرير آنف الذكر (المصدر السابق) هو: ما دام أن شروط استعمال هذه المبيدات السامة جدا وإجراءات الوقاية الخاصة بها، غير متوفرة لدى المزارعين، لماذا لا تسارع وزارة الزراعة لحظر استعمالها في الضفة والقطاع حظرا مطلقا، رأفة بصحة المزارعين والمستهلكين إجمالا؟
وخطورة استعمال المبيدات التي يقال أنها "مسموحة"، تكمن في أن شركات الكيماويات المنتجة أو المسوقة هي غالبا ما تكون المصدر الأساسي لمعلومات المزارعين أو المهندسين الخاصة بهذه المبيدات؛ علما أن أبحاثا كثيرة أثبتت عدم دقة أو حتى خطأ معظم هذه المعلومات التي هدفها الأول والأخير الدعاية التجارية للسلع الكيميائية.
وعلى سبيل المثال، بالرغم من أن البلاستيك الزراعي يهدف، ضمن أمور أخرى، إلى عزل المحاصيل عن الآفات وبالتالي التقليل منها إلى الحد الأدنى، فمن المدهش حقا رؤية العديد من المزارعين الفلسطينيين يرشون المبيدات على الخضروات في البيوت البلاستيكية (بناء على تعليمات المرشد الزراعي أحيانا)، دون معرفتهم لسبب الرش، بل وأحيانا كثيرة ترش الخضروات وهي خالية من الآفات!
وشدد التقرير المذكور على أن شركات الكيماويات الزراعية، الإسرائيلية وغيرها، إلى جانب وكلائها المحليين، يهدفون بالدرجة الأولى إلى مراكمة أكبر قدر ممكن من الأرباح، ولو على جثث المواطنين المستهلكين البسطاء. فالربحية تأتي في أول سلم أولويات شركات الكيماويات الزراعية، أما الاعتبارات الصحية والإنسانية والبيئية فتأتي في المقام الأخير؛ بمعنى أن الربحية تعد السبب الأساسي والوحيد لزيادة إنتاج وتسويق المبيدات.
|