; اصدقاء البيئة والتنمية
 
 
مجلة الكترونية شهرية تصدر عن مركز العمل التنموي / معا
حزيران 2011 العدد-36
 
:اصدقاء البيئة و التنمية

 

 

سببها ضعف نظام التهوية والتعرض للمواد الكيميائية
"المباني المريضة"!
العديد من العاملين أو القاطنين فيها يعانون من مشاكل تنفسية وصداع وصعوبة في التركيز

جورج كرزم
خاص بآفاق البيئة والتنمية

"الهواء الذي أستنشقه غير كاف".  هذه هي فحوى الشكوى الشائعة التي يرفعها العديد من العاملين لأخصائيي الصحة المهنية.  وغالبا ما يكون المبنى "المريض بيئيا" هو سبب مثل هذه الشكاوى.  وفي بعض الحالات، أجهضت بعض العاملات أو الموظفات الحوامل بضع مرات؛ والسبب، كما يبدو، تعرض المباني التي يعملن بها إلى ملوثات كيميائية من البيئة المحيطة القريبة؛ سواء أكان مصدر التلوث سيارات أو منشآت صناعية أو غير ذلك.
ويعرف "المبنى المريض" بأنه الحالة التي يعاني فيها عدد كبير من العاملين أو القاطنين في المبنى، من حكة في العينين والأنف، مشاكل تنفسية، صداع، صعوبة في التركيز، ضبابية في الرؤية أو إرهاق.  وفي معظم الحالات، تتضاءل أو تختفي هذه الأعراض الفورية بسرعة، مجرد الخروج من الغرفة المغلقة.  وفي حالات أخرى، قد تبرز المشاكل الصحية بعد بضع سنوات؛ إثر التعرض المتواصل لمصدر التلوث.  وتتجسد تلك المشاكل في أمراض مزمنة بالجهاز التنفسي، أمراض القلب والسرطان. 
وبالرغم من وجود هذه الظاهرة في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ إلا أنها لم تحظ بالاهتمام الذي تستحقه.  إذ لا توجد سياسة رسمية واضحة بهذا الخصوص؛ كما لا يوجد جسم مهني يعالج الأمر.
وإجمالا، يوجد سببان رئيسيان لظاهرة "المبنى المريض".  أولهما نظام التهوية غير المناسب أو الضعيف؛ والذي لا يسمح بتدفق الهواء النقي.  وثانيهما التعرض للمواد الكيميائية؛ علما بأن بعض هذه المواد ينبعث من الأثاث والسجاد (أو "الموكيت")، وبعضها الآخر ينبعث من البيئة الخارجية.  وقد تكون الملوثات المنزلية تحديدا، عبارة عن غازات سامة، ملوثات بيولوجية مثل العفن وقشور أو بقايا الحيوان، مركبات كيميائية متطايرة (VOCs )؛ مثل دهان الجدران والأثاث ومواد التنظيف والتجميل وما إلى ذلك؛ بالإضافة إلى دخان السجائر.
وبحسب العديد من جهات الاختصاص البيئية، وبخاصة وكالة حماية البيئة الأميركية (EPA )؛ فإن مستوى تلوث الهواء بداخل المنزل قد يكون أكبر بمرتين إلى خمس مرات من التلوث القائم خارج المنزل.  ووفقا لمسح أجرته الوكالة، تبين بأن 90% من الأميركيين يمضون معظم أوقاتهم داخل المنزل أو المكتب.
وإثر هذه المعطيات المقلقة قررت الوكالة الأميركية استثمار 2.4 مليون دولار لزيادة وعي الجمهور بمسألة تلوث الهواء في الفضاءات الداخلية المغلقة؛ مما قد يتسبب في العديد من الأمراض التي تعرف بـ "أعراض المبنى المريض" (SBS= Sick Building Syndrome ).

الحل الأمثل
التخطيط الصحيح لنظام التهوية، والصيانة المناسبة للمبنى يمكنهما حل جزء كبير من المشاكل؛ فمن الضروري التأكد بأن هناك انسيابا صحيحا للهواء ومن مصدر نظيف، وليس الهواء الملوث من كم المركبات الهائل في الشوارع.  إذ أن الهواء الملوث يمكن أن يتسبب في أنواع مختلفة من العفن، وقد يتطور الوضع إلى الإصابة بالسرطان.   
وقد تحل مشكلة التهوية، أحيانا، من خلال وضع نظام فلترة للهواء في المبنى؛ بينما، قد يتطلب الأمر، في أحيان أخرى، حلولا أكثر جذرية.
ويتمثل الحل الأمثل والمنطقي والمتاح في فتح النوافذ وتهوية المنزل.  وباستطاعة هذه العملية البسيطة تخفيض تركيز الملوثات في الفضاء الداخلي؛ وبخاصة أن معظم أنظمة التكييف في المنازل لا تعمل، بشكل ميكانيكي، على إدخال الهواء النقي من الخارج إلى داخل المبنى.  لذا؛ فإن فتح النوافذ والأبواب في الشتاء أيضا، يضمن إدخال الهواء النظيف إلى المنزل.   
أما في الصيف، فإن عمل المراوح المعلقة على السقف، أو تشغيل مُكَيِّف النافذة وترك فتحة أنبوب التهوية مفتوحة نحو الخارج يزيد مستوى الهواء الخارجي في داخل الفضاء الداخلي، ويخفض تركيز الملوثات.  وفي حال أن نظام التكييف مركزي؛ فيجب فحص فلتر الهواء الخارج من النظام، مرة كل شهرين أو ثلاثة، واستبداله إذا لزم الأمر. 
بعد فتح الشبابيك، وفي أعقاب هطول المطر؛ يجب التأكد من عدم وجود آثار رطوبة أو عفن في زوايا البيت أو على الأسقف.
وقد يكون سبب الملوثات البيولوجية مصادر مختلفة منها النباتات، الناس، الحيوانات والأرض.  وقد تكون تلك الملوثات ناتجة أيضا عن العفن، الجراثيم، الفيروسات، لعاب القطط، قشور أو بقايا الحيوان أو جيفة، وغبار اللقاح التي تنتشر عبر الهواء، وتخترق الجهاز التنفسي من خلال الاستنشاق؛ مما قد يتسبب في أمراض مزمنة مثل الربو وحساسيات أخرى.  كما أن المياه الراكدة والمسطحات الرطبة توفر بيئة مناسبة لنمو الملوثات البيولوجية.
وبحسب وكالة حماية البيئة الأميركية فإن مستوى الرطوبة الموصى به داخل المنزل يتراوح بين 30% - 50%.  إلا أن مستوى الرطوبة في العديد من المنازل الفلسطينية غالبا ما يكون أعلى من الموصى به في أغلب أشهر السنة. ويمكننا التحكم في الرطوبة بطريقتين أساسيتين:  تخفيض الرطوبة من خلال نظام التكييف المتلائم مع حجم الفضاء؛ أو من خلال وضع جهاز لإزالة الرطوبة (Dehumidifier ) الذي يمتص الماء من الهواء وبالتالي يخفض مستوى الرطوبة.  وفي كلا الطريقتين، يجب التأكد من أن حجم وقوة النظام مناسبان لمساحة الفضاء. 
وبشكل عام، يوجد في غرفة الحمام بيئة ساخنة ورطوبة مرتفعة.  وأحد الدلائل البارزة على ذلك المرآة المغطاة بالبخار أثناء الاستحمام.  لذا؛ يوصى بترك الشباك مفتوحاً بعض الشيء أو تشغيل جهاز تهوية خاص بغرف الاستحمام والحمامات الذي يمتص الهواء من الداخل نحو الخارج، وبالتالي يخرج الهواء الرطب بشكل مباشر من داخل الغرفة أثناء الاستحمام.
وبالإضافة إلى فتح الشبابيك، يجب شفط الأوساخ والغبار من السجاد في المنزل، وبالتالي الجراثيم والملوثات.

وضع معايير لجودة الهواء الداخلي
ويفترض بالجهات العاملة في الحقل البيئي، وسلطة جودة البيئة، أن تباشر العمل في موضوع جودة الهواء بداخل المباني، ووضع معايير لجودة الهواء المطلوبة والتوصيات الخاصة بالحفاظ على هذه الجودة.  ولا بد من رفع مستوى الوعي في هذا المجال لدى الجهات المهنية المعنية؛ مثل المهندسين والمصممين وخبراء الصيانة.
ومن الضروري التعامل بجدية مع الظروف البيئية للمباني ومع شكاوى العمال والموظفين فيها، علما بأن سبب الشكاوى قد يكون أحيانا ضغطا نفسيا في مكان العمل، وليس بالضرورة مشاكل في التهوية أو التعرض لمواد ملوثة.
وتجدر الإشارة، إلى أن "المباني الخضراء" قد لا تواجه المشكلة، كما ينبغي.  إذ قد يصمم "المبنى الأخضر" من ناحية طريقة معالجته للنفايات والمياه وعزل الجدران.  إلا أنه، وفي حال وجود أثاث أو سجاد تنبعث منه مواد ملوثة؛ فإن المشكلة الصحية قد تبقى دون حل.
ويفترض بالمعايير الخاصة بالمباني الخضراء أن تتعامل مع صحة مستخدمي المبنى، وليس فقط مع مسائل التوفير في المياه والاستعمال الأمثل للطاقة.

 

المطلوب معالجة آفة الاستعمال المزعج والضار لأجهزة الخلوي في الأماكن والمَرْكَبات العامة
الاستخدام المكثف للخلوي في المواصلات العمومية يعرض الراكبين لكمية خطيرة من الأشعة

ج. ك.
خاص بآفاق البيئة والتنمية

كثير ما نسافر في المواصلات العمومية والحافلات مسافات طويلة، وقد يكون السفر مرهقا.  وأحيانا كثيرة، تكون الحافلة مكيفة والشبابيك مغلقة؛ والراكبون أمامنا وخلفنا وبجانبنا يتحدثون بأصوات مرتفعة بهواتفهم الخلوية.  ولا مفر أمامنا سوى تحمل الضجيج الذي يثيرونه حولنا طيلة ساعات السفر، وامتصاص الأشعة المنبعثة من أجهزتهم.  وبالطبع، أولئك الراكبون لا يؤذوننا عن سبق عمد وإصرار، بل إنهم يمارسون "حقهم" في تبديد ملل السفر.  إلا أن السؤال المطروح:  ماذا عن حقنا وحق سائر الراكبين في بعض الهدوء والصحة الجيدة؟   
ازداد في الآونة الأخيرة تذمر العديد من الناس من الاستعمال المزعج والضار للتكنولوجيا الخلوية في الأماكن والمَرْكَبات العامة.  الأمر الذي يطرح ضرورة تحرك الجهات المعنية، وبخاصة وزارات المواصلات والبيئة والصحة، لمعالجة آفة استعمال أجهزة الخلوي في تلك الأماكن والمركبات، علما بأن دولا غربية طبقت حلولا معينة لهذه المشكلة؛ مثل تخصيص زوايا معينة في الأماكن العامة، أو مقاعد معينة في الحافلة لمستخدمي الخلوي، أو تحديد نسبة معينة من الحافلات (والقطارات) في جميع خطوط المواصلات باعتبارها نظيفة من أجهزة الخلوي. 
قد تبدو مثل هذه الأفكار خيالية.  لكن، يجب ألا ننسى بأن إجراءات مماثلة، بل وأكثر صرامة بكثير، اتخذت منذ سنوات ضد التدخين في الأماكن والمواصلات العامة.  وبالطبع، توجد فوارق هامة بين الحالتين؛ فخلافاً للتدخين، لم يثبت بعد، بشكل قاطع، أن أشعة الخلوي مسرطنة.  وبعكس التدخين، تتضمن تقنية الخلوي فوائد عديدة. 
ومن ناحية أخرى، يعتبر بعض المدخنين أن التدخين لذة الحياة التي لا غنى عنها!
ويقول العديد من الخبراء بأن الاستخدام المكثف للخلوي في المواصلات العمومية يعرض الراكبين لكمية مقلقة من الأشعة.  إذ أن الحافلات والسيارات العمومية والقطارات عبارة عن فضاءات مغلقة لا تسمح بتبديد الأشعة، كما أن الانتشار القليل للهوائيات في المناطق البرية بين المدن يزيد من جهد الأجهزة وبالتالي ترتفع كثيرا كمية الإشعاعات، لتصل مئات أضعاف الكمية المنبعثة في مدينة تنتشر فيها الهوائيات. 
ووفقا لبعض الحسابات، يكفي أن يتحدث بالخلوي في ذات الوقت، ربع عدد راكبي الحافلة، كي يتعرض جميع الراكبين لمستوى أشعة يفوق المسموح به.  وبخلاف الشارع المفتوح، لا يمكننا الهروب من الحافلة المغلقة.  والنتيجة أن من لا يستعمل الخلوي يتحول قسرا إلى أسير بأيدي أشعة جيراننا في الحافلة أو في المكان العام.
يضاف إلى ذلك، مشكلة الضجيج؛ إذ، وبحسب بعض الدراسات، يكفي أن يتحدث مسافران في الحافلة بذات الوقت، كي يتعرض جميع المتواجدين في دائرة نصف قطرها خمسة أمتار إلى تلوث بالضجيج يفوق المستوى المعتاد.

 

حين قام الإعلاميون بجولة إعلامية:
انتهاكات الاحتلال تسطو على الطبيعة لكن الروح تقاوم القبح

المياه العادمة الإسرائيلية تلوث الأراضي الزراعية الفلسطينية - تصوير مركز الإعلام البيئي

تحسين يقين

تكسر الخط الأصفر المستقيم، فصار قطعا منثورة على الأرض وفي الوادي..

  1. ترى كيف تتكسر الخطوط؟ ومن الذي كسّرها..؟
  2. هو نفسه من سطا على الطبيعة، من قبل، وهو الذي يسطو على ما نصنعه من بنية تحتية على الأرض..

سنعود للأصفر، عندما نصل في جولتنا قراوة بني حسّان، وشارعها المسلوب..
مطر نيسان يحيي الإنسان..
ليحيينا هذا المطر الذي استقبلنا به يومنا ونحن نجول ونستكشف جزءا عزيزا من وطننا الجميل...
بعض السرد يعانق كثيرا من التأملات، والغضب والحزن، لما ابتليت به صفحة أرضنا..من قهر وغزو وتلويث وجفاف..
سطو على رؤوس الجبال..
وسطو على الوديان..
ماذا بقي بينهما إذن بعد كل هذا الغزو للسماء والأرض؟ وماذا سيظل لنا إن سلبت القمم والوديان!
نترك رام الله الجميلة بمطر الربيع، ونعبر بيرزيت بعلمها وأدبها وزيتونها، باتجاه قرى غرب رام الله وسلفيت..وسيصاحبنا الزيتون طوال رحلتنا، مالئاً الفضاء، نمر بشوكة "حلميش" المستوطنة، غصة في الحلق والقلب وفي الأرض أكثر..و و..
ومنظر الزيتون يبهج العين، فيزول بعض من الغصات، وحين ندخل المكان بزمانه فإنه يكبر ويتحرر، ويصبح الاحتلال الزائل قزما..
أتأمل شجر زيتون الجبال والتلال، فأعشق السناسل أكثر وأكثر، ليتني كنت رسّاما لرسمتها كثيرا، كم هي جميلة في التشكيل الأرض، وكم هي ضرورية للزراعة!
في صحبة من الإعلاميين بمبادرة من شبكة المنظمات الأهلية البيئية ومركز الإعلام البيئي الذي تحتضنه الشبكة، كنا معا نتعرف على تفاصيل الانتهاكات الإسرائيلية للبيئة والسطو على جمالها ونقائها ومائها وهوائها..
يقودنا في الرحلة المهندس صالح الرابي مدير معهد المياه من الشبكة، وعلاء هنطش مدير المركز البيئي، ومطر نيسان وزيتون القرى كاملة الروعة. وللرابي أن يتحدث عن الماء بشكل خاص، ولي أن أصاب بنعاس الطريق، ربما لأحلم بيوم تتحرر فيه مياهنا من ملوثاتها الاستيطانية..
المطر خارج الحافلة يمارس فعله في زيادة خضرة الأرض وما تزدان به من ألوان الزهور، فيما يمنح الضباب والغيوم جوا رومانسيا، فأود أكثر في أخذ إغفاءة، تغريني الطريق لذلك، الأحاديث، دفء المركبة من الداخل تعيدني إلى دفء المكتب ودفء البيت؛ فالإحساس بأنني محمي من ماء المطر يمنحني سلاما وأمانا واطمئنانا، يستفز فيّ طفولتنا ونحن نهرب من حبات المطر حينا، ونحن نستمتع بوقها على أجسادنا الغضة حينا آخر..
كأنني أخجل، فأنهر إغراء النوم؛ فليس هذا هو الوقت المناسب، خصوصا أننا مدعوون للحديث عما نرى من ظلم الاحتلال لبيئتنا الآمنة.
ندخل دير غسانة، بلد الرفيق الراحل بشير البرغوثي، وهي قرية مشهورة بأبنيتها المعمارية المحلية، التي حكمت علاليها الفلاحين، واستبدت في جمع الضرائب ضمن نظام الضرائب العثماني الذي كان يسمى بنظام الالتزام، وهو نفسه الذي سار عليه إبراهيم باشا حين حكم فلسطين في ثلاثينيات القرن التاسع عشر..تأخذني علالي دير غسانة إلى قصور استنبول، كتوب كابي ودولما باج، وكلاهما صارا متحفين، وفيهما من العظمة والغنى الفاحش ما يثير الحزن على شعوب كان فقراؤها يلحقون بالفرسان لجمع حبات الشعير من روث الخيول!
أتأمل أحد المباني، وأعجب بالباب الخشبي القديم، المعتق، كأنه يهزأ من المعادن والحجارة، والذي يبدو أنه سيعيش طويلا، قرنين آخرين وربما أكثر..
أودع الباب الذي لم أدخل به، فيما ينشغل الصديق الكاتب أسامة العيسة المتخصص بالكتابة وتوثيق النقوش في التصوير وتفحص الأشكال والكتابات ومقارنتها زمنيا ومكانيا..
قلت لصالح إن كان بوسعي رؤية مقام الخوّاص..فمررنا مقابلها، وقد ذكر لنا كيف فسّر القدماء وجود القبتين، بأنه في في البدء بنيت واحدة، وفي اليوم الثاني استيقظ الناس فوجدوا أن الملائكة قد بنت قبة أخرى!
أعود إلى ما ذكره الكاتب حافظ البرغوثي ابن دير غسانة، فأقرأ في سيرته الروائية التي تحمل الاسم نفسه شيئا عن صاحب المقام ذي القبتين :
"- أنا العبد الفقير لله إبراهيم الخواص، خلقت في أرض مصر المحروسة، ما إن وعيت الدنيا وأنا أعمل في الخوص، أقطعه وأنسج منه سلالا وقفافا ونبني منه مراكب، كانت مهنتي صامتة، أمارسها صامتاً متأملاً، كانت يداي وعضلاتي وبعض عقلي تمارس العمل والباقي يتأمل، كان منزلي قرب المسجد وكان هناك قارئ ورع لا يفتأ يتلو القرآن بصوت عذب أغلب النهار، كنت أتابع قراءته، وأتوقف عند الآيات أتفكر فيها، رزقت بزوجة لا كالزوجات، لكنها توفيت ولم نرزق بخلف، تزوجت بعدها وفشلت ولم يعد للحريم بعد ذلك مكان في حياتي، ولزمت عملي، وذات يوم جاء داعية للجهاد يحث الناس لنجدة بيت المقدس والسلطان نور الدين زنكي، فذهب مع من ذهب من الرجال، كان الدعاة يأتون ويذهبون، وعلمت من بعضهم أن نور الدين المقيم في الشام كان يبث الدعاة في المشرق والمغرب للدعوة إلى الجهاد وإنقاذ بيت المقدس من الفرنجة، كنت أحفظ القرآن بالاستماع، وذات ليلة رأيت فيما يرى النائم أحد دعاة الجهاد في بيتي، بعد صلاة العشاء جلسنا نتحدث، كان القمر بدراً، والحقول صامتة، فإذ بالداعية يقول لي (هل أوجز ام أطنب؟) قلت: بل أوجز.  قال: إني لأتوسم فيك الخير والورع والتقوى رغم ما أنت فيه من عوز وضيق الحال، هل أدلك على تجارة تنجيك من حاجة الدنيا وتفوز بها في الآخرة؟) قلت: وما تلك يا أخي في الإيمان) قال إن تتطوع لبيت المقدس. قلت: ولكني لست جندياً، وما تعلمت فنون القتال والطعن والنزال)، قال: بل إن ورعك وصبرك على الدنيا واحتجابك عن المرغوب وبعدك عن الحرام هو المطلوب)، قال: وكيف ذلك، قال: تسير إلى فلسطين وتستقر على إحدى التلال في أكناف بيت المقدس كناسك متعبد، ترقب الفرنجة وتحركاتهم وثمة إخوة مجاهدون آخرون على التلال المجاورة يلتقطون إشاراتك ويرسلونها تباعاً إلى أرض الشام، لتصل إلى مولانا نور الدين محمود نصره الله وجعل خلاص بيت المقدس على يديه"
سنقف عند قدمي المقام ناظرين تجاه وادي سريدة، أو صريدة، حيث لوثه المستوطنون، بمياههم العادمة.
تذكرت أني قرأت شيئا عن خربة صريدة في "الخواص" وشيئا عن القلع، أعود فإذا به يقول:
"لم يبق من صريدة شيء، سوى اسمها على الوادي، وفوق صريدة بنيت قلعة بيزنطية وفوق معبدها أقيمت كنيسة ومع مرور السنين أقيمت بيوت إسلامية فوقها، وتحولت الكنيسة إلى مسجد، ..... أما معبد ايل في القلع فقد تناثرت حجارته، ولم يبق سوى عمودين في حالة سيئة".
لا قلعة هنا ولا معابد، فقط الأرض والشجر، أما الوادي المنسوب لها، فصار وادي ملوث..وهناك في القمم مستوطنات منها المستوطنة الصناعية "بركان" التي تلوث وادي بروقين أيضا..
سيكفيني البرغوثي ابن المكان السرد عن انتهاكات الاحتلال من جهة، وكيف عمّر أجدادنا الأرض الوعرة في القلع:
"مبان استيطانية مضاءة بالأصفر،..، قد لا يعرف الشيخ ماذا تعني هذه المستوطنات، في زمن الفرنجة الأوائل حاولوا إقامة مستوطنات زراعية حول القدس وفشلوا، هذه الجبال لا يستطيع فلاحتها سوى أصحابها، واكتفى الفرنجة بإقامة القلاع والحصون وأبقوا الزراعة لأبناء الأرض هم فقط من يعرف سر الأرض، ويفك طلاسمها، ربما يستغرب الشيخ الجليل هذا الانتشار للبنيان على القمم، قد يظنها مقامات أو معابد، فالإنسان دوماً درج على إقامة المعابد على القمم لقربها من السماء، لكنها ليست كذلك بل هي للمستوطنين الذين يظنون أنفسهم أشباه الآلهة، أو مبعوثيهم، ويجهلون التعاطي مع طبيعتها، ولهذا دمروها، إنهم يبقرون جبالها ويجلدونها بمخالبهم الفولاذية ويحولون الأدوية إلى مجار لمياههم الآسنة ونفاياتهم، حتى بنيانهم خرج عن نواميس الطبيعة، إن منازلنا في انسجام مع الانحناءات الجبلية وظل المشهد الجبلي متسقاً لا يخدشه البنيان، أما هم فتقنطروا على القمم وغيبوا المشهد الذي كان، لعل الشيخ الجليل يتحسر على مشده القديم يوم كانت الجبال والأودية عذراء مثل ماء السماء".
أتأمل الزنانير في الطريق إلى كفر الديك، كبيرة وطويلة، خطرة لكن جميلة، ولي أن أتذكر زنانير بيت دقو، كيف استطاع الآباء والأجداد من زراعة ما تبقى من تراب قليل..
لعلنا هنا أيضا نتحسّر مثل الشيخ الجليل..
وادي الفوارة بين دير غسانة وكفر الديك صار ملوثا، في بروقين يعانون من المياه العادمة في وادي المطوي، والخنازير البريّة، ولا يعرفون بالتأكيد من أين تأتي..هم يتهمون الاحتلال؛ فإذا تجرأ الاحتلال وأفسد البيئة والماء، هل سيتورع عن إفلات الخنازير لإرهاب الأهالي!
يستهلك المستوطن الإسرائيلي تسعة أضعاف ما يستهلكه المواطن الفلسطيني، ثم يلوث مياه ينابيعنا وعيوننا وودياننا، في حين جفف باقي العيون بسبب سوء استخدام استخراج المياه، وحفر الخنادق في مسار جدار الفصل العنصري، والآبار الارتوازية الخاصة به فقط.
في قراوة بني حسّان، سنكون على موعد مع الشجر والأطفال والبيوت والشبابيك، نشرب القهوة في المجلس المحلي، ثم نشرب ألم تخريب سلطات الاحتلال للشارع الرائع الذي شقه د. سلام فياض حبا بجمال المكان..ومن أراد رؤية قسوة الاحتلال، ليزر قراوة ويمش على أطلال الشارع، يؤلمني كيف صار الخط الأصفر على جانب الشارع خطوطا منكسرة في شتى الاتجاهات على وقع جرافة أخذت من العصر حداثته ومن خرافة الماضي اللؤم!
نسير في الشارع إلى نهايته، تطل بيوت مستوطنة "حياة مئير" الجميلة على القمم، هي جميلة، لكن أي جمال هذا الذي يحيّر! أي إعمار يخرّب الأرض ويسطو عليها ويلوث صفو مائها.. وعلى هوائها أيضا؛ وليس بعيدا مصنع الجلود في "بركان" الذي لم تسمح سلطة البيئة الإسرائيلية بإقامته في إسرائيل!
أدخل وآخرون نبعة داخل الصخور، ويدخلنا سكرتير المجلس المحلي في تأمل حوار أهل البلد مع أطفال وفتيان المستوطنين، حينما جاءوا لعمل متنزه في منطقة العين، تحت أقدام المستوطنة:

  1. هذه منطقة فارغة، لنعمل فيها متنزه لنا ولكم..
  2. لكنها لنا!

ما زالت الفكرة الصهيونية "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" تستأنف تجلياتها..هنا من خلال مختار المستوطنة الذي يغري أطفال "حياة مئير" بشواقل مقابل السطو على منطقة العين!
يفشل مشروع مختار المستوطنة، يمهد د.سلام فيّاض الشارع ويفتتحه، فيخربه الاحتلال مرتين! لكن الأرض ما زالت هنا..بكامل أزهارها والأشجار، رغم ما أصاب سناسل قرويي بني حسّان من تخريب متعمد..فلا مانع من تخريب السناسل وهم يدمرون الشارع..!
أقضم حبات اللوز الأخضر..لألوذ بطعمه المميز من مرارة الحلق، المعروفة أسبابها..
يخرجنا المهندس معاوية الريماوي من بعض الألم، ونشرب الشاي بالنعناع، ونسعد ببيته، كيف هندس فضاءه، وجمع فيه الهندسة والجمال والطبيعة بورودها وطيورها، والحضارة بما جمع من أدوات وحجارة، بانيا بعض المقاطع التي تحاكي أجزاء صغيرة من المعمار القديم، فتكون الجولة في خارج البيت استكشافا لمحيط المكان، بعضا من التاريخ..والتراث..هذا بيت فلسطيني يعمّر ولا يسطو على أحد!
في حوار بين الراوي و(شديد الكنعاني)، في "الخواص" لحافظ البرغوثي، يطمئن شديد على أن الأرض ما زالت كما هي، وهو إيمان الأجداد وثقتهم بان مكانهم محمي، وانه ما دامت الأرض مكانها، فلا يهم لو مرّ الغزاة من هنا وتركوا عظام موتاهم.
"جلست على الصخرة في مهب الرياح الغربية الباردة، أتأمل الأطلال وغروب الشمس تارة والوادي تارة أخرى، كانت الأغنام فقط تجوب البرية وتتسلق الصخور نحو القلع.

  1. وهل ما زالت الرياح العليلة تهب في الغرب؟
  2. بالطبع يا شديد.
  3. والشمس أما زالت تغرب في الغرب؟
  4. نعم يا شديد.
  5. وتشرق من الشرق؟
  6. نعم.
  7. والقمر أما زال يصغر ويكبر ويصغر تارة أخرى؟
  8. نعم يا شديد."

  على اليمين زيتون، على الشمال ينافس صفار زهرة الخردل، تلك الزهرة البديعة التي شغلت مساحات من تراب الحبايل التي لم تحرث بعد صفار الخطوط المنكسرة والمتكسرة والمعجونة بلؤم الاحتلال الذاهب إلى زوال..

مياه مجاري وحيوانات نافقة في أرض زراعية فلسطينية- تصوير مركز الإعلام البيئي
 
Ytahseen2001@yahoo.com

 

قضية المياه في فلسطين (فيلم وثائقي )

 

 

التعليقات
الأسم
البريد الألكتروني
التعليق
 
  مجلة افاق البيئة و التنمية
دعوة للمساهمة في مجلة آفاق البيئة والتنمية

يتوجه مركز العمل التنموي / معاً إلى جميع المهتمين بقضايا البيئة والتنمية، أفرادا ومؤسسات، أطفالا وأندية بيئية، للمساهمة في الكتابة لهذه المجلة، حول ملف العدد القادم (العولمة...التدهور البيئي...والتغير المناخي.) أو في الزوايا الثابتة (منبر البيئة والتنمية، أخبار البيئة والتنمية، أريد حلا، الراصد البيئي، أصدقاء البيئة، إصدارات بيئية – تنموية، قراءة في كتاب، مبادرات بيئية، تراثيات بيئية، سp,ياحة بيئية وأثرية، البيئة والتنمية في صور، ورسائل القراء).  ترسل المواد إلى العنوان المذكور أسفل هذه الصفحة.  الحد الزمني الأقصى لإرسال المادة 22 نيسان 2010..
 

  نلفت انتباه قرائنا الأعزاء إلى أنه بإمكان أي كان إعادة نشر أي نص ورد في هذه المجلة، أو الاستشهاد بأي جزء من المجلة أو نسخه أو إرساله لآخرين، شريطة الالتزام بذكر المصدر .

 

توصيــة
هذا الموقع صديق للبيئة ويشجع تقليص إنتاج النفايات، لذا يرجى التفكير قبل طباعة أي من مواد هذه المجلة
 
 

 

 
 
الصفحة الرئيسية | ارشيف المجلة | افاق البيئة والتنمية