"نباتات فلسطين": أسرلة، تدمير، وجهل ...والمطلوب سرعة في الإنقاذ! الفكر البيئي في كليلة ودمنة
 

حزيران 2009 العدد (15)

مجلة الكترونية شهرية تصدر عن مركز العمل التنموي / معا

June 2009 No (15)

 

لماذا "آفاق البيئة والتنمية" ؟

منبر البيئة والتنمية الراصد البيئي

أريد حلا

أصدقاء البيئة

شخصية بيئية

تراثيات بيئية

اصدارات بيئية - تنموية قراءة في كتاب البيئة والتنمية في صور الاتصال بنا الصفحة الرئيسية

 

تراثيات بيئية:


 

 

182 نوعا في جبل واحد وضعف ما لدى بريطانيا

"نباتات فلسطين":  أسرلة، تدمير، وجهل ...والمطلوب سرعة في الإنقاذ!

 

تقرير:  محمود الفطافطة

خاص بآفاق البيئة والتنمية

 

صراع الفلسطينيين مع الاحتلال عميق الجذور، متعدد الأشكال. ومن ميدان هذا الصراع "الأرض"، وبسببه دارت مقومات المواجهة ومسارات التحدي ."الصراع على النبات" شكل أحد مفاصل ومجريات هذا الصراع؛ حيث إن إسرائيل،ومنذ البواكير الأولى لاحتلالها لفلسطين التاريخية حاولت ربط كل نبات فلسطيني باسم إسرائيل وما ورد في التوراة من أسماء نباتات لإبرازها في الثقافة اليهودية.

 

"أسرلة النبات"

فعلى سبيل المثال، لا الحصر، يذكر الخبير في النباتات الفلسطينية د. بنان الشيخ أن إسرائيل أطلقت اسم النبتة الفلسطينية "رتم" على "مركز معلومات النبات الإسرائيلي"، فيما قامت بتسمية "شجرة البلوط" "ألون"، و"اللوف الفلسطيني" لوفيت أرض إسرائيل"، عدا عن تزويرها وتحريفها لطبيعة فلسطين، وبما فيها من نباتات؛ فمؤخراً اختارت إسرائيل زهرة برية فلسطينية شهيرة لتمثيلها في أولمبياد الصين، بعد أن تم ترشيح عدة نباتات وزهور أخرى. وتنافست كل من زهرتي "قرن الغزال" و"شقائق النعمان" بعد أن وصلتا إلى التصفيات النهائية، في مسابقة شهدت إقبالا من جمهور المصوتين، لاختيار إحداهما. وتم في النهاية اختيار قرن الغزال مع شجرة الزيتون التي فازت بدورها، من بين عدة أشجار، لتمثيل إسرائيل في "حديقة الورود" التي افتتحتها الصين بمناسبة استضافتها للألعاب الأولمبية وبالتزامن معها.

وتعتبر "قرن الغزال" من أجمل الأزهار البرية التي تنبت في فلسطين التاريخية، بين البحر الأبيض المتوسط، ونهر الأردن، وتتخذ أوراقها شكل القلب، وألوانها بيضاء مزهرة، وفي بعض المناطق تضاف الزهرة وأوراقها إلى أطباق محلية فلسطينية. ولجمال هذه الزهرة الأخاذ، أطلقت عليها أسماء كثيرة، وتكاد كل منطقة في فلسطين تعرفها باسم معين، فبالإضافة إلى اسم الزوزو الذي يطلق عليها في ريف القدس، فإن لها أسماء متعددة مثل: الزعمطوط، وعصا الراعي، وسيدو دويك الجبل، ومن أسمائها بخور مريم، نسبة إلى السيدة مريم العذراء. ولا تقل شقائق النعمان الحمراء عنها جمالا، وهي أكثر شهرة منها. فقد اتخذت اسمها من النعمان بن المنذر، ويطلق عليها الفلسطينيون أسماء مثل "الحنون" و"الدحنون"

 

ضعف ما لدى بريطانيا

ويبين كتاب (أزهار برية من فلسطين) من تحرير كل من د. اسحق جاد والباحث البيئي عماد الأطرش أن عدد نباتات فلسطين البرية تقدر بحوالي 2700 نبتة برية منها ما ذكر في العهد القديم وعرف آنذاك، ومنها ما تم تصنيفه قبل عشرات السنين، ومنها مازال موضوع اهتمام العلماء والباحثين. هذا العدد من النباتات يمثل حوالي ضعف عدد الأصناف النباتية الموجودة في بريطانيا على سبيل المثال, والتي تبلغ مساحتها أضعاف أضعاف مساحة فلسطين بكثير.

وتعد طبيعة فلسطين من أهم الأراضي في العالم من حيث تنوع الغطاء النباتي؛ فهذه الأرض المقدسة وجد فيها ، ومنذ القدم، نباتات لم توجد في أراض غيرها. يقول في هذا الشأن الرحالة المقدسي الشهير محمد بن أحمد المقدسي في أواخر العاشر الميلادي، (الموسوعة الفلسطينية،القسم الثاني، ص477):  "اعلم أنه اجتمع بكورة فلسطين ستة وثلاثون شيئا ولا تجتمع في غيرها. فالسبعة الأولى لا توجد إلا بها والسبعة الثانية غريبة في غيرها والاثنان والعشرون (الباقية) لا تجتمع إلا بها. وقد يجتمع أكثرها في غيرها . فالسبعة الأولى قضم قريش "الصنوبر الصغير"، والمعنقة " نوع من الكمثرى"، والعينوني والدوري "نوعان من العنب"، وانجاص الكافوري وتين السباعي والدمشقي. والسبعة الثانية القلقاس والجميز والخرنوب والعكوب والعناب وقصب السكر والتفاح الشامي . والباقي هو : الرطب والزيتون والأترج والنيل والراسن" نيات طبي"، والنارنج واللفاح والنبق" ثمر شجر الغبيراء" والجوز واللوز والهيلون والموز والسماق والكرنب والكماة والترمس والطري والثلج ولبن الجواميس والشهد وعنب العاصمي والتين التمري . وأما القبيط  فقد يرى مثله غير أن له طعماً آخر وقد ترى الخس غير أنه في جملة البقل".

 

182 نوعا في جبل واحد

ويوضح المؤلفان في كتابهما أن التوزيع النباتي في فلسطين قد لا يكون له مثيل في أي بلد آخر, فمثلا يوجد في منطقة القدس وحدها أكثر من ألف صنف نباتي متنوع.  كما أنه يوجد ، وفق ما يوضح د. الشيخ، 182 نوعا من النبات في جبل العاصي قرب قرية الهاشمية بمحافظة جنين وحده، مشيراً في الإطار ذاته إلى أنه يوجد في فلسطين 42 نوعا من النباتات الطبيعية في كل  م2.  كما يذكر الشيخ أنه يوجد في الضفة الغربية ما يقارب من 1595 نباتا طبيعيا، فضلاً عن وجود عدة أنواع لم تسجل بعد، منوهاً إلى أنه في جنوب الخليج هنالك نبات "الحنا" وشجرة جديدة لم تكن معروفة .وهنالك العديد من النباتات شبه النادرة في فلسطين، يذكرها د. الشيخ في نبتة "الحنا"، والتي يقال إنها انقرضت، وموطنها منطقة أريحا؛ وهناك "سوسن فقوعة" وهي نبتة متفردة عالمياً، ومتوطنة في منطقة فقوعة وجلبون بمنطقة جنين، إلى جانب كل من "الزقوم" والأراك "السواك" ، مبيناً أن وجود بعض هذه الأنواع قد يكون غريباً لأن المناخ المداري غير موجود لدينا.

 

لعنة جدار وجهل مواطن

وبخصوص ما خلفه وسببه الجدار من تدمير للغطاء النباتي في فلسطين يوضح د. الشيخ أن جدار الفصل العنصري خلال مساره المتموج في الضفة الغربية اقتلع العديد من أنواع النباتات، ومنها نباتات نادرة "كسوسن فقوعة" على سبيل المثال. ويبين أنه بفعل الجدار فقد تم تدمير النباتات والتربة وإدخال نباتات غريبة غير مرغوب فيها، والتي تشكل عنصر تنافس مع النباتات الطبيعية.هذا الجدار، وفق د. الشيخ، قضى على مئات النباتات الطبيعية التي تحتاج إلى سنوات طويلة لتعود كما كانت، منوهاً إلى أن جدار الفصل يمثل عاملاً مدمراً في تغييب الخريطة النباتية والمشهد الحيوي لطبيعة فلسطين.

والى جانب ما يفعله الجدار من تدمير للغطاء النباتي الفلسطيني، هنالك عدة عوامل شكلت معاً أداة مدمرة لهذا الغطاء، أهمها: السيطرة الإسرائيلية على مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية عبر الاستيطان والتجريف والإغلاق والطرق الالتفافية إلى جانب الرعي الجائر، وكثافة الزراعة، والبناء، وقطع الأشجار، علاوة على عدم الوعي بقيمة النباتات الطبيعية وأهميتها في الحفاظ على الطبيعة. وتقتلع الجرافات الإسرائيلية، كل يوم تقريبا، أعدادا كبيرة من أشجار الزيتون المعمرة، لإقامة مقاطع من جدار العزل الاستيطاني والتي يطلق عليها محليا اسم (الزيتون الرومي) لقدمها، والتي تعود للعهد الروماني في فلسطين.

 

التنوع النباتي...أسباب وفوائد

إلى ذلك، فإن أسباب التنوع  النباتي في فلسطين تعزى إلى عدة أسباب منها الموقع الجغرافي لفلسطين كمنطقة التقاء القارات الثلاث, والطبيعة المناخية والتنوع المناخي في مساحات قليلة، فضلاً عن أن  فلسطين كانت مسرحا لصراع كثير من الحضارات وقد تم إدخال العديد من الأنواع النباتية إما قصدا بواسطة الإنسان أو عن غير قصد بواسطة الحيوانات.

ويلعب الماء دورا أساسيا محددا في نمو النباتات في فلسطين, وبسبب تفاوت الكميات المتساقطة من الأمطار من منطقة لأخرى فان النباتات البرية تكيفت وتأقلمت مع هذه التغيرات في نسبة سقوط الأمطار كزيادة امتصاص المياه من حوض الأرض وتقليل التبخر, حتى إن الأشجار المثمرة غيرت من شكلها سواء كان في شكل الساق أو الأوراق أو الجذور وذلك لمقاومة الجفاف وتقليل النتح والتبخر إذ تفقد عن طريقهما كميات ليست قليلة من المياه, وكذلك تحاول الاحتفاظ بكميات احتياطية من المياه لأشهر السنة التي تقل فيها كمية الأمطار.

ويورد كتاب (أزهار برية من فلسطين) معلومات مختصرة و صورا عن نحو 100 نوعٍ من النباتات, منها ما له فوائد طبية ، كان يستخدمها الأجداد للتطبيب مثل نبات (سماق الدباغين) الذي يعتقد انه مفيد ضد الإسهال المزمن حيث يستعمل ثمره في صنع مشروب حامض لهذا الغرض, ونبات (تفاح البحر الميت) الذي يستعمل سائله علاجا ضد العقم عند النساء ويقدر البدو هذه النبتة وتفرك النساء البدويات أجسامهن بالسائل الحليبي الذي ينزل من الشجرة لاعتقادهن أن ذلك يجعل الحمل سهلا رغم المخاطر، لأنه إذا لمس هذا السائل العين يمكن أن يسبب لها العمى, ولسان الحمل أو آذان الجدي الذي يستعمل كمضاد للإسهال ولتجليط الدم, والزعفران الشتوي الذي يعتبر مهدئا للمعدة والأمعاء وطاردا للغازات ويعمل على تنشيط الإدرار البولي وإفراز العرق ويستعمل مستخلصه المائي في علاج نزلات البرد, والحنظل الذي استخدمه الأطباء القدماء في تطبيب الإسهال.

 وللمريمية التي تستخدم على نطاق واسع فوائد صحية كتنقية الجهاز التنفسي, وتساعد في إفراز العرق من الجسم, وتمنع تكون الحصى في الكلى, وتساعد في تخفيف أمراض الروماتزم, وشرابها يمنع تساقط الشعر.المريمية جاءت  تسميتها عندما هربت سيدتنا مريم مع الطفل يسوع إلى مصر من الملك هيرودس جلست متعبة تحت ظل شجيرة و قصفت غصناً منها ومسحت وجهها بأوراقه حتى شعرت بالانتعاش بسبب شذاها، ثم قالت للنبتة: "لتكوني مباركة إلى الأبد"، ومنذ ذلك الوقت تدعى النبتة بالمريمية تخليداً لذكرى السيدة مريم، وهي حقيقة مباركة؛ لذا فإن النساء الفلسطينيات يقدرن المريمية و يحببنها معتقدات بأنها مليئة بفضيلة الصحة.

ومن النباتات الشهيرة جدا في فلسطين (الصعتر) أو الزعتر الذي يقال إنه يعالج التهابات الرئة والسعال الديكي ويسكن آلام المعدة ويداوي الأمراض الجرثومية في المعدة والأمعاء ومهدئ للأعصاب. وهناك تلك النبتة التي أهانها أهلها واخذوا يستوردونها من الخارج (البابونج) أو كما يسميها الفلاحون (القريعة) ويشرب سائلها المغلي لطرد البرد. وتستخدم (الجعدة) مرة المذاق لتخفيف آلام المعدة من الرياح.

 

الغطاء النباتي...تراث وصيحة إنقاذ

وفي السياق ذاته هناك أسماء لنباتات ذات دلالة لها علاقة بالميثولوجيا الفلسطينية مثل (زهرة الشمس الوردية) و(سيف الغراب) و(لحية التيس) و(آذان القط) و(الشقيق المقدسي) و(آذان الدب) و(دم الغزال) و(قراص كاذب) و(لسان الثور) و(قثاء الأنبياء) و(عين الأسد- أدونيس) و(آذان الدب) و (لبن الطير) و(قاتل الكلب) و(زهرة الجرب الفلسطينية وغيرها....

ومن النباتات الشهيرة المستخدمة في الأكل (بقلة مباركة) ومعروفة باسمها الشعبي (الرجلة)وذكر أن طبق (الرجلة) كان مفضلا لدى الزعيم القومي الراحل جمال عبد الناصر والذي تعرف عليها أثناء حصار (الفالوجة(خلال حرب فلسطين (1948), وهناك بقلة تعرف باسم (العكوب) تباع في الأسواق ويطبخ منها الساق والعروق والورق, وزهرتها عبارة عن رأس مزهر وهو يؤكل ويعتبره البعض طعاما فاخرا تفوق لذته الأرضي شوكي. كما أن هنالك(الزعتر البري) والتي يطلق عليها أيضا (زعتمانة) أو (القرنية) أو (البلاط الفارسي)وتستخدم مع الأكلات الشعبية وهي ذات رائحة عطرة وتختلف قليلا عن رائحة (الصعتر), وهناك من يستخدم أوراق (السلفيا الفلسطيني) بحشوها بالرز وأكلها.

وللحفاظ على الغطاء النباتي، يطالب د. الشيخ بضرورة تعميق الوعي المجتمعي بأهمية هذا الغطاء، لأن العمل على تدمير جزء منه يمثل تدميراً ليس هيناً للطبيعة بكليتها، إلى جانب التوعية الممنهجة في المدارس والجامعات ومؤسسات المجتمع المختلفة، وضرورة إعطاء الإعلام أولوية بهذا الشأن والتأكيد على أن الثروة النباتية تعتبر أهم المصادر الطبيعية لأية دولة. كما يطالب بضرورة استزراع جزء من النباتات في الحدائق المنزلية لتكون غير مقتصرة على الزعتر والنعناع والميرمية . والى كل ذلك يجب أن يكون هنالك قانون واضح يعالج واقع الغطاء النباتي ويسن عقوبات رادعة لكافة أولئك الذين يستهترون بالثروة النباتية

 للأعلىé


 

الفكر البيئي في كليلة ودمنة

 

علي خليل حمد                                                             

 

ينتسب عبد الله بن المقفّع ،الكاتب والمؤلف والمترجم العربي، إلى أصل فارسي؛ فهو من مواليد بلدة "جور" الفارسية؛ وعن الفارسية ترجم عدة كتب منها كتاب "كليلة ودمنة"، وعن اليونانية عدة كتب منها كتب أرسطو في المنطق؛ من مؤلفاته " رسالة الصحابة"، و " الأدب الكبير"، " والأدب الصغير" وغيرها؛ وقد اتهم ابن المقفّّع- لأسباب سياسية- بالزندقة وقتل حرقاً بأمر من الخليفة العباسي المنصور عام 759.

وُضع كتاب " كلية ودمنة"، وهو هندي الأصل، على ألسنة البهائم والطيور في هيئة حكاية إطاريّه، أي تتضمن تسلسلاً من الحكايات، فيها إرشادات وتوجيهات للحكام والوزراء والمستشارين؛ والكتاب منقول عن الفارسية، ويشتمل على إضافات قليلة من مترجِمه ابن المقفع.

وفضلاً عما تضمّنه الكتاب، بطبيعته، من تقاطع واسع بين الإنسان والحيوان في السّلوك والتفكير عبر الحكايات نفسها، وهو مسألة جوهرية في أخلاقيات البيئة، يلاحظ قارئ الكتاب حضوراً آخر للبيئة يتمثل في التشبيهات البيئية التي يشتمل عليها الكتاب عند طرحه بعض القضايا من اجل تدعيم وجهات نظره؛ من ذلك قوله في وصف من يقرأ الكتاب نفسه مكتفيا بمدلولاته الخارجية، دون الالتفات إلى رموزه ومعانيه العميقة:

"وكذلك الجهّال إذا اغفلوا أمر التفكير في هذا الكتاب، وتركوا الوقوف على أسرار معانيه، وأخذوا بظاهره. ومن صرف همتّه إلى النظر في أبواب الهزل، كان كرجل أصاب أرضاً طيبة حّرة وحبّاً صحيحا، فزرعها وسقاها حتى إذا قرب خيرها وَأَينعت، تشاغل عنها بجمع ما فيها من الزهر وقطعِِ الشّوك ، فأهلك بتشاغله ما كان أحسن فائدة وأجمل عائدة."

 

 ومن أمثله ذلك أيضا قوله:

"وإن أنفقه [يعني المال] في غير وجهه، ووضعه في غير موضعه، وأخطأ به مواضع استحقاقه، صار بمنزلة الفقير الذي لا مال له؛ ثم لا يمنع ذلك ماله من التلف بالحوادث والعلل التي تجري عليه؛ كمحبس الماء الذي لا تزال المياه تنصبّ فيه، فإن لم يكن له مخرج ومغيض ومتنفَّس يخرج منه الماء بقدر ما ينبغي، خرب وسال ونزَّ من نواحٍ كثيرة، وربّما انبثق البثق العظيم فذهب الماء ضياعاً."

من الحكايات الدالة على أهمية حماية البيئة الطبيعية، في كتاب كليلة ودمنة، حكاية "ملك النّيل "ونُقب الرّياح" التي تصوّر كيف يؤدي إخلال الإنسان بالتوازن البيئي لمصلحته الخاصة الى تدمير البيئة وإلى تدمير ذاته أيضا.

 

ملك النّيل ونُقب الرّياح

    "زعموا أنه كان على بعض نواحي النيل مَلِكٌ، وكان في بلده جبلٌ شامخٌ كثير الأشجار والنّبات والثمار والعيون. وكانت الوحوش وسائر الحيوانات التي في ذلك البلد يعيشون من ذلك وكان في سفح ذلك الجبل نقب يخرج منه جزءٌ من سبعة أجزاءٍ من جميع الرياح التي تهبّ من ثلاثة أقاليم ونصفٍ من أقاليم العالم كلّه وبالقرب من ذلك النقب بيت في غاية حسن البِناء والترصيف لم يكن له نظير في العالم كلّه. وكان الملك وأسلافه من الملوك يسكنون ذلك البيت والموضع، ولم يكن يتهيأ لهم أن يتحولوا منه .

وكان للملك وزيرٌ يشاوره في أموره؛ فاستشاره يوماً من الأيام وقال له: تَعْلمَ أنّا، بما قد تقدّم من أفعال آبائنا الجميلة، في نِعَم فائضة، وأمورنا تجري على محبّتنا. وهذا المنزل الذي نحن فيه، لولا هذا النٌُُّقب ولولا كثرة الرّياح لكان شبيهاً بالجنة. ولكنّ سبيلنا أن نجتهد فلعّلنا نجد حيلة يمكننا بها أن نسدّ فم هذا الّنقب الذي تهبّ منه هذه الرّياح؛ فإنّا إذا فعلنا ذلك كُنّا قد ورثنا الجنة في هذه الدنيا، مع ما يكون لنا من الأثر الجليل المؤبد.

قال الوزير: أنا عبدك ومسارعٌ لما تأمر به.

قال الملك: ليس هذا جوابي، قلْ ما عندك.

قال له الوزير: ما عندي في هذا الوقت جوابٌ غير هذا، لأن الملك أعلم وأحكم واشرف منّي. وهذا الأمر الذي ذكره لا يمكن أن يُعمل إلاّ بقوة إلهية. فأماّ الناس فلا يطيقون ذلك لأنه عظيم، وما سبيل الصغير أن يدخل في الأمر العظيم الكبير. فليتأمَّل الملك ما يريد أن يفعله؛ فإن علم أن له سبيلاً إليه ويكون عارفاً بما ينتج عنه من خيرٍ وشرّ معرفة صحيحة، وإلاّ فما سبيله أن يهتم به ولا يصرف عنايته إليه؛ فإن الكلام فيه الساعة سَهْل. فأما معرفة ما يؤول إليه من خير وشرّ معرفة صحيحة، فهو خفيٌّ عن الناس، صعب الإدراك، فلهذا ينبغي أن تُُنعم النظر لئلا يلحقك من هذا الأمر ما  لحق الحمار الذي ذهب يلتمس أن ينبت له قرنان فذهبت أذناه.

[ثم قصْ الوزير على الملك قصة ذلك الحمار]

قال الملك: قد سمعت مَثَلك هذا، وما سبيلك أن تخاف من هذا الأمر؛ فإنّه، والعياذ بالله، إن لم يتمَّ لنا ما نريده منه فلا بأس عليك وعليَّ. فنحن قادرون على خلاص نفوسنا من سوء عاقبته. فلمّا رأى الوزير الملك مُشتهياً لهذا الأمر لم يُماره[يجادله] بعدها فيه، ولكن دعا له.

ثمّ إن الملك أمر بالمناداة في جميع أعماله [ ما تحت حكمه] ألا يبقى صغير ولا كبير إلاّ ويجيئه في يوم كذا وكذا من شهر كذا وكذا بحِمل حطب. فعمل الناس على هذا؛ وكان الملك قد عرف الوقت الذي ينقص فيه هبوب الرياح. فلمّا كان في ذلك الوقت أمر الناس بِسَدّ النُّقب بالحجارة والحطب والتراب، وأن يبنوا عليه دكة عظيمة [جداراً عظيما يسدّ النقب]، ففعلوا ذلك. وامتنعت الرياح التي كانت تخرج من ذلك النقب، وفقد البلد كلّه نسيم الهواء وهبوب الرياح فجفّت الأشجار ونشفت المياه. ولم يمض ستة أشهر حتى جفّت العيون، ويبست كلّ خضراء في الجبل من الشجر والحيوانات، ووقع الوباء في الناس، وهلك خلق كثير. فلم يزل هذا البلاء بأهل البلد فوثب[ تمرّد وثار] من بقي منهم ممّن به رمق[ على الملك ووزيره] وزحفوا على القصر، وقتلوا الملك، ووزيره وجميع أفراد عائلته وتجّمعوا إلى باب ذلك النقب فقلعوا الدّكان[الجدار] والحجارة من الباب وطرحوا في ذلك الحطب ناراً، فالتهبت. فلمّا بدأت في اللهيب عاد الناس إلى مواضعهم. ثم إنّ الريح التي كانت قد اختفت في مدة السّنة أشهر خرجت بحميةٍ شديدة فطرحت النّار في سائر البلد. ودام هبوب الرياح يومين وليلتين، فلم يبق في ذلك البلد مدينة ولا قرية ولا حصن ولا شجرة إلا أحرقته النار."

[وفي تعليق على الحكاية السابقة يقول الكتاب:]

"وإنّما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن ما يتوارث ويسري [ينتقل] في الجنس صعب الزوال؛ ولكن سبيل الإنسان إذا أراد أن يباشر أمراً من الأمور، وكان بالقرب منه رجل حكيم، أن يسأله أوّلاً ويشاوره ويأخذ رأيه فيه؛ وإن لم يكن بالقرب منه، فسبيله أن يشاور العوامّ فيه ويطلب[ويطيل؟] البحث معهم والتفتيش؛ فإنه بهذا الطريق يمكنه أن يعلم ما في عاقبة هذا الأمر من الخير والشّر عندما يمعن في الفحص والتنقيب."

 

 للأعلىé

 

 

التعليقات

 
 

 

 

الاسم:
بريدك الالكتروني:
 
التعليق:

 

 
     
 

 االآراء الواردة في مجلة "آفاق البيئة والتنمية" تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز معا أو المؤسسة الداعمة.