مجلة الكترونية شهرية تصدر عن مركز العمل التنموي / معا
أيــار 2013 - العدد 54
 
Untitled Document  

الأرض والسماء والبيت والنكبة
"العُشّاق" يرسمون صورة لفلسطين قبل 65 سنة!

الحاجة عليا أبو سريس

عبد الباسط خلف
خاص بآفاق البيئة والتنمية

أطاحت الدولة العبرية بفلسطين: أرضها، وشعبها، وحريتها في أيار عام 1948، ودمرت 516 مدينة وقرية، بجوار الكثير من التجمعات الصغيرة. تجمع" آفاق البيئة والتنمية"  قصصاً( من وحي برنامج –ذاكرة لا تصدأ- لوزارة الإعلام واللجنة الشعبية للخدمات في مخيم الفارعة) عن الجرح المفتوح حتى اليوم، فترسم صورة للحياة الفلسطينية بألوان المكان، وتفاصيل المدارس والأسواق والأفراح والبيوت وغيرها، قبل أن يسطو الاحتلال على الأرض العربية، ويستهدف التاريخ والجغرافيا والبشر والحجر والشجر، ويطيح حتى بالأسماء العربية، في أكبر عملية سطو لا زالت مستمرة.
محمد العرجا من قرية الفالوجة المدمرة

الفالوجة وسوق البرين!
يسترد محمد صالح العرجا( 79) عاماً بناء معالم قريته الفالوجة، شمال غزة، التي دمرتها العصابات الصهيونية عام 1948. يقول: كان عدد سكان بلدتنا خمسة آلاف، وفيها بلدية، ومدارس ثانوية وابتدائية للبنات، وأربعة كتاتيب، ومركز صحي، ومحكمة، ومسلخ للحوم. وكانت متطورة، وتعيش على الزراعة  ثم تحولت إلى التجارة.
ويتابع: في كل يوم خميس كان ينعقد سوق البرين، وفيه يتوافد الناس من البلدات والمدن المجاورة للتجارة بالقماش واللحوم والذهب والخضار. وكنا نشاهد مواسم وادي النمل، والمنطار، أسدود، والنبي روبين، والرملة، التي كانت مثل العرس، وتعقد في شهر أيار، وفيها سباقات خيول على البحر، ودبكة، وأناشيد دينية للفرق الصوفية، وبيع، وشراء. وكان العرجا يشاهد الناس والتجار في السوق ويصطاد العصافير من الحقول. ولا زال يتذكر يوم اجتمع الأهالي، وقرروا قبل النكبة إرسال الشيخ محمد عواد، رئيس البلدية إلى مصر لشراء السلاح، بعد أن جمعوا المال، لغرض تدريب 360 شاباً على استخدامه.

محمد العرجا يحمل طابو أرضه التي اقتلع منها عام 1948


ويزيد: "في إحدى أيام  نيسان، كنا نلعب في المزارع، عندما أوقفتنا سيارة عسكرية للجيش المصري، فسألني الضابط: ( يا جدع وين المستعمرة)، فأشرت له إلى مكانها، وصعد إلى خزان المياه في البلدة، لينظر بالدربيل، ثم ينزل. بعد أيام قليلة بدأ الجيش يدخل البلدة، وطلب من الناس أن يفحتوا ( يحفروا) خندقاً حولها، وظلوا يقومون بهذا العمل لشهر، حتى انهوا المهمة"
اختلط العرجا بالجنود المصريين، وكان يبيت بينهم في منزل أسرته، وتعرف على الأسلحة، وشاهد مدفع(أبو الستة رطل)، وراح يجر صناديق الرصاص معهم، وتعرف إلى الضابط القبطي وحيد، وشحاتة من المنصور، وسعيد القادم من السويس ." وأضاف:" عشنا تحت الحصار والقصف ستة أشهر، وكانت البلد كلها ساحة معركة، وصد الجيش المصري العصابات الصهيونية مرات كثيرة، وشاهدت بعيني الشهداء والجرحى والطائرات، وكان يظن الجنود المصريون أن الطائرات الإسرائيلية التي تقصفهم هي مصرية ." ويروي: هجرنا من البلد أنا وأمي وعمتي وأخواني، وظل أبي في البلد مع الجيش المصري، وروحنا على الدوايمة، وفقدنا عمتي في الطريق، قبل أن نعثر عليها. وعدت إلى الفالوجة لمساعدة العجوز فاطمة البعم، التي قالوا لها أن زوجها استشهد، فما أن دخلنا البلد، إلا وأصابتها قذيفة، وشاهدت كيف قسمت جسدها إلى نصفين، واحترق شعر رأسها، وجاء زوجها الذي تبحث عنه ليدفنها بنفسه ."

ضحايا احتلال عام 1948

أرض خصبة وذكريات عصية على الرحيل
ويُرجع حسين علي أبو رحيّل، المولود عام 1925 في قرية المنسي قضاء حيفا، عقارب الزمن إلى الوراء فيقول: كنا نزرع القمح والشعير والذرة البيضاء والكرسنة والعدس والحمص، في بلدتنا التي تقع في مرج ابن عامر، وخلال فصل الصيف نعمل في أرضنا بالسمسم والبطيخ والشمام. ولم نستخدم الأسمدة الكيماوية، ولم نعرف غير استعمال الكبريت الأصفر للمزروعات.
ووفق أبو رحيل فقد أشتهرت المنسي بينابيع: عين الرز، والقلايد، والمنسي، وكان الفلاحون يحرثون أرضهم على الخيول والبقر( كل اثنين منها تربط  معا لتجر المحراث، وتسمى عمّالا). ويغرسون أشجار التفاح والدراق.
وتروي علياء علي محمد أبو سريس، التي أبصرت النور عام 1926، في الكفرين:  زرعنا كل شيء، وكنا نجمع  القمح والشعير على رؤوسنا، قبل أن ينقل إلى البيادر على ظهر الجمال، وكانت بلدتنا تنبت الخبيزة، والزعمطوط، وورق اللسان، وكنا نجفف البامية( نضعها في قلائد) والبندورة والملوخية  والزعتر في الشمس، ونخزنها مونة لأيام الشتاء الطويلة.
تقول: كل شيء زمان كان أفضل، واليوم  ما في طعم للخضروات والفواكه، وصارت مثل البلاستيك.

أفراح تُشعل الحنين
ويستذكر حافظ مصطفى خليل، الذي أبصر النور عام 1942، مواسم الأعراس وجاهات الخطوبة، والأغاني الشعبية، والزفة، والموائد التي كان أهالي قرية البرية، جنوب الرملة، يعدونها في أفراحهم.
وقال: كنا نقيم الأفراح  سبع ليال، وكان أهالي القرى المجاورة مثل أبو شوشة وعناب والقباب يشاركونا أعراسنا، أما المهر فكانت قيمته 100 جنيه فلسطيني أحياناً، و200 جنيه أحياناً أخرى.
وبحكم طبيعة القرية التي كانت تعتاش على تربية المواشي، فقد كان الأهالي يذبحون أعداداً كبيرة من الأغنام، ويقيمون الولائم للمدعوين، ويغنون، ويفرحون.
وفق رواية هزاع عبد الرحمن الغول، المولود في الكفرين المجاورة لحيفا عام 1939، فقد كانت الأمهات يبحثن عن العرائس لأبنائهن، ثم تتكفل الجاهة بطلب العروس، من دون أن يتمكن الشاب من رؤية خطيبته، طوال فترة ارتباطه بها.
يقول: كانت المهور قليلة، وتتراوح بين 40-50 جنيهاً فلسطينياً، أما المأذون فكان المختار أديب النجمي، الذي يوثق عقود الزواج، ولم تكن فترة الخطوبة تطول كثيراً، وأقصاها لا يستمر غير ثلاثة أشهر.
يتابع: كان الأهالي يُشعلون النار، ويسهرون في "التعليلة"، وإذا كانت العروس من بلد مجاور فيذهبون لإحضارها، ويتفقون على نقطة التقاء في منتصف الطريق. أما الزفة فكانت تتم على فرس، بعد أن يتناول المدعوون البرغل والجريشة، وتذهب النساء لحناء العروس.
وتستعيد سارة إبراهيم، المولودة في بلدة سيدنا علي( الحرم) شمال يافا، التي عاشت يتيمة الأبوين، ما سمعته من أقربائها عن الأعراس وما عاشته من لحظات الطفولة، فتقول: كنا نركض وراء الزفة، ونتسابق لمشاهدة العروس، وكان أهل الفرح يرمون لنا الحلوى على الأرض.
وترسم حليمة محمد أبو الروس المولودة في بئر السبع، وعزية نصار ابنة إجزم قضاء حيفا، صورة للأفراح، حين كان أهل العريس يحضرون للعروس صندوقاً خشبياً به جهازها( ملابسها واحتياجاتها)، فيما كانت المهور بين الأقارب 50 جنيهاً وللغرباء 100 جنيه، من دون أن تسمح العادات للمخطوبين بالالتقاء أو مشاهدة بعضهما البعض.
تقولان: كان مهر العروس يُحدد بالأوقية، وكانت الواحدة منها تساوي 100 جنيه، وأكثر مهر كان لصالحة البطران، الذي بلغ ألف جنيه فلسطيني. وكانت الجاهة تذهب لبيت عائلة العروس، بعد أن تسبقها زيارة لأم العريس وأخواته، وتمتنع الجاهة عن شرب القهوة، قبل أن يُستجاب إلى طلبها بالموافقة على المصاهرة.
تضيفان: كان الرجال يصطفون صفاً واحداً بلباسهم التقليدي( الدماية)، ويشعلون الحطب، ويوزعون الشاي، ثم تأتي سيدةً منقبة أو كاشفة وجهها أحيانا وتسمى(الحاشية) لترقص بسيفها، وإذا ما حاول الرجال الاقتراب منها، فإنها ترفع السيف بوجههم، فيبتعدون بسرعة. وإذا ما كانت العروس من بلدة مجاورة، والزواج بدلاً، كانوا يحضرونها على جمل( هودج)، ويلفون يدها بحرير أخضر، وتحمل سيفاً، وتضع على العباءة زينة من ريش النعام.

لا جئو عام 1948 يتحدثون عن الحياة الفلسطينية قبل عام 1948

البيت: صورة لا تُنسى
وأعادت الحاجة بهية صبح المولودة عام 1933 عجلة الذاكرة إلى أم الزينات، القريبة من حيفا، وتسلسلت في أراضيها وينابيعها، كبير الهرامس وطهرة البيدر، والنتاشة، والبويضة، والشقاقة، وجرماشة، وذراع نجم، وكيري.
وقالت: كان بيتنا من 8 قناطر، وكنا نعيش وأعمامي الثلاثة وسيدي فيه، ونجلس 26 نفراً على الغداء معا، ونأكل ما تنبته أرضنا، ونورد لحيفا الخضروات، وكنا نحصد الشعير حين سقطت البلاد، وهاجمنا اليهود، وأصابوا أخي يوسف وجارتنا جميلة الخليل، وهربنا إلى الأحراش.
وتنقلت يسرى محمد شحادة( 70 عاماً) بين ينابيع الكفرين، حين كانت تنقل المياه على رأسها بالجرار، هي وبنات جيلها، وكن يشاهدن على حواف الطريق ما تنبته الأرض من خردلة، وعكوب، وأبو صوي، وجعدة، ودريهمة، وحويرية، وزعتر، وغيرها.
ولا زالت تمام محمد صالح، تحن إلى منزل عائلتها المكون من 8 قناطر في أم الزينات، ولا تنسى كيف أخفت والدتها  دلة القهوة والفناجين من ديوان والدها في قن الدجاج، قبل أن تغادر القرية، وهي تؤكد أن غيابهم عنها لن يتعدى الأيام السبعة، وهم يغادرونها إلى إجزم ودالية الكرمل.
فيما تحفظ فخرية رجا جعايصة، التي أبصرت النور عام 1959، ما قصه لها والدها، حين كان يلاعبها بعين الحنانة، ويقول: (حنانة منانة، نزرع  خوخة ورمانة).  وتقول: كان بيتنا أول عليه في الكفرين، بشبابيك زجاجية.

من مهجري عام 1948

أجواء باردة وذكريات ساخنة
يقص محمد عبد أيوب، الذي خرج إلى الحياة عام 1927 في قرية الفالوجة، تفاصيل حراثة الأرض والمزروعات الشتوية التي كان يزرعها الأهالي.
وقال: كنا نحرث مناطق أبو البطم، والمراح، والخصاص، والرسوم، والسدرة، على الخيول والأبقار، ونبذر القمح والشعير والقطاني. وفي ليالي المطر الطويلة نذهب إلى ديوان آل النجار، ونسهر على كومة نار كبيرة.
يفيد: في ليالي الشتاء كنا نتسامر حول كومة النار، ونشاهد الرجال يلعبون صينية الفناجين( 9 فناجين توضع على صينية، وتحتها خاتم يتطلب أن يعثر عليه اللاعب، وإذا خسر ينصاع مع فريقه لطلبات الفريق الرابح). وكان الشيخ حسن وشاحي يقص لنا الحكايات.
ووفق الراوي، فإنه حفظ عن ظهر قلب أسماء الأراضي كوادي الشقاق، ووادي الجلع الذي كان ينفجر بداية الشتاء. وعرف  نبات بلده  مثل شقائق النعمان والنرجس والزعتر.
يقول: كنا في المطر نأكل من خيرات أرضنا، ونخبز القراص والحميض والسلك والعونية، وكانت مواسم المطر أفضل من اليوم وأطول كثيراً.
ولا تسقط من ذاكرة أحمد صالح أبو سريس( ولد عام 1938) في الكفرين، طريقة التنبؤات بالشتاء التي كانت متبعة، وفيها، يتم وضع 4 أكوام من الملح بداية الموسم، تمثل شهور الشتاء، وإذا ما ذاب أحدها أكثر، فهذا يعني أن المطر سيكون غزيراً.
يفيد: كانت الخبيزة تُطبخ شتاء  بعدة طرق، وكنا نشوي البطاطا والشحيمة( تشبه البصل)، ونستمع إلى قصص  الزير سالم،  وألف ليلة وليلة حول النار.

الزيتون: شجرة السماء والأرض!
ويسترجع حبيب سالم العايدي، المولود في عام 1931 في بلدية(سيدنا علي) شمال يافا، لحظات رحلته إلى القرى المجاورة في المسكة وقلنسوة وجلجوليا بحثاً عن التزود بالزيت، لكون قريتهم كانت متخصصة في زراعة البساتين والمحاصيل الحقلية كالباذنجان والفلفل والبندورة والملفوف.
يقول: كان الناس يقطفون الثمار بأيديهم، وبعضهم استعمل العصي، لكنهم لم يستخدموا الفراش تحت الأشجار، وكانوا يحتفلون بانتهاء جمع المحصول، بتوزيع( الجاروعة)، وهي مقدار من الزيتون يُعطى للمشاركين في العونة.
يضيف: كنا نخًزن الزيتون في الجرار الكبيرة( الزير)، وكانت المعصرة التي زرتها برفقة والدي في بلدة جيوس قضاء قلقيلية تدار على الخيول، التي تجر البد( وهي قطع كبيرة من الحجارة تستخدم لاستخراج الزيت من الثمر).
ووفق العايدي، كان أهالي (سيدنا علي) يفرحون بالزيت الجديد لإنتاج وجبات شعبية، كالمطبّق، والسياحي، وهما رقائق طحين تًدهن بالزيت، وتخبز على الصاج الحديدي.
فيما يستذكر السبعيني محمد موسى عبد الجواد، الذي أبصر النور في الكفرين المجاورة لحيفا، عام 1940، كيف أن عائلته زرعت مدة طويلة الخضروات في أرضها، قبل أن تقرر تشجيرها بالزيتون قبل النكبة بسنتين، لتحرم من قطفه.
وبحسب الرواة، فقد حرص الأهالي على تناول الزيت الجديد مع الزعتر المنتج من أرضهم، ولتحضير ( المبسوسة أو المفروكة)، وهي  طحين وسكر وزيت، كما صنعوا الزلابية والفطير والحلبة بمذاقات مختلفة. أما التخزين فكان يتم بوضع الزير في تجويف موجود في الحائط، ويتركونه تحت نبات (النتش) الشوكي؛ لحمايته من الحشرات ومنعه من الوقوع والكسر.

مخيم الفارعة

 صفيح المخيم
واستذكر الرواة لحظات إقامة مخيم الفارعة قرب نابلس: أقيم المكان عام 1949، قرب عين الماء، وعلى أرض حمراء كانت توحل في الشتاء، بخيام صغيرة ذات عمود واحد، وأخرى أكبر  بثلاثة أعمدة، وبعضها بني وآخر أبيض أما الشفافة فكان الأهالي يطلونها بالإسفلت؛ ليحتموا من الشمس والعيون. فيما أقيمت المدرسة في خيمة كبيرة، درسوا فيها.
ووفق الشهود: فإنه في عام 1956، بدأت وكالة "الأونروا" توزع ألواح (الأسبست) لبناء غرفة واحدة لكل عائلة، ذات ارتفاع متر ونصف المتر، وبسمك 10 سنتميترات للسقف، كانت للنوم وللطبخ ولكل أشكال الحياة، أما المرافق الصحية فكانت مشكلة كبيرة، إذا أقيمت في المخيم وحدات صحية عامة، فيما كانوا يذهبون لتوفير المياه من العين بأوعية معدنية.
مما لا ينساه أهالي المخيم، الرياح والعواصف والأمطار والثلوج ذات مرة، حين كانت تقتلع خيامهم، ما دفع السلطات الأردنية لترحيلهم إلى إسطبلات الخيول في المبنى المجاور، الذي صار لاحقاً سجنا. عدا عن العمل الشاق في الكسارات مقابل قرش واحد عن كل ساعة، وإصابة من عمل بالزراعة في الأغوار بالملاريا.

الحاجة بهية صبح من قرية أم الزينات المدمرة قضاء حيفا

مدارس القرى المُدمرة
يرجع الثمانيني عبد القادر حمد عبد الهادي الزمن إلى مدرسة  قريته صبارين بجوار حيفا، التي كانت تضم أربعة صفوف، فيما سبقها مدرسة غير رسمية للشيخ محمود.
يقول: دخلت مدرسة الشيخ وأنا ابن  9 سنوات، وكنا نتعلم اللغة العربية والحساب والقرآن الكريم، وكان المعلم يكتب على لوح (التنك) بالفحم. وحينما فتحت المدرسة الرسمية أبوابها،  نقلوني إلى الصف الثاني لكبر سني، ولكن بعد أسبوع طلب من المعلم أن أكتب على اللوح رقم 250، فلم أعرف، وأعادني مرة أخرى للصف الأول.
ويبث عبد الخالق جعايصة المولود في الكفرين عام 1937، مقاطع من  حكاياته مع المدرسة، التي ضمت أربعة صفوف.
يقول: درّسنا الأستاذ نعيم دروزة من نابلس، وكان يلف على الصفوف كلها، فيعطينا حصة وينتقل للصف الأخر، وهكذا طوال السنة، وكان في كل صف  نحو 20 طالباً، وتعلمنا الحساب واللغة العربية والجغرافيا والتاريخ، ولم ندرس اللغة الإنجليزية.
حسب شهادة جعايصة، الذي خرج من مدرسته بعد أن وصل الصف الثالث؛ ليعمل في الأرض، فقد كان التعليم مجانياً، ولم تكن في الكفرين كلها سوى بنت واحدة متعلمة إسمها عبلة شاكر أسعد.
ويسترد خليل أحمد أبو زهرة، الذي أبصر النور عام 1930 في صبارين، قصة دراسته لأربعة أشهر في مدرسة الشيخ محمود، قبل أن يكمل في مدرسة قريته، ويتتلمذ على يد أساتذته الشيخ محمد صاحب اللفة، والشيخ محمود العرعراوي، ومديرها المعلم نجم من حيفا.
يفيد: واصلت الدارسة حتى الصف الرابع، ولم أكمله بسبب النكبة، ودرسنا التاريخ والجغرافيا والقرآن والحساب والقواعد والقراءة، وعندما ختمت جزء عم، علّل( احتفلوا) أهلي 7 أيام كما كان الناس يفعلون.
بينما يكمل محمود أسعد إسماعيل: دخلت المدرسة عام 1939، وقرأت أربع سنوات، درسنا الأستاذ أبو نزار من  عكا، وعبد الغني شرف من طولكرم، ولا زلت أحفظ النشيد حتى اليوم ومنها نشيد القهوة( أنا المحبوبة السمراء وأجلى بالفناجين، وعود الهند لي عطر، وذكري شاع في الصين)، ونشيد الوردة ( للورد عندي محل لأنه لا يمل، كل الرياحين جند وهوى الأمير الأجل، إن جاء عزوا وتاهوا، حتى إذا غاب ذلوا). يتابع: كان من ينهي الصف الخامس يُعين بديلاً، ومن ينهي السادس يصبح معلماً، وقبل النكبة أنهى ابن عمي محمود شفيق تعليمه في عكا للصف السادس، وعندما عاد، عملنا له زفّة، وأركبناه على الفرس، كما كان  الناس يفعلون.

لحظات قاسية
تقول السبعينية بهية صبح: هاجمتنا عصابات اليهود، وكان القمح طول الرجال، وطلعنا على أم الزينات، وهاجمونا مع الفجر، وانتقلنا إلى خيمة في أم الزينات، وسمعنا من الناس عن هجوم اليهود علينا، وكانت الدنيا خطيطة( ضباب)، وانتقلنا إلى إجزم . وفي إحدى أيام رمضان، كنا نستعد لتناول الفطور، وقبل أن نضع شيئا في أفواهنا، هاجمتنا طائرات كبيرة، كنا نسميها ( بوسطة)، وضربت علينا قيزان( قنابل)، وظلينا 3 أيام في البلد، وصارت الناس تهرب بين حقول السمسم من الطيران، وعند بير قطينة هرب الناس بين حقول الذرة المزروعة من الموت .
ظل حال الحاجة صبح على مشاهد الرعب التي تسببت بها "العصابات الصهيونية"، ولم تنته الحالة بوصولها وعائلتها والمئات من أبناء بلدتها إلى عارة وعرعرة قرب أم الفحم، وفي أيام الشتوية انتقلت إلى عانين قرب جنين، وفتحت أبواب السماء عليهم بالمطر، وغرقوا، وصاروا يفتشون عن كهف يحتمون فيه من المطر، فيما أخذوا يقطعون الأشجار، ويصنعون الفحم، ويبيعونه ليوفروا الطعام والشراب، بعد ضياع أرضهم . فيما فرّ أبناء عائلتها وأهالي قريتها إلى بير الناطف، واحتموا ببيت المختار أسعد المصطفى، وسقطت عليهم القنابل، فأصيبت جميلة الخليل، وصفية الخليل، وشقيقها يوسف، الذي جرته مسافة قصيرة بعد عجزها عن رفعه، وحمل الشبان والرجال الجرحى على ظهورهم.
تقول: تبرع رجل اسمه القطاوي بكشف طريق البلد، وعاد ليخبرنا بأن الطريق أمان، وركضنا على أم الشوف، وكانت أغراضنا كلها، نحن ودار الفحماوي، وبيت محمود المصلح، على جمل واحد . وحين وصلت الحاجة صبح، وفق روايتها، ومن معها إلى بئر أم الشوف، سمعوا خالد الذيب قرب بئر القرية وهو يصرخ، ويقول لليهود من العذاب والقهر: "تعالوا اذبحونا، إحنا هون"، وتركوا البلد .
تروي بحزن: في عانين لم نجد بيتا، وبحثنا عن كهف قديم، نظفناه، وعشنا فيه مع دار خالتي سليمان السعيد، وانتقلنا إلى مخيم جنزور ( قرب قباطية)، وعشنا فيه حتى عام 1950، حتى نزل الثلج فوق الخيام، وخربها، ونقلنا الجيش الأردني إلى جنين، وصارت الوكالة توزع علينا الفحم والزبيب والخبز، وانتقلنا إلى جامع جنين 3 أيام، ورجعنا إلى جنرور. وبعد فترة مشينا من الصبح إلى العصر حتى وصلنا الفارعة، ولم نجد شيئاً نأكله غير اللوز الأخضر .
عادت الحاجة بهية بعد 52 عاماً إلى "أم الزينات"، برفقة أولادها وأحفادها، وفتشت عن بيتها، وقطفت الصبر، والعنب، وتحسرت على ضياع البلاد والعباد، ولم تجد غير الأطلال.

التعليقات

 

الأسم
البريد الألكتروني
التعليق
 
 

 

 
 
الصفحة الرئيسية | ارشيف المجلة | افاق البيئة والتنمية