مجلة الكترونية شهرية تصدر عن مركز العمل التنموي / معا
تموز - آب 2013 - العدد 56
 
Untitled Document  

المباني الحديثة وفقر التقدم
العمارة البيئية بين الأنماط العصرية البراقة والمعرفة المحلية المهملة

العونة في تشييد منزل من الحجارة

دانة مسعد
خاص بآفاق البيئة والتنمية

"بدنا نتقدم" .. عبارة تكررت ملايين المرات في القرن الماضي في قرى وبلدات وطننا العربي. ولا زالت هذه العبارة تتكرر في كل مرة يهدم فيها بيت طيني أو حجري قديم ليبنى مكانه بيت اسمنتي حديث وفق التصاميم المعاصرة.
ملايين العائلات اقتنعت في العقود الماضية بضرورة التخلي عن نمط البناء القديم وتبني أنماط البناء الحديثة التي يكاد الكل يجمع على أنها الأفضل لحياتنا العصرية. لكن هناك لحظات تهتز فيها هذه الثقة بنمط البناء الحديث، كانقطاع التيار الكهربائي وتوقف المكيف والمدفأة عن العمل على سبيل المثال. فالأجيال التي عاصرت أو سكنت المباني القديمة لا تزال تذكر أنها كانت باردة صيفا، دافئة شتاءً، دون الحاجة للتدفئة والتكييف المفرط، كما هو الحال اليوم. ومع ارتفاع أسعار الطاقة عالميا منذ بداية الألفية الثالثة بدأت قطاعات صغيرة من المهندسين المعماريين تراجع أساليب البناء المتبعة في فترة الحداثة وما بعدها. فتلك الحقب المعمارية تأثرت بشكل كبير بقدرة التقنيات الحديثة واستخدام الطاقة والمحركات لحل المشكلات في المباني، ولم يكن عنصر التناغم مع البيئة وظروفها يلعب دورا أساسي. بل يمكن القول إن الاتجاه نحو تحدي البيئة كان هو الاتجاه المعماري السائد.
ورغم كثرة الحديث مؤخرا عن أهمية الاهتمام بالبيئة في مجال العمارة٬ إلا أن هناك شبه إجماع على أن الحل لا يكمن بالعودة إلى الوراء. ورغم كثرة المهندسين المعماريين في بلداننا وتنوع التخصصات المعمارية، إلا أن استخدامنا للمعرفة المعمارية الغنية ومعرفتنا بوظائف التصميم المعماري القديم ودوره في توفير الطاقة والمياه والغذاء للسكان قليل جدا أو معدوم. ومن بين المباني المعاصرة لا نكاد نجد إلا عددا قليلا منها يتوفر فيه أي عنصر من العناصر المعمارية التي تؤدي وظيفة بيئية، بعكس المباني القديمة التي تعج بالوظائف المتعددة بكل عنصر فيها، والذي يؤدي وظيفة اجتماعية أو بيئية، ومع ذلك، ولربما لذلك تتميز بجمالية لا تنضب.

فتحات في جدران المنازل القديمة تستخدم لأغراض عدة
فراغات تركت في جدار منزل بقرية عرابة لتوفر أعشاش للحمام

كيف اختفت المباني التراثية
استخدام الاسمنت والمواد الأخرى الحديثة في البناء يمكن اعتباره الحد الفاصل بين ما نعدّه مبنى حديثا أو مبنى تقليديا أو تراثيا. فهذه المواد الجديدة سهلت وسرعت عملية البناء التي كانت تستغرق وقتا وتفكيرا طويلا فيما سبق. بذلك خلق جيل جديد من معلمي البناء والمهندسين غير المرتبطين بالأجيال السابقة التي راكمت خبرات عميقة في البناء، فضلا عن التأثر الكبير بأنماط البناء الغربية التي دخلت بلداننا مع دخول الاستعمار الأجنبي، وتوجه المهندسين المعماريين للدراسة في أوروبا في بداية القرن العشرين. فعلى سبيل المثال، لا نكاد اليوم نجد إلا فئة قليلة من المعماريين ينتبهون إلى دور التظليل في الحد من الحاجة إلى التكييف في المباني. فيما نجد أن التصميمات القديمة كانت تضع في المقام الأول علاقة المبنى بالبيئة المحيطة من شمس ورياح ومياه وكائنات.

منظر عام لبيت فلسطيني تراثي

تنوع الوظائف في المباني التراثية
غالبا ما كان كل عنصر من عناصر أي مبنى تراثي يؤدي أكثر من وظيفة واحدة فقط. فسمك جدار البيت مثلا يجعله قادرا على حمل الأثقال الموزعة عليه من السقف، وهو مخزن حراري يوفر درجة حرارة مريحة داخل المنزل صيفا وشتاء، كما أن الجدران السميكة تعزز حماية المنزل من الأعداء والسرقة.
وفي بعض الأحيان كانت تصمم الفتحات في الجدران لتصبح خزائن للّحف والملابس أو نملية أو غيرها٬ كما وتصمم في الجدران بروزات حجرية تستخدم كأسرة أو مقاعد أو بروزات أخرى لتعليق حبال الغسيل أو ربط الحيوانات. وفي كثير من المنازل كان الجدار يبنى بترك فراغات مربعة خاصة في الجزء العلوي الخارجي منه تسمح للحمام والطيور ببناء الأعشاش فيها، وهو ما كان يفيد سكان البيت من الناحية الغذائية وكذلك استخدام زبل الحمام في تسميد النباتات في الحوش أو الحاكورة.
ومن الوظائف الأخرى للجدار استخدامه للتخزين. فللخوابي جدران داخلية كانت تبنى من جدار مزدوج يستخدم الفراغ فيه لتخزين المونة وله فتحة أو عدة فتحات في داخل المنزل تسمى الروزانة. أما في السطح فكانت هناك فتحة أخرى تستخدم لتعبئة الخوابي بالمونة، فعلى سبيل المثال يوضع القمح فيها بعد تهيئته ليبقى مونة طوال السنة في مكان قريب.
ولم يكن استخدام الغرف أو العناصر الأخرى في المبنى محدداً بوظيفة واحدة على الدوام، بل كانت تتبدل وظائفها وفقا للبيئة وحالة الجو. ففي الصيف كان السكان ينتقلون للنوم على أسطح المنازل. وبحسب الباحث والطبيب الفلسطيني توفيق كنعان في كتابه (الزراعة في فلسطين، 1909) فإن قضاء سكان فلسطين لفترات طويلة خارج نطاق المبنى وتنفسهم للهواء الطلق جعلهم قادرين على مقاومة الأمراض بشكل كبير.
وبشكل عام كان لسطح المنزل استخدامات كثيرة عدا النوم، فغالبا ما بني معرش على سطح المنزل من نبات مثمر كالعنب أو الليف أو غيره٬ فالمعرش يعطي الثمار ويوفر مكاناً مظللاً ومريحا للمعيشة في الصيف، وكذلك يقي المنزل نفسه من الإشعاع الشمسي القوي أثناء النهار، فيما تتساقط أوراقه في فصل الشتاء ليسمح لحرارة الشمس أن تصل للمنزل وتدفئه. كذلك كان السطح يستخدم كمكان لتجفيف الفريكة وثمار البندورة والأعشاب الطبية وغيرها من أجل خزنها لفصل الشتاء.
أما مزاريب المياه على السطح فكانت تصمم بطريقة بحيث لا تسمح للشتوة الأولى بالانسياب إلى البئر، وإنما تنساب الشتوة الثانية وما بعدها بحيث تضمن أن سطح المنزل قد غسل مما علق فيه طوال فترة السنة. بالإضافة إلى ذلك كان نبات البلان يستخدم لتصفية المياه من الشوائب العالقة قبل دخوله إلى البئر.
كذلك فإن اختيار نوع الأشجار ومواقعها في حوش البيت كان مدروسا بعناية في المباني القديمة، بحيث تؤدي الأشجار دور التظليل وإنتاج الغذاء، مثل التوت وغيره.
الملخص أن ما جعل المباني التاريخية مبان بيئية ومجتمعية ممتازة ليس كونها صنعت من مواد طبيعية وبطرق رفيقة للبيئة فحسب، بل لأن البيت التقليدي التاريخي صمم لكي يقوم بمهام كثيرة لا تقتصر فقط على توفير مكان للنوم والمعيشة لأهله٬ بل كان أيضا مصنعاً للغذاء. فهو مأوى للماشية والأرانب والدجاج والحمام وغيرها٬ وهو حديقة خضار وفاكهة وكان كذلك مصنعاً لليف والمكانس والحصر والسلات والأواني. وهو جامع لمياه الشرب والري والغسيل وعلى سطحه يجفف ويخزن الغذاء. وهو كالكائن الحي، يتغير ليستجيب للمواسم والمناسبات المجتمعية المختلفة. وكل ذلك جعله من أذكى وأجمل الحلول المعمارية التي لم يكن للمعماري دور فيها.

مظهر عام لقرية قيساريا تظهر الأحواش والمعرشات

أين اختفت هذه المعرفة؟
الملفت للنظر أن هذه المعرفة والخبرات لم تختف كليا، حيث تم توثيق الكثير منها في كتب تراثية مثل (القرية العربية الفلسطينية لشكري عراف) و (الأعمال الفلكلورية الكاملة، د. توفيق كنعان) وكتابات المهندس المعماري العربي حسن فتحي وغيرهم. والكثير من المباني التاريخية ما زالت موجودة في المدن والقرى الفلسطينية المختلفة لكن رغم ذلك لم تصل هذه المعرفة إلى الجمهور الأوسع من المعماريين لأن منهاج التدريس المعماري في الكليات المعمارية المختلفة في الوطن، لا يعطي أهمية للمعرفة المحلية. فمادة العمارة المحلية هي مادة ثانوية وفي كثير من الأحيان يستغنى عنها. بينما يركز برنامج الدراسة المعمارية على المدارس المعمارية الحديثة والمعاصرة والتي لا تمت بصلة لأولوياتنا واحتياجاتنا المحلية، وهناك الذين يتجهون اليوم لدراسة أنظمة مثل "نظام الريادة في تصميمات الطاقة والبيئة"  LEED ، وهو نظام يواجه انتقادات كونه لا ينتمي لبيئة البحر الأبيض المتوسط ويعمل على تفضيل المنتجات الصناعية الغير محلية على الحلول البيئية البسيطة المبتكرة. بينما الأهم هو تعلم وتعليم معرفة وجدت بعد تجارب طويلة ومعرفة متعمقة ببيئتنا والمواد المتوفرة. والقيام بالمزيد من الدراسات للممارسات البيئية والوظائف المختلفة للمعمار العربي، والخروج من دائرة البحث والتأثر الجمالي البحت، والتعمق أكثر في المعارف المعمارية التي تطورت في بيئتنا واستخدمت المواد المتوفرة فيها بفعالية عالية .

التعليقات

مقالة علمية رصينة وتوضح بشكل مبسط ومقنع الميزة البيئية الكبيرة بما لا يقارن للعمارة الفلسطينية التقليدية قياسا بالعمارة الحديثة المبذرة والمستنزفة للطاقة والسلع الاستهلاكية...شكرا لك يا دكتورة دانة

سهى نشال

 

 

الأسم
البريد الألكتروني
التعليق
 

 

 

 
 
الصفحة الرئيسية | ارشيف المجلة | افاق البيئة والتنمية