مجلة الكترونية شهرية تصدر عن مركز العمل التنموي / معا
أيــار 2013 - العدد 54
 
Untitled Document  

لا يمكن أن يصبح الناس أحرارا ما لم يمتلكوا المعرفة الحقيقية التي تمكنهم من كشف الأكاذيب التي تروجها جهات ومؤسسات تجارية ورسمية
الانكماش الكبير في عمل الصحافة البيئية العالمية لم يمنع تحسن مستواها المهني وزيادة عمق معالجاتها
الصحافة البيئية الملتزمة والمبدئية هي التي تعمل على خدمة المحكومين وليس الحكام

جورج كرزم
خاص بآفاق البيئة والتنمية

بالرغم من التراجع الذي طرأ على وسائل الإعلام المهتمة بقضايا البيئة، فقد تميز بعضها بتجدد "شبابها".  إذ أن الانكماش الكبير في عمل الصحافة البيئية العالمية، لدرجة اختفاء بعضها بسبب الأزمة العامة التي عصفت بالصحافة؛ لم يمنع تحسن مستواها المهني وزيادة عمق معالجاتها وانفتاحها على اتجاهات اجتماعية واقتصادية.  ونظرا للظروف الصعبة التي واكبتها، اضطرت الصحافة البيئية، أحيانا، لعمل تنازلات وتسويات وضعتها أمام تحديات غير سهلة من منظور الأخلاقيات الصحافية.  إلا أن المسألة الأساسية في الصحافة البيئية هي مساهمتها في بلورة سلوك بيئي مسؤول وفعال.
الصحافيون البيئيون حصروا أنفسهم إجمالا، طيلة سنوات طويلة، في قلعة معزولة؛ حيث عملوا على متابعة وتغطية قضايا بيئية بحتة، مثل منع التلوث أو حماية الطبيعة، دون وضع هذه القضايا في سياقها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. 
في السنوات الأخيرة تغير هذا التوجه، وبخاصة بعد أن كشفت الأزمة الاقتصادية العالمية عن العلاقة الوثيقة بين السياسات الاقتصادية-الاجتماعية والآثار المترتبة عن هذه السياسات على الموارد البيئية والطبيعية.  وقد أخذت كبرى الصحف العالمية، مثل "الجارديان" و"نيو يورك تايمز"، توسع وتعمق تقاريرها البيئية؛ فأنشأت الأخيرة "دائرة إعلام بيئي" يعمل فيها طاقم كبير من المحررين والمراسلين.  أما صحيفة "الجارديان فألحقت "بتغطيتها البيئية العادية مواقع بيئية متخصصة بشكل واسع في قضايا منوعة من الاستدامة البيئية-الاقتصادية-الاجتماعية.  وتسترشد تقارير "الجارديان" بمفهوم أساسي مفاده ضرورة تحجيم قوى السوق وتشجيع عملية توزيع واستغلال الموارد الطبيعية بشكل متساو وعادل.  ولم تكتف الصحيفة بدفاعها عن "العدالة الاجتماعية"، بل قررت إنشاء قناة اتصال مع أولئك الذين يهددون قيم العدالة والمساواة.  لذا، فتحت جدلا مع مدراء الشركات العالمية الكبيرة، بهدف بلورة نقاش حول العدالة والاستدامة البيئيتين؛ وذلك من منطلق "ضرورة نقد سلوك ومواقف هذه الشركات، وتشجيعها، في ذات الوقت، إذا ما امتلكت نوايا التغيير".  لكن، الشرط الأساسي لمثل هذا التوجه الإعلامي البيئي هو الحفاظ على الاستقلالية الصحافية.
الضغوط الإعلامية على الشركات التجارية والصناعية تهدف إلى دفع الأخيرة نحو تغيير سلوكها في جميع حلقات سلسلة الإنتاج؛ أي من مرحلة المواد الخام وحتى مرحلة معالجة النفايات الناتجة عن السلع التي يتم تسويقها.  هذا ما يعرف في اللغة البيئية بالاقتصاد الدائري، أي إعادة الاستعمال والتدوير المتكرر للمواد التي أُخِذَت من الطبيعة.  وبالفعل، قبلت بعض الشركات التحدي وقلصت استخدام المواد الخام، أو خفضت انبعاث غازات الاحتباس الحراري.  وبالطبع، لا تزال الطريق طويلة جدا، وبخاصة أن العالم يواصل السير نحو مستقبل غير آمن من ناحية أزمات الطاقة والمياه التي تهدد الحضارة البشرية، علما أن معظم الناس يتشبثون بأنماط الحياة القائمة، دون تسجيل نجاحات حقيقية كبيرة في التغيير النوعي.
العديد من أصحاب الشركات التجارية والصناعية يدركون بأنهم لا يستطيعون الاستمرار وفقا للنمط الإنتاجي الحالي، وبالتالي لن يكون لهذه الشركات مستقبل اقتصادي دون توجه اقتصادي مستدام. 
وسائل الإعلام تعد جزءا هاما من المشكلة، لأنها تواصل وبقوة، من خلال تقاريرها وتغطياتها، الترويج لثقافة الاستهلاك التي تمعن في استنزاف موارد الكرة الأرضية.

بناء الثقة والمصداقية
في المستوى الفلسطيني، لا يوجد عمليا إعلام بيئي قائم بذاته ومتخصص. لأن الأولويات والأجندات الإعلامية والصحفية الفلسطينية ليست قضايا البيئة، بل السياسة والاقتصاد والرياضة والطبخ، وكل شيء آخر، ما عدا البيئة.  علما أن الإعلامي أو الصحافي البيئي لا بد أن يتحلى بمؤهلات ومواصفات علمية وثقافية ومعرفية ومهنية خاصة، غالبا ما نفتقر إليها، للأسف، في الضفة والقطاع.  ومن أهم هذه المواصفات: امتلاك المعرفة والثقافة البيئية، والتأهيل والتدريب على العمل الصحفي والإعلامي البيئي الذي يتطلب مهنية عالية، وانتماءً للقضايا البيئية، وجهدا ووقتا كبيرين، ويستلزم أعمال التقصي والتحري والتحقيق والبحث الميداني وجمع المعلومات والوثائق ومعالجتها.  كما يجب أن يمتلك الصحافيون والكتاب البيئيون الخبرة الصحفية، وأن تكون بحوزتهم دائما أخبار بيئية جيدة ومثيرة، وأن تكون لهم القدرة على الحكم على المعلومات والمعطيات.
ويُعَد التقصي والتحقق العلمي من صحة المعطيات والمعلومات، والحفاظ على استقلالية الجسم الإعلامي عن الجهات أو المؤسسات أو الأفراد التي يعمل على تغطيتها، من أهم مبادئ العمل الإعلامي البيئي الناجح والمؤثر.
ويتجسد الهدف الأولي في تزويد القراء المنتمين إلى الشرائح الفلسطينية والعربية المختلفة، بالتغطيات البيئية وبالمعرفة والمعلومات التي يحتاجونها حول القضايا والمشاكل البيئية التي تمس حياتهم، كي يصبحوا أحرارا ومستقلين في الحكم والتقدير، وبالتالي العمل على التغيير.
إن تزويد الناس بالمعرفة البيئية، والكشف عن الجوانب والزوايا البيئية الفلسطينية والعربية غير المرئية وغير المعروفة أو المُعَتَّم عليها، يمنحان الشرائح الشعبية الثقة والأمان، ويتيحان لها فرصة التخطيط والتحرك نحو التغيير.
الصحافة البيئية لا بد أن تكون مرآةً لمجتمعنا الفلسطيني والعربي.  لذا، يجب، وبشكل أساسي، إعلاء وإبراز صوت الناس العاديين أنفسهم.  ومن الأهمية بمكان، أن تكون الأصوات والألوان البيئية في المنبر الإعلامي منوعة، ومن مناطق فلسطينية وعربية مختلفة.  ومن خلال هذا التنوع في الأصوات، يستطيع الناس معرفة الحقيقة، وبالتالي الحكم على الأشياء بأنفسهم.
وبما أن المعلومات التي تنشر عبر الصحافة البيئية، قد يستخدمها الناس كمادة يتعلمون منها حول العالم والبيئة المحيطة بهم؛ فمن الضروري العمل دائما على بلورة صحافة بيئية تتسم بالتوجه نحو حل المشاكل، من خلال التركيز ليس فقط على المشاكل والممارسات الخاطئة، بل وأساسا، على الحلول الصديقة للبيئة.
الصحافة الملتزمة والمبدئية، بشكل عام، والصحافة البيئية بشكل خاص، هي التي تعمل على خدمة المحكومين، وليس الحكام.  وباعتقادنا، لا يمكن أن يصبح الناس أحرارا ما لم يمتلكوا المعرفة والمعلومات الحقيقية التي تمكنهم من كشف الأكاذيب التي تروجها جهات ومؤسسات تجارية ورسمية.  
لذا، في عملنا الإعلامي البيئي، لا بد أن نكون منصفين وعادلين تجاه الحقائق ذاتها، وتجاه فهم الناس لهذه الحقائق.  وهذا يعني، بألا نعمل على إرضاء مصادر معلوماتنا؛ سواء كانوا أفراداً أو مسؤولين أو شركات أو مؤسسات.
وبدلا من "بيع" الناس والقراء بعض المعلومات، يجب على الإعلام البيئي الحقيقي أن يبني الثقة والمصداقية، وأن ينشئ علاقة مع المستفيدين من قراء ومشاهدين؛ بحيث  تستند هذه العلاقة إلى القيم الأخلاقية والعلمية والمهنية، والشجاعة، والقدرة على الحكم، والالتزام بقضايا ومعاناة الناس. 
ومن الضروري العمل بشكل مستقل، على استكشاف الحقائق البيئية المحلية والإقليمية الجديدة، والتحقق من مدى مصداقيتها وصحتها.  ويختلف هذا التوجه، عن الممارسات الصحفية الإلكترونية المعاصرة الشائعة؛ وتحديدا من خلال شبكة الإنترنت التي تزود الصحافيين والكتاب بمداخل سهلة للقصص والاقتباسات، دون بذل أي جهد لعمل تحقيقاتهم الخاصة بهم. 
وفي الواقع، أصبحت "الحقائق" سلعة، يسهل الحصول عليها، ومن ثم إعادة تغليفها، وتحريف الغرض من تسويقها!  ففي عصر يتميز بدورات أخبار تعمل على مدار الساعة دون توقف؛ يستنزف العديد من الكتاب والصحافيين وقتا طويلا من عملهم، في التفتيش على شيء ما يضيفونه للأخبار أو الحقائق القائمة؛ وغالبا ما تكون هذه الإضافة مجرد تأويل أو تعليق، وليس محاولة للكشف عن الحقائق الجديدة الخاصة بهم، والتحقق منها.

درسان أساسيان من عملنا الإعلامي في "آفاق البيئة والتنمية"
أولا:  لا تعتمد على ما يقوله الموظفون الرسميون أو المسؤولون فقط، أو ما يُنْشَر من روايات إخبارية؛ بل توجه للحصول على المعلومات والحقائق من مصادرها الأولية، واحرص على أن تكون منهجيا، ومُدَعِّما لما تقوله بالأدلة والوثائق والمراجع.  فلا تَتَكِئ على مصادر ثانوية من تقارير صحفية وغيرها؛ بل حاول اللجوء إلى وثائق وتصريحات ومواقف المصادر الأولية؛ فضلا عن الناس والشهود الحقيقيين ذوي الصلة بالحَدَث.  فلنقابل أولئك الناس والشهود، لنتأكد من أن المعلومات التي لديهم، تنسجم مع ما هو مذكور في الوثائق والمراجع، ولا تتعارض معها.  ولنسألهم أسئلة قد تبرز من خلال مراجعتنا للوثائق والمراجع المختلفة.
ثانيا:  يجب التواضع فيما يتعلق بمهاراتنا.  وبكلمات أخرى؛ يجب ألا نتشكك فقط مما نراه أو نسمعه من الآخرين، بل يجب أن نكون متشككين أيضا من مدى قدرتنا على معرفة ما تعنيه حقا المعطيات والحقائق التي بحوزتنا.  فعلى الكتاب والصحافيين ألا يصدروا أحكامهم المطلقة على ما يعرفونه وكيفية معرفتهم له. 
ولتجنب سوء عرض الأحداث والمشاكل البيئية، لا بد أن نكون أمناء لمحدودية المعرفة التي نمتلكها، ولمدى قدرتنا على الاستكشاف والفهم.

التعليقات

 

أثمن كل ما طرحته يا أستاذ جورج مفكرنا ونبضنا؛ فأنت تبوح وتكشف وتعبر عما نشعر به ولا نستطيع التعبير عنه، أو ربما لا نجرؤ...  فحقا إن مشكلة بلدنا أن معظم الناس ليسوا أحرارا لأنهم لا يمتلكون المعرفة والمعلومات الحقيقية، وبالتالي فهم لا يتمكنون من كشف الأكاذيب التي تروجها جهات ومؤسسات تجارية ورسمية، كما تبين في مقالتك الرائعة هذه ...

أحمد صفوري

 

مقالة قوية وعميقة...وقد شخصت عيوب وعورات الصحافة العربية بعامة، والصحافة البيئية العربية بخاصة...نأمل أن يتعلم العاملون في الحقل الإعلامي من هذا النص النموذجي ...

سعاد زيناتي

 

مقالة تحليلية رائعة، وباعتقادي يجب أن تقدم نموذجا لطلاب الصحافة والإعلام في جامعاتنا ...
تحياتي ...

مروان العتال

 

الأسم
البريد الألكتروني
التعليق
 

 

 

 
 
الصفحة الرئيسية | ارشيف المجلة | افاق البيئة والتنمية