+970 2295 4451

"عندما أرى مزرعتي،،، أشعر وكأني أريد احتضانها"

فايزة صورة للمرأة الفلسطينية الريادية والملهمة.

بعد سنوات من اليأس والنضال والعمل الدؤوب تكلل في تمكينها اقتصادياً من خلال تأسيس مزرعتها الخاصة، تزرع وتحصد وتنتج الخضراوات وتقوم ببيع منتجاتها للسوق المحلي والمصانع الفلسطينية.

نشأت فايزة في أسرة مزارعة مكونة من ستة أفراد في منطقة الأغوار الفلسطينية، وتربّت في كنف والدتها التي لم تكن فقط أماً، بل قدوةً في الصبر والعمل والارتباط العميق بالأرض. فقد ورثت عنها فايزة المهارات والمعرفة الزراعية، كما ورثت الإصرار والقدرة على التحمل وارتباطها بالأرض والزراعة، وهو ما شكّل لاحقاً حجر الأساس في نجاح مشروعها الزراعي الخاص. تميزت فايزة في دراستها، لكن كغيرها من الفتيات الفلسطينيات في بعض المناطق الريفية، اصطدمت بأعراف اجتماعية تقليدية فرضت عليها الزواج المبكر في سن السادسة عشرة. لم تكن راغبة في ذلك، لكنه كان القرار السائد في مجتمعها، ولم يكن لها حق الرفض. حرمت من مواصلة تعليمها المدرسي والجامعي، وتلاشى حلمها بإكمال تعليمها كما كانت تتمنى.

رغم تعقيدات الواقع الذي تعيشه النساء الفلسطينيات في المناطق الريفية تحديداً مناطق الأغوار والمناطق المصنفة ج، شكّلت تجربة فايزة مثالاً حياً على الصمود والإصرار في وجه التمييز والعنف المرتبطين بالسياقين الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. فنتيجة لتدهور الأوضاع الاقتصادية وغياب فرص العمل اللائقة في سوق العمل الفلسطيني، اضطرت فايزة للعمل في المستوطنات الإسرائيلية تحت ظروف قاسية، في بيئة عمل تفتقر لأدنى معايير الحماية والكرامة الإنسانية.

واجهت فايزة تحديات اقتصادية تمثلت في انخفاض الأجور، وعدم وجود عقود عمل رسمية أو تأمين صحي، إضافة إلى الاستغلال الممنهج لاحتياج النساء للعمل. أما على المستوى الاجتماعي، فقد واجهت ضغوطاً كبيرة نتيجة النظرة المجتمعية السلبية تجاه عمل النساء بشكل عام وتحديداً في المستوطنات، وهو ما أدى إلى ضغوط عائلية ومجتمعية وتهميشاً مضاعفاً، عرّضها لنوع مركّب من العنف، يجمع بين العنف القائم على النوع الاجتماعي، والعنف الناتج عن الاحتلال والانتهاكات التي يمارسها بحق المواطن الفلسطيني.

هذا الواقع أنتج تمييزاً ممنهجاً ضدها، سواء في بيئة العمل أو في المجتمع، وقيّد قدرتها على الحصول على حقوقها الأساسية كعاملة وكمواطنة فلسطينية، إلا أن إصرارها على التعلم وبناء ذاتها المهنية والاقتصادية مكّنها من كسر هذه الحلقة من التهميش والسعي نحو تغيير واقعها وواقع النساء في مجتمعها.

تمكنت فايزة من الحصول على منحة مالية ودعم فني مستمر من مركز العمل التنموي معاً من خلال برنامج التمكين الاقتصادي والاجتماعي، والذي غيَر حياتها وحياة أسرتها للأفضل، ولم يكل المركز عن تقديم الدعم الشامل واللازم من التمويل، الخبرات الفنية ومتابعة المهندسين الزراعيين لمشروعها الخاص، إضافة الى الدعم النفسي الاجتماعي والقانوني المستمر، والذي تم تصميمه وتنفيذه بعناية وبالتشاور مع النساء والأخذ بعين الاعتبار احتياجاتهن وأولوياتهن من وجهة نظرهن والواقع الذي يعشنه، فهن الأقدر على صياغة التدخلات بأصواتهن.

تمكنت من إنشاء مشروعها الخاص والذي تمثل بمزرعتها الخاصة، استمرت في محاولاتها في الخسارة والربح، تكللت الجهود بتمكنها اقتصادياً والذي انعكس على عائلتها أيضاً وامتد للمحيط الاجتماعي. تغيرت حياتها للأفضل، أثر ذلك إيجاباً على تقديرها لذاتها وامكانياتها وكذلك الأمر على علاقتها بزوجها وبالمحيط الاجتماعي، وتقسيم العمل بينهما أصبح مبنياً على احترام مفاهيم الشراكة والتعاون وتقسيم الأدوار لجميع المسؤوليات والواجبات والذي يعد تحدياً وتحولاً مجتمعياً وفي بعض الأحيان غير مقبول وعبء على الرجال يتعارض مع هويتهم الاجتماعية، بات زوجها شريكاً داعماً في هذا التحوّل، يشاركها العمل والإنتاج واتخاذ القرارات، في علاقة جديدة تقوم على التعاون وتقاسم الموارد، بعد أن أتاح تمكّنها الاقتصادي إعادة تشكيل أدوارهم ضمن أسس أكثر عدالة ومساواة.

لم يقتصر أثر المنحة المالية التي قدّمها المركز على تمكين فايزة وحدها، بل امتد ليشمل زوجها أيضاً، وأسهم في توفير فرص عمل لأربع نساء وثلاثة شبّان. فقد تمكن هؤلاء الشباب من ترك العمل في مستوطنات الاحتلال، وانطلقوا نحو تأسيس مشاريعهم الزراعية الخاصة، مستلهمين تجربة فايزة الملهمة التي لم تبخل في تشجيعهم ومساندتهم، بل حفّزتهم على استئجار أراضٍ زراعية والعمل عليها، كما فعلت هي في بداياتها، أيضاً تمكنت من بناء شبكة علاقات على مستوى السوق المحلي لتسويق منتجاتها، ووعيها التام لأي استغلال او إقصاء قد تواجهه، تسعى حالياً لتوسيع مشروعها الخاص، وتمكنت من تحقيق رغباتها وزوجها في توفير الرعاية الصحية اللازمة، تحقيق حلمها بالأمومة، ذلك الحلم الذي بدا في وقتٍ ما بعيد المنال ومستحيلاً بسبب الظروف الصحية والاقتصادية والنفسية التي أحاطت بهما، أيضاً تمكنت من شراء سيارتها الخاصة، أداء مناسك العمرة، وتؤكد فايزة على أهم إنجاز تمكنت من تحقيقه وهو الخروج من شبح العمل في المستوطنات الإسرائيلية والاستغلال والانتهاكات التي تعرضت لها والذي تتعرض له الكثير من النساء الفلسطينيات تحديداً، والفلسطينيين عموماً.

فايزة هي إحدى النساء الفلسطينيات التي استفادة من تدخلات مركز العمل التنموي معاً والذي يسعى الى تمكين النساء اقتصادياً وتوفير الفرص لهن، إيماناً من المركز في تحقيق مبادئ العدالة والمساواة لجميع المواطنين والمواطنات وتحقيق الشمول الاقتصادي والمالي والاجتماعي دون إقصاء أو تهميش لبناء الدولة الفلسطينية.

 

 

 

 

 

رحلة التحرر من الاستعمار والاستغلال البطريركي عبر الأرض والعمل

في قلب الأغوار الفلسطينية، حيث تتقاطع البنية الاستعمارية مع بنى القمع الاجتماعي والاقتصادي، تنبثق قصة فايزة باعتبارها شهادة حيّة على مقاومة مركّبة، ترفض الاستسلام لمعادلات الاحتلال والذي يعمق الأثر السلبي للقيود المجتمعية.

وُلدت فايزة في أسرة مزارعة، وفي بيئة يُصادر فيها الحق بالأرض والحرية والتعليم والعمل والتنقل، لكنها حوّلت هذا الواقع إلى ساحة نضال لا ينتهي.

رغم شغفها بالدراسة، وجدت فايزة نفسها ضحية لواحد من أكثر أشكال السيطرة الاجتماعية عنفاً: الزواج القسري المبكر، في عمر السادسة عشرة، نتيجة بنية اجتماعية تفرض على الفتيات الامتثال لدورٍ تم تحديده مسبقاً لهن، دون خيار أو صوت. حُرمت من حقها في التعليم الجامعي أيضاً، ومن حلمها بأن تكون امرأة فاعلة ومتعلمة، لكنها لم تسلم بالأمر الواقع، بل حملت هذا الحرمان كدافع مضاد، وكسؤال سياسي بامتياز: لماذا تُمنع النساء من الحلم والتقدم في مجتمعات واقعة تحت استعمار استيطاني يعزز استدامة السيطرة والتبعية؟

عملت فايزة في ظروف قهرية، كغيرها من آلاف النساء الفلسطينيات اللواتي اضطررن للعمل في المستوطنات الإسرائيلية، حيث تتجسد البنية الاستعمارية بشكلها الأوضح: أجور متدنية، غياب الأمان، الاستغلال، وامتهان لكرامة الجسد الفلسطيني. ما بين المستعمر الصهيوني والسماسرة الفلسطينيون على حد سواء، أدوات ساهمت في تعميق هشاشة النساء، ليصبحن أدوات إنتاج لا عاملات بحقوق.

لكن رغم كل ذلك، نهضت فايزة، وتحولت من ضحية لمنظومات متعددة من القمع، إلى فاعلة تُنتج قوتها بيديها. بدعم من مركز العمل التنموي "معًا"، تمكنت من كسر الحلقة الاستعمارية التي دفعتها نحو الهامش، وتأسيس مشروعها الزراعي الخاص. الدعم المالي لم يكن سوى بداية، الأهم هو الدعم الفني، النفسي، والقانوني الذي زوّدها بالأدوات اللازمة لتعيد امتلاك قرارها، وحقها في العمل الحر، وتحرير جسدها من موقع الاستغلال إلى موقع الإنتاج والعمل.

مزرعة فايزة لم تكن فقط مساحة للزراعة، بل حقلاً للمقاومة الرمزية والمادية. هناك، تمارس فايزة فعل البقاء، وتُعيد تعريف علاقتها بالأرض خارج منطق الاستعمار. علاقتها بزوجها تطورت أيضاً لتُصبح علاقة شراكة، في مجتمع لا يزال يرى في تقاسم الأدوار الأسرية عبئاً على "الرجولة". لكنه هو الآخر، تحرر من آثار التنشئة حين وجد في نجاح فايزة حافزاً للمشاركة والدعم، بل وشريكاً في القرار والإنتاج.

امتد تمكين فايزة إلى نساء أخريات، وفّرت لهن فرص عمل بديلة عن العمل في المستوطنات، وحررتهن من أشكال الاستغلال البنيوي. كما وسّعت شبكاتها في السوق المحلي، مدركة تماماً لديناميكيات السوق الفلسطيني الذي يهيمن عليه الرجال ومحاولات الإقصاء التي قد تواجهها.

اليوم، لا ترى فايزة في امتلاكها لسيارة، أو أداء مناسك العمرة، أو تحقيق حلمها بالأمومة، مجرد إنجازات فردية؛ بل أدوات رمزية لسيادة الذات، والانعتاق من قبضة المشروع الاستعماري الذي سعى لتفكيك المجتمع الفلسطيني وتهميش نسائه بشكل ممنهج.

لكن الإنجاز الأهم لفايزة، كما تقول، هو خروجها النهائي من "شبح المستوطنات"؛ من مواقع القهر والاستغلال، إلى فضاء الإنتاج والتحرر والسيادة. قصتها لا يمكن فصلها عن مشروع مقاومة استعماري-نسوي، يعيد تعريف الصراع في فلسطين: ليس فقط صراعًا على الأرض، بل على الجسد، وعلى الحق في الحياة الكريمة، والكرامة، والقرار.