خاص بآفاق البيئة والتنمية
كانت الصحافية تمارا حبايبة على مقاعد دراستها الابتدائية، حين أسرعت رصاصة احتلالية إلى الفتاة غادة العيسة (21 عامًا) العائدة من حقل الزيتون بقرية صانور، جنوب جنين.
تنتشر في القرية حكاية غادة بالرغم من مرور تسع سنوات عليها، ويجدد موسم الزيتون القصة كل عام. فتقول حبايبة:" كانت غادة عائدة من الحقل، وتجلس في عربة صغيرة مربوطة بجرار زراعي، واستقرت رصاصه برقبتها، فمالت على كتف عمتها وأغمضت عينيها للأبد، دون أن يشعر أحد باستشهادها، إلا بعد الوصول إلى المنزل."
تكمل:" بقيت من ذكرى غادة الكثير من الذكريات، كما أخلى جيش الاحتلال المعسكر المجاور للقرية بعد سنوات من قتل العيسة، ووفاءً للشهيدة، فقد أطلق الأهالي اسم (دكانة الشهيدة) على بقالة العائلة."
حقول الزيتون الفلسطينية هدفا دائما لعدوان المستوطنين
شجر مُلطخ بالدم
يقول المزارع صلاح إبراهيم، الذي يملك حقلاً قريباً من مستوطنة (يتسهار): ما حدث لغادة تكرر كثيرًا قبل عام 2006 وبعده، وأتذكر حادثة استشهاد مزارعة في اليوم الذي قتُل فيه الحاخام المتطرف مائير كاهانا خلال الانتفاضة الأولى.
وبحسب إبراهيم، فإن بلدات نابلس ورام الله تدفع ثمنًا باهظًا من زيتونها وحقولها، فكثيراً ما تتعرض لهجمات المستوطنين بالاقتلاع والحرق ونهب المحصول. وغالباً ما يجري هذا بحماية من جنود الاحتلال.
واستنادًا إلى أرقام مركز أبحاث الأراضي، شهد عام 2011 الاعتداء على نحو (20600) شجرة مثمرة منها (17.227) شجرة زيتون، وخلال العام التالي جرى الاعتداء على (37089) شجرة مثمرة (80%) منها أشجار زيتون.
حلاوة وطن
يقول المربي المتقاعد عوني ظاهر من ياصيد بجوار نابلس: "من حسن حظنا أن بلدتنا لم يصادر الاحتلال ذرة تراب من أراضيها، أو شجرة زيتون من حقولها، ولهذا يجري دائما في قريتنا موسم القطاف كالمعتاد، لا يعكره إلا ما نسمع به من اعتداءات في القرى والمناطق المجاورة، وخاصة شرق وجنوب وغرب نابلس."
يضيف: نشعر بحلاوة الوطن والإيمان ونحن نقطف حبات الزيتون وقد غسلها المطر، ونتابع أولاً بأول الأخبار التي تشير إلى صمود أهلنا في القرى المجاورة، واعتداء المستوطنين عليهم، وحرق وتخريب حقولهم، وإشعال النار فيها.
ويروي المصور الصحافي أحمد الكيلاني، من يعبد غرب جنين، حال الحقول المحيطة بالبلدة، فيقول:" تم تقطيع الزيتون في ثلاثة محاور من يعبد، على فترات زمنية متقاربة. وبعد كل عملية استهداف للمستوطنين كانت تنفذ حمله تقطيع للزيتون على جوانب الطريق، بدعوى زيادة المناطق المكشوفة والعازلة، ولكشف الطريق الذي يحوي العديد من التعرجات."
يضيف: خلال سنوات الانتفاضتين ( 1987 و2000) كانت المعاناة صعبة، وفي بعض المواسم لم يتم القطاف؛ بفعل كثافة الاستيطان والنقاط والأبراج العسكرية التي تخنق الشارع، عدا عن إغلاق المدخل الغربي للبلدة.
ويؤكد الكيلاني أن مستعمرات شكيد وحانينيت ودوتان ومابودوتان وحرميش وكتسير، وبؤرة صغيرة بجانب دوتان "تحيط بزيتون يعبد كما يحيط السوار بالمعصم."
زيتون اغتسل بأولى زخات المطر في تشرين أول الماضي
موسم حزين
غير أن مراسل (الجزيرة نت) عاطف دغلس، يقول لـ(آفاق): "إن ما يعيشه موسم الزيتون لهذا العام ربما يختلف عن سابقه من الأعوام، حيث تزامنت عملية القطف مع انتفاضة القدس ووقوع مواجهات بمختلف المناطق، وخاصة نقاط التماس مع الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين."
يتابع: يستهدف الاحتلال ومجموعات المستوطنين شجرة الزيتون طوال السنة، لكنهم يضاعفون عدوانهم خلال القطاف، ويمنعون أصحابها كما هو الحال في العديد من القرى والبلدات من الوصول إليها إلا بتصاريح معينة، وأحيانًا يمنعونهم بالكامل، أو يحددون لهم أياما قصيرة للقيام بعملهم سواء في قطف الزيتون أو حراثة الأرض، ويحرمون من التواصل معها طوال العام.
ويتوقع دغلس، الذي يقيم في بلدة برقين بنابلس، أن يتضاعف استهداف الشجرة المباركة، إذا ما استمرت اعتداءات المستوطنين وجنود الاحتلال التي أقدمت على قلع وتحطيم مئات أشجار الزيتون في قرى عديدة، كبورين وحوارة جنوب نابلس، وراح ضحيتها أكثر من 1200 شجرة.
وتقول جنان سلوادي الخريجة حديثًا من جامعة بيرزيت: "بحكم سكني في رام الله، فلا أشارك في قطف الزيتون إلا بوقت قصير مع العائلة، ولا أذكر حوادث اعتداء حصلت في سلواد، كما هو الحال في ترمسعيا والمغير وغيرها."
غلة قطف الزيتون
هجرة الرمز!
وترى أن الجيل الشاب لا يتواصل مع أرضه كما كان يفعل الأجداد، وعلى الرغم من أن موظفي البنوك والوزارات وغيرهم يعودون خلال الموسم إلى قراهم وبلداتهم للمشاركة في القطف، إلا أن الغالبية العظمى منهم لا يتوجهون لأرضهم في الأيام الاعتيادية.
ولا تعرف السلوادي إلا القليل من مصطلحات الزيتون التراثية، كالجدادة، والجول، والجاروعة، والسنة الشلتونية، وتقول إن سبب ذلك " الابتعاد عن الأرض"، بفعل الاقتصاد الجديد، الذي أغرق الجيل الشاب بالقروض البنكية، وجعلهم رهائن لحياة عصرية يدفعون ثمنا باهظًا لها.
ويرى المرشد التربوي محمد سعيد ملحم: أن شجرة الزيتون رمز لوجود الفلسطيني على أرضه، كما أن القدس تسمى جبل الزيتون، نسبة للشجرة المباركة.
وتحتل شجرة الزيتون مكانة خاصة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للشعب الفلسطيني، الذي تؤكد تقديرات سابقة لوزارة الزراعة أنها تشكل حوالي 13%من قيمة الإنتاج الزراعي السنوي.
ويقول ملحم: " هناك خطر داهم على هذه الشجرة وهذا الموسم. وهي مستهدفة لأنها ترمز لنا ولحقنا وبقائنا، بل هي من الرموز القليلة الباقية، لذا فيريدون تدمير وحرق كل شيء يثبت حقنا في وطننا."
ويتابع: سرقوا الأطباق التراثية والزي التراثي والغناء وكل شيء وقبلها سرقوا الأرض، ويسرقون الزيتون المُعمر، وينقلونه إلى مستوطناتهم ومدنهم الطارئة.
ويضيف: للأسف يركض الشبان وراء الربح السريع، دون تعب، فتراهم يفضلون العمل داخل الخط الأخضر، وبعض الفلاحين تحول إلى زراعة السجائر السامة بدل الخيرات.
قطف الزيتون الفلسطيني في الغروب
"سيدة الأشجار"
ووفق ملحم الذي يقيم في كفر راعي بمحافظة جنين، فقد انتشرت في بلدته منذ عقود شركات للاتجار بالزيت وتصديره للخارج، وتخصصت في إرسال "الأمانات" وبخاصة إلى دول الخليج العربي، لكنها تتأثر بالموسم، ففي حالة كونه وفيرا، تقل الأسعار ويزداد الربح وتكثر الأمانات إلى خارج الوطن، وفي حال كان شحيحًا تزداد الأسعار ويقل الربح، كما تتراجع الأمانات المرسلة خارج والوطن. وللزيت التركي المستورد دور في التحكم بالسعر.
وتشير معطيات وزارة الزراعة أن شجرة الزيتون تغطي ما يقارب 45% من مساحة الأراضي الزراعية في فلسطين، وتعتبر الشجرة الأكثر انتشاراً حيث تبلغ مساحة الزيتون حوالي 80% من الأراضي المزروعة بالأشجار المثمرة.
حقائق
واستنادًا لورقة حقائق صدرت عن مركز التعليم البيئي، "فإن الاسم العلمي للشجرة هو Olea europea، وتنتمي للفصيلة الزيتونية Oleaceae، وتُعمّر لآلاف السنين، وهي ذات خشب قوي مقاوم للتعفن، بجذور فعالة وسطحية في غالبها، ومتجددة سنويا، فيما تبقى الأوراق على الشجرة بين سنتين إلى ثلاث لتتساقط بعد ذلك وتتجدد، وهي رمحية وسميكة جلدية، مغطاة بطبقة شمعية لتقليل فقد الماء، كما أنها خضراء داكنة من الأعلى وفضية من الأسفل، أما الأزهار فصغيرة وبيضاء مُصفرّة فتخرج في نورات عنقودية من أباط الأوراق على نمو العام السابق، بينما الثمرة تتكون من جزء لحمي خارجي وجزء متخشب داخلي."
وأضافت الورقة: " يتحمل الزيتون ارتفاع الحرارة، ويحتاج للماء باعتدال، ويتحمل الجفاف، وينجح في المناطق التي يزيد معدل تساقط الأمطار فيها سنويًا عن 350 ملم. مثلما يتناسب مع أنواع الترب المختلفة، ويٌفضل التربة الخفيفة الغنية بالمادة العضوية والكلس والحصى، ولا يُفضل التربة الثقيلة التي تتشقق صيفًا.
قطف الزيتون في الأراضي المحاذية للمستعمرات يعد في بعض الأحيان مغامرة لا تحمد عقباها
11 مليون شجرة
وتشير بيانات التعداد الزراعي الذي نفذه الجهاز المركزي للإحصاء عام 2010، أن عدد أشجار الزيتون في الأرض الفلسطينية بلغت 7,596,562 شجرة، فيما قُدرت مساحة الأراضي المزروعة بـ 462,823,82 دونمًا. بينما يُقدر عدد الأشجار حالياً في الضفة الغربية وغزة بنحو 11 مليون، حسب مركز المعلومات الوطني الفلسطيني (وفا).
وتتركز "سيدة الأشجار" كما يسميها البعض في محافظات: نابلس، وجنين، ورام الله والبيرة، وطولكرم، وسلفيت، وشكلت عام 2011 ما نسبته 66,8% من إجمالي عدد الأشجار، في وقت بلغ فيه عدد المعاصر 272 معصرة، تتراجع في السنوات قليلة الإنتاج إلى 203.
ووفق "التعليم البيئي" فإن أشجار الزيتون تعطي ثمرها بعد 5- 10 سنوات من غرسها، ويتراوح معدل ما تنتجه الشجرة متوسطة الحجم بين 20-30 كيلو غرام من الثمر، وتمتاز الشجرة بظاهرة المُعاومة ( تبادل الحمل)، ففي السنة الأولى يكون الحمل غزيرًا وتسمى السنة بـ( الماسية)، وفي العام التالي يكون المحصول خفيفًا، ويطلق عليه ( شلتوني)، ويمكن التخفيف من هذه الظاهرة بالخدمة المناسبة من تقليم وري وعناية.
aabdkh@yahoo.com