مجلة الكترونية شهرية تصدر عن مركز العمل التنموي / معا
أيــار 2013 - العدد 54
 
Untitled Document  

دروس من المدرسة التنموية في فيتنام
الزراعة المتداخلة والمنوعة تضمن استقلالا غذائيا وتحسنا كبيرا في المستوى التغذوي-الصحي
انتشار ظاهرة المعمرين الفيتناميين الذين تجاوزوا المائة عام

إعداد خبز الشراك من الأرز في فيتنام

جورج كرزم
خاص بآفاق البيئة والتنمية

أول ما يلفت نظر الزائر إلى فيتنام هو تضاريسها الجغرافية والطبيعية الغنية والجميلة الساحرة والمنوعة؛ إذ يجمع البلد بين الساحل البحري الطويل، ومناطق الدلتا (الأنهار)، فضلا عن التلال والجبال والوديان والأدغال.  وقد ساهم هذا التنوع المناخي الغني في ترسيخ تراث فلاحي يستند إلى الزراعة التقليدية المتداخلة والمنوعة. 
الفيتناميون شعب كادح وجدي صلب، ينحدر معظمه من أصول فلاحية؛ إذ أن قوة العمل الزراعية الحالية تشكل نحو 70% من إجمالي قوة العمل الفيتنامية.  وبهدف منع عودة أسياد الأرض والإقطاع السياسي للتحكم بحياة الفلاحين، لا تزال الدولة الفيتنامية بقيادة الحزب الشيوعي الفيتنامي تحظر الملكية الخاصة المطلقة للأرض، بل هناك أذونات للفلاحين باستخدام الأرض.

التضاريس الجغرافية والطبيعية الغنية والجميلة الساحرة والمنوعة في فيتنام

 معجزات اقتصادية وتنموية
بالرغم من الحروب المتتالية، أصر الشعب الفيتنامي العنيد وقيادته المبدئية الصلبة على تجاوز حالة الفقر في البلاد، بالعمل التنموي والزراعي والصناعي الدؤوب.  وبالفعل، تمكن الفيتناميون من إنجاز المعجزات الاقتصادية والتنموية؛ فهبطت نسبة الذين يقعون تحت خط الفقر من 80% في أواخر الثمانينيات، إلى 10% عام 2013!  كما أن نسبة الأمية صفر بالمئة، والعلم والثقافة يشكلان سمة اجتماعية غالبة.  وخلال العقدين الأخيرين تميزت وتيرة التنمية بالتسارع الكبير.  وحاليا، تعد فيتنام ثالث اكبر مصدر للأرز في العالم، كما أنها تصدر القهوة والذرة وفستق الكاشيو والأطعمة البحرية والفاكهة الاستوائية وغير ذلك.  إضافة إلى إنتاجها وتصديرها الألبسة والأحذية عالية الجودة. 
قبل نحو عشرين عاما، شكلت الدراجات الهوائية وسيلة المواصلات الأساسية في المدن والأرياف.  وحاليا، تعد الدراجات النارية، وبدرجة أقل السيارات، وسيلة المواصلات الشائعة في كل مكان.  واللافت، غياب الأبنية الشاهقة وناطحات السحاب، بل إن المباني المميزة للعمارة الفيتنامية والشرق آسيوية التقليدية، فضلا عن العمارة البوذية تنتشر في مختلف الأرجاء.
أثناء زيارة وفد مركز معا إلى فيتنام في الأسبوع الأخير من شهر آذار الماضي، واجتماعه مع السيد زوم مسؤول علاقات الصداقة مع الشعوب (بمرتبة وزير)، سأله كاتب هذه السطور عن بعض المظاهر الاقتصادية في المدن الفيتنامية التي تبدو من سمات السوق الرأسمالي مثل المحلات والشركات التجارية التي تتنافس فيما بينها على تسويق السلع التي أنتجتها شركات رأسمالية؛ فأجابني قائلا:  "هذا سؤال صعب.  لقد تميز الاقتصاد الفيتنامي، حتى عام 1986، بالمركزية الشديدة والبيروقراطية.  لكن منذ ذلك الوقت اتبعت الحكومة الفيتنامية نهج "الباب المفتوح"؛ أي تعدد وتنوع القطاعات والنشاطات الاقتصادية، ما عدا اقتصاد السوق والاقتصاد الخاص، علما أنه منذ عام 1980 أجريت تعديلات على الدستور الفيتنامي الذي وضعه أصلا الزعيم هو تشي منه.  فالإطار العام للاقتصاد ذو توجه اشتراكي.  الاقتصاد يدار من قبل الدولة، ولا يترك المجال لقوى السوق بأن تتحكم به.  وفي مؤتمره الحادي عشر المنعقد عام 2011، قرر الحزب الشيوعي الفيتنامي السير بخطوات أسرع لتحديث وعصرنة الاقتصاد.

الزراعات المنوعة والمتداخلة في منطقة هانوي بفيتنام

الأنماط الزراعية المتداخلة
لقد انتصر الشعب الفيتنامي على همجية الاستعمار الأميركي ليس بالبندقية فقط، وإنما أيضا بالاستثمار الفلاحي والزراعي وبالاعتماد على ذاته في توفير احتياجاته الغذائية طيلة فترة الثورة الفيتنامية.  لقد كانت هذه مسألة أساسية للثورة، ما مكن الشعب الفيتنامي من تحقيق استقلاليته الغذائية، بعيدا عن تحكم المحتل بلقمة عيشه وبالتالي تحديده من يجوع ومن يأكل.  وقد اعتمد الفيتناميون في ممارساتهم الزراعية على تراثهم الفلاحي المستند إلى الزراعة التقليدية المتداخلة والمنوعة لإنتاج الاحتياجات الغذائية الأساسية للأسر الفلاحية في المناطق الريفية الفقيرة.  الزراعات الفيتنامية المختلطة والمتداخلة، على مستوى البستنة المنزلية أو الحيازات الصغيرة، تعتمد تقليديا على ثلاثة مكونات أساسية تتكامل مع بعضها البعض، وهي البستنة (النباتية)، تربية الثروة الحيوانية من دواجن وماشية، وتربية الأسماك.  ويدعى هذا النمط الزراعي في اللغة الفيتنامية بـنظام VAC (اختصار لثلاث كلمات فيتنامية هي: “vuon ao chuong” ) أي البستنة، بركة الأسماك والماشية.  ومنذ مطلع الثمانينيات، تسارعت بشكل واسع عملية تحفيز الفلاحين على ممارسة منهج أل VAC .  بل، ومنذ أواخر الستينيات، شدد الزعيم الثوري هو تشي منه على أهمية النمط الزراعي المتداخل في إطار الحيازات الصغيرة.  ويهدف هذا النمط إلى زيادة وتثبيت المستوى التغذوي للأرياف؛ لأنه عندما يتم تبني نمط أل VAC يتحسن كثيرا المستوى الغذائي لأهالي الأرياف الفقيرة.  وتدير الأسرة هذا النمط الزراعي الذي يعتمد بشكل أساسي على قوة عملها؛ وهو ينتشر في ظروف بيئية-زراعية منوعة، سواء في الأراضي المروية أو البعلية أو البستنة الحضرية. 
وتحوز 85-90% من الأسر الريفية  الفيتنامية على حديقة نباتية وبعض الماشية والدواجن؛ بينما تملك نحو 30-35% من هذه الأسر برك سمكية.  وفي العديد من القرى الفيتنامية، تمارس 50-80% من الأسر نظام أل VAC بشكل كامل.  وتبين الأرقام أن هذا النظام الزراعي يشكل 50-70% من مصدر دخل معظم الأسر القروية، بل وفي حالات كثيرة تصل نسبة الدخل إلى 100%.  كما أن الدخل السنوي الناتج عن هذا النظام أعلى بثلاث إلى خمس مرات من الدخل الناتج عن نفس المساحة المزروعة زراعة أحادية؛ كالأرز مثلا وعلى مدى موسمين في السنة الواحدة.
إذن، يشكل نظام أل VAC الذي يمارس حاليا في معظم المناطق الفيتنامية، نمطا زراعيا مكثفا في نطاق الحيازات الصغيرة، بحيث تتداخل البستنة النباتية مع تربية الأسماك والحيوانات الداجنة.  فالمحاصيل المنوعة تزرع في الحديقة أو الحيازة الصغيرة بأسلوب طبيعي مكثف دون استخدام الكيماويات الزراعية.  الأصناف النباتية المختلفة تزرع بشكل مختلط ومترافق، بحيث يستفاد بأعلى قدر ممكن من رطوبة التربة ومغذياتها والطاقة الشمسية.  الخضار تزرع بشكل متداخل ومختلط مع أشجار الفاكهة؛ البقوليات تزرع على هامش الأرض أو الحديقة، كما أن الأشجار الشاهقة دائمة الخضرة تزرع كسياج أخضر ومصدات للرياح.  ويعتمد النظام على أقل قدر من مدخلات الإنتاج وتطبق فيه إعادة التدوير الداخلي لمخرجات ومخلفات الإنتاج في نطاق نفس الوحدات الزراعية. 
وبما أن النمط الزراعي المتداخل (VAC ) كثيف العمل، فهو يوفر للفيتناميين، بجميع أجيالهم، عمالة منتجة، وبخاصة أنه لا يتطلب عملا يدويا صعبا.  كما أن هذا النمط الزراعي يتيح للنساء العمل في بيئة صحية، قريباً من منازلهن وأبنائهن؛ بدلا من الذهاب إلى حقول الأرز البعيدة أو العمل في قطاع الإنشاءات. 
وتتمثل سياسة الحكومة الفيتنامية في تشجيع الأسر على ممارسة نمط أل VAC الزراعي المعتمد على الذات والمدر للدخل، ما أدى إلى تعزيز هذا النمط الذي يلعب دورا هاما في تحسين جودة حياة الناس وفي تنويع الزراعة الفيتنامية وحماية الموارد الطبيعية والبيئة، وبالتالي ضمان تنمية مستدامة.
في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي انتشرت الكيماويات الزراعية بكثرة في العديد من المناطق الزراعية الفيتنامية.  لكن، مع اكتشاف المخاطر الصحية-البيئة الكبيرة التي تشكلها المبيدات والأسمدة الكيماوية، أخذت الحكومة الفيتنامية في السنوات الأخيرة، تنتهج ما يعرف بسياسة الغذاء الآمن أو الممارسات الزراعية الآمنة؛ أي التقليل إلى أدنى حد ممكن من استعمال الكيماويات في الزراعة، وذلك كمرحلة انتقالية نحو التحول إلى الزراعات العضوية.    
أخيرا، لا بد من لفت الأنظار إلى انتشار ظاهرة المعمرين الفيتناميين الذين تجاوزوا المائة عام؛ فالعديد من الفيتناميين، وبخاصة في الأرياف، تجاوز عمرهم المائة عام، بل بلغ بعضهم 115-120 سنة.  ويذكر أن الجنرال جياب القائد العسكري البارز في الثورة الفيتنامية ضد الاستعمارين الفرنسي والأميركي، ورفيق الزعيم هو تشي منه، لا يزال حيا وقد تجاوز عمره 101 سنة (مواليد عام 1912).  ويعتقد أن النظام الغذائي الفيتنامي يعد من أهم العوامل المساعدة في ظاهرة العمر المديد، إلى جانب التنوع المناخي ونمط الحياة الفلاحي وقلة التلوث الهوائي؛ إذ أن الدراجات الهوائية والنارية تعد وسيلة المواصلات الشائعة في المدن والأرياف.

مزرعة عضوية تجريبية في ضواحي هانوي بفيتنام

التعليقات

 

الأسم
البريد الألكتروني
التعليق
 
 

 

 
 
الصفحة الرئيسية | ارشيف المجلة | افاق البيئة والتنمية