عيون عارة وعرعرة.. والحنين إلى "الماء"!
خاص بآفاق البيئة والتنمية
حين نتجوّل اليوم في عرعرة وقراها في منطقة المثلث الفلسطيني في الداخل، نجد في تسميات الشوارع والأماكن العديد من التسميات المرتبطة بالمياه والعيون إلا أن البحث عن هذه العيون ليس بالأمر الهيّن، علمًا أن عرعرة من القرى التي أقيمت في الأساس حول عين الماء المسماة "عين البلد"، بالإضافة إلى أن هناك دراسات أشارت إلى 14 عيناً وينبوعاً في عرعرة وقراها. ولعلّ عارة وعرعرة هما القريتان الوحيدتان اللتان لا تشتريان الماء من شركة المياه الإسرائيلية، وذلك لقيام الاهالي بحفر بئر ارتوازية سدت حاجة المواطنين وجعلتها تحقق الاكتفاء الذاتي حتى فترة متأخرة نسبة إلى بقيّة القرى المجاورة. ومع ذلك، أصبح البحث عن العيون نفسها في هذه القرى، بسبب الإهمال المتراكم، مهمة صعبة بحد ذاتها، فكيف بإحياء العيون واستصلاحها؟ التأمل في عيون المياه وتاريخها في هذه المنطقة ليس ترفاً، بل له أهميّة خاصة في زمن التغييرات المناخيّة والبحث عن سُبل لتعزيز المنعة المناخية في الحيز العمراني وتحقيق الاستدامة في إدارة المياه والاستفادة منها في زيادة المساحات الخضراء وتبريد المدن، بل وجعلها مصدراً بديلاً أو مكملاً في أوقات الجفاف والطوارئ.
|
حين نتجوّل اليوم في عرعرة وقراها، نجد في تسميات الشوارع والأماكن العديد من التسميات المرتبطة بالمياه والعيون، إلا أن البحث عن هذه العيون ليس بالأمر الهيّن، علماً أن عرعرة من القرى التي أقيمت في الأساس حول عين الماء المسماة "عين البلد". بالإضافة إلى أن هناك دراسات أشارت إلى 14 عيناً وينبوعاً في عرعرة وقراها.[1] ومن اللافت في حكاية هذه البلدة مع المياه ما دوّنه الباحث محمد محفوظ يونس قبل نحو 25 عاماً: "لعلّ عارة وعرعرة هما القريتان الوحيدتان اللتان لا تشتريان الماء من شركة المياه الإسرائيلية،"[2] وذلك لقيام الاهالي بحفر بئر ارتوازية سدت حاجة المواطنين من المياه حتى فترة متأخرة نسبة إلى بقيّة القرى المجاورة. ومع ذلك، أصبح البحث عن العيون نفسها في هذه القرى، بسبب الاهمال المتراكم، مهمة صعبة بحد ذاتها، فكيف بإحياء العيون واستصلاحها؟
صورة لجرّة كانت موجودة في عرعرة- من كتاب عرعرة جذور واغصان- نهال عبد الرحيم أبو عقل - حكايا وتراث
التأمل في عيون المياه وتاريخها في هذه المنطقة ليس ترفاً، بل له أهميّة خاصة في زمن التغييرات المناخيّة والبحث عن سُبل لتعزيز المنعة المناخية في الحيز العمراني وتحقيق الاستدامة في إدارة المياه والاستفادة منها في زيادة المساحات الخضراء وتبريد المدن، بل وجعلها مصدراً بديلاً/ مكملًا للمياه في أوقات الجفاف والطوارئ.
في الجولة التالية التي قُمنا بها مع الأستاذ أحمد ملحم (ابو أنس) تجوّلنا على بعض العيون البارزة في عارة وعرعرة ووادي القصب وخور صقر، كما تم الاعتماد على العديد من المصادر التاريخية المحلية في جمع المادة التاريخية.
دراسة إسرائيلية حول علاقة مواقع مصدر المياه وتأسيس الأحياء والقرى المنبثقة عن البلدات الأم في منطقة وادي عارة.[3]
نبدأ رحلتنا من بئر المسقاة في "الحي المسقاة" الذي سُمي على اسمها، ولولا حضور التسمية على اللافتات، لكان من الصعب تمييز المكان بعد أن اختفت "المسقاة" خلف بضعة أشجار مُعمرة.
قديماً كان بئر المسقاة موقعاً بارزاً يأتيه الناس من قريب ومن بعيد، حيث يذكر الخياري في رحلته في القرن السابع عشر أنه مرّ على سبيل ماء على قارعة الطريق بين ضيعة "عارة" و"عرعرة"، وأغلب الظن أنه يقصد بها بئر المسقاة. كما يرجح الباحث محمد عقل في كتابه "المفصل في تاريخ وادي عارة".[4] يذكر الباحث كذلك أن ما يميز هذه العين، أنها تقع على حافة سرداب يؤدي إلى البرج (برج عارة) حيث كانت تقع مدينة عرونا الكنعانية. ويشير إلى أن هذه السراديب كانت تميز المدن الكنعانية القديمة التي كانت تحاط بأسوار عالية، ويكون الوصول إلى مصادر المياه في أيام الحصار والحروب عن طريق سراديب موصولة بهذه المصادر.
كانت مياه المسقاة غزيرة طيلة أيام السنة، وكانت تصب في حنّانة كبيرة (بركة تجميع المياه)، وحول العين تنتشر بساتين التين والرمان والمشمش واللوز والجوز، وكذلك الحواكير المزروعة بالخضروات. وفي وقت لاحق ومع انتشار زراعة التبغ (التنباك) تم الاستفادة من بير المسقاة في ري مزارع التبغ، كما تم استغلال المياه في تبريد ماتور "البابور" في المطحنة.
في ذاكرة الطفولة، نجد بئر المسقاة حاضراً في رواية "الهروب من سجن الرملة" لحمزة يونس، وهي من الروايات اللافتة في أدب السجون، إلا أن بدايات صاحب الرواية (وهي رواية حقيقيّة) كانت في اللهو والسباحة عند بئر المسقاة.
خريطة انتدابية من سنة 1942 لمحيط موقع "بير المسقاة" مع إبراز التضاريس من موقع: خرائط فلسطين المفتوحة [5]
بير المسقاة من الداخل - تصوير عمر عاصي
في جولتنا، وجدنا البركة قد سُقفت بالباطون، ولم يعد بالإمكان ملاحظتها إلا من خلال فتحة صغيرة، هذا غير أن الأشجار في محيطها قد نمت، وكبرت من حولها الأشواك، حتى صار البحث عنها كأنه البحث عن كنز دفين.[6]
[7]عين النزازة وأم الصمل.. كأنها لم تكن!
خريطة للمنطقة التي تقع فيها عين الصمل (عين أم الصمل) وعين النزازة وعين الزيتونة[8].
عيون كثيرة كانت حاضرة في حياة أهالي عارة وعرعرة اختفت تقريباً من الوجود وأصبح البحث عنه بحد ذاته مهمة صعبة، فعين النزازة التي استغلت سابقاً لسقاية "الطروش" (الماشية)، وكذلك للشرب، وتحديداً استفاد منها طلاب مدرسة السلام الابتدائية الذين شربوا منها رغم أن تدفق المياه فيها ضعيف نسبياً لبقيّة العيون في المنطقة، وهو ما تعكسه التسمية فالنبع النزاز، ينز الماء بمعنى يدفق ببطء وبكميات قليلة. ومع ذلك كان نفعها جليلاً، وقد جُعلت أرضها وقفاً، وبالتالي هي ملك لجميع القرية.
على الخرائط كانت عين النزازة حاضرة مثلها مثل عين أم الصمل الحاضرة أيضاً في الخرائط وتسميات الشوارع، بيد أن حالها لا يختلف كثيراً عن العيون والينابيع التي طُمست وسط المباني الخرسانيّة والشوارع الإسفلتية، علماً أن عين أم الصمل كانت عبارة عن نبعة قويّة تتجمع مياهها في حنّانة (بركة) كبيرة وكانت تسقي بستاناً واسعاً فيه الليمون والتين والرمان والتوت والسفرجل. وقد تهافت الصمل عليها حتى سُميت بهذا الاسم. لكنها اليوم مُندثرة، وقد سمعت خلال تجوالي هناك أنها تستغل لري بعض الأشجار الباقية في المنطقة، التي كان تُعرف تاريخيا بـ "كفر ضعيف".
من شوارع قرية عرعرة
عين الزيتونة والبُطمة العملاقة
بعد المرور على عين أم الصمل وعين النزازة، فإن الوصول إلى عين الزيتونة يبعث على التفاؤل نوعاً ما، فبركة العين ما زالت قائمة. ويقال أيضاً إن المياه تصلها من سرداب مسقوف يرتبط بالنبع. وبجوار هذه النبعة شجرة بطم قديمة من البُطم الفلسطيني. والبطم إلى جوار البلوط يُعتبر من الأشجار الفريدة التي تميّز الغابات المحيطة بوادي عارة والمعروف بـ "جبال الخطاف". ومع أن البطم أصبح مجهولاً بالنسبة للكثير من شبابنا إلا أن أبو أنس (مرشدنا) أخبرنا بأن أهل المنطقة يأكلون براعم البطم اليانعة فقط والتي يسمونها "نونيّة".
كانت العين ملكاً لرجل من أهالي عرعرة يستغل مياهها في ري الخضروات في بستانه اليانع الزاخر بأشجار الرمان والتين والجوز والليمون والبرتقال، وبالطبع الزيتون الذي سُميت العين على اسمه. ومن الأشجار الفريدة الموجودة في المكان، هي شجر الجميز، إذ كانت عصارة "الحليب" الناتجة عن حبّها تستخدم في علاج الأمراض الجلدية، مثل الحزاز. كما نجد معتقدات خاصة مرتبطة بالعين، مثل كونها "تسهل سيّ العدس"، كما يذكر الباحث محمد عقل.
خريطة هيئة استكشاف فلسطين 1870 ويظهر فيها عين ام الصمل Ain Umm es Summil ويبدو انها كانت أهم عيون عرعرة
مقطع من خريطة عرعرة وفقًا لمسح ميداني تم بين الأعوام 1929-1933 [9]
عين البلد
نكمل إلى عين البلد، وهي من العيون التي يعتقد الناس أن مياهها تأتي من قصر الفيض الواقع على أعلى قمة من قمم جبال أم الخطاف (جهة أم الفحم). ويعتقد كذلك بأنها عبارة عن أربع نبعات، ثلاث منها عذبة والرابعة تميل للملوحة، وهو ما يذكره د. محمد عقل في كتابه عن عرعر.ة ويسهب في الشرح عن هذه العين بأن مياهها كان تتجمع في بركتين يفصل بينها جدار عال: الغربية للرجال وتسمى "عين الزلام" وكانت للشرب وكذلك الاستحمام، والشرقية للنساء وتسمى "عين النسوان"، ومُنع الاستحمام فيها. كانت البرك مسقوفة، وبجانبها حوض منحوت من الصخر يُدعى "ران" تسقى منها المواشي والبهائم. من اللافت أن هذه العين كان فيها سرداب (نفق) يصل طوله 40-50 متراً يسير فيه الرجل قائماً.
صورة للصدع الجيولوجي الذي يربط بين العيون المختلفة في منطقة عرعرة وأم الفحم حسب خرائط جيولوجية من موقع govmap[10]
كان الطلب على مياه هذه العين كبيراً جداً، لدرجة أن المشاجرات كثرت بين النساء "الملايات"، اللواتي كُن يقضين الساعات الطوال في نقل الماء على رؤوسهن بواسطة الجرار والتنك في عهد الانتداب البريطاني. وقد تم تنظيم وتقنين الأمر بتعيين شخص مسؤول ومتفرغ لتوزيع المياه كان يُدفع له 10 قروش نظير كل جرة أو صفيحة (تنكة).
اليوم، ورغم أن البركتين والعيون اختفت تحت المنازل والشوارع، إلا أنه بالإمكان النظر في إحدى الحواكير القريبة لنرى المياه تتدفق بشكل خفيف في جدول صغير تنمو حولها بعض النباتات، كالنعناع البلدي وشيء من المقاثي. ولولا هذه الملامح القليلة لما كان من السهل عليّ أن أصدق ما وجدته في الكتب عن "الزخم" الذي حظيت به هذه العين في الأيام السالفة، ونحن لا نتحدث عن قبل ألف سنة، بل قبل 60 عاماً فقط!
مقام الشيخ خلف والملول
مبنى تراثي على الطراز المعماري الفلسطيني قرب عين البلد
[11]وادي الغسالات.. يتحول إلى مكب للنفايات - للأسف - تصوير عمر عاصي!
عين وادي القصب و"الأسهم"
ننتقل إلى محطتنا الأخيرة وهي حي وادي القصب حيث "عين وادي القصب"، والتي كانت تسمى "عين القَبو"، وذلك لجريان مياهها تحت قبو مسقوف. تعدُ هذه العين من العيون ذات المياه الغزيرة نسبياً، وتتدفق المياه فيها من نبعتين بالإضافة إلى العديد من النبعات الصغيرة المعروفة محلياً بتسمية "النزاز"، ويُقدّر عددها بسبع نزازات. ومن الجدير ذكره، أنه في محيط هذه العين توجد عيون أخرى، مثل عين البحر وعين الصالح.
كانت المياه الغزيرة المتدفقة من العيون تجتمع في بركة ليتم تخزينها لصالح الزراعة (وليست حنانة) كما يحدثنا أبو أنس. ويضيف بأنها كانت تعتبر مسبحاً للأولاد وقضاء موسم السباحة طيلة أيام الصيف، وكذلك كانت بركة المسقاة في عارة، وبئر الطيونة في وادي القصب.
في كتابه حول تاريخ عرعرة، يعرض الباحث محمد عقل وثيقة تكشف عن دقّة عملية توزيع مياه العين بين أصحاب البساتين في حوالي 24 قيراطاً، إذ أنها تتبع أكثر تتبع لعائلة ملحم بالإضافة لعائلات أخرى تملك حصصاً أصغر من عائلات يونس وكبها وعتيلي.
هذا التقسيم والنظام يعتبر مؤشراً هاماً على النشاط الزراعي الفريد الذي كان في المنطقة، وقد وثّق ذلك الباحث "فيلنائي" في مقالته "وادي عارة ومحيطها". يشير إلى أن الرابي يعقوب سبير هليفي -الذي زار المنطقة عام 1853 باحثاً عن الأترج لاستعماله في طقوس عيد العرش- أكد بأن وادي القصب كان بمثابة جنّة غناء لم يرَ أجمل من بساتينها ولم يذق أعذب من مائها.[12]
كانت عين وادي القصب تزرع بالتين والتفاح والسفرجل والتوت والعنب. ويضيف "أبو انس" بأن عين وادي القصب كانت محاطة ببساتين مترامية لزراعة الخضار، مثل الملوخية والبامية والخيار والبندورة وغيرها، ما جعلها سلة غذائية وفيرة لمنطقة وادي عارة حتى سنوات الخمسين.
اليوم بالكاد يُرى أثر لكل هذا باستثناء بعض أشجار الزيتون. بالرغم من ذلك، فإن هذه العين تعتبر من العيون التي ما زالت تحافظ على الكثير من حيويتها وإن كان مُحيطها قد تحوّل إلى الخرسانة الصمّاء ضمن محاولات قديمة للحفاظ على العين. وما زالت الحنانة (البركة) تحافظ على الكثير من جمالها، كما أنها ما زالت تستقطب الكبار من عشاق نبتة الحويرة التي تنمو قرب مصادر المياه وتكثر قرب العين. وإذا سرحنا قليلاً، يُمكننا أن نتخيل كيف لمثل هذه العين أن تتحول إلى جنّة لو زُرعت بأشجار الظل ونباتات الزينة، بدلًا من الخرسانة الصماء!
|
|
حنانة عين وادي القصب |
نموذج لتقسيم مياه العين بين أصحاب البساتين - من كتاب المفصل في تاريخ وادي عارة - محمد عقل
عين صالح الواقعة في الطريق بين وادي القصب وحي المعلقة في ام الفحم - تصوير عمر عاصي
بئر الطيونية وبجوارها أشجار الصفصاف
حديقة مدرجات زراعية بالقرب من مدرسة خور صقر
[1] دراسة Geography of settlements of Eron Valley region لجدعون جولاني - 1966 - الجزء الثالث / صفحة 35
[2] محمد محفوظ خليل يونس - عرعرة وعارة: جهاد وتاريخ لم يدونا من قبل - اصدار 1998 - صفحة 20-21
[3] دراسة Geography of settlements of Eron Valley region لجدعون جولاني - 1966 - الجزء الثالث / صفحة 36
[7] محمد عقل - المفصل في تاريخ وادي عاره: من بداية العهد الكنعاني الى نهاية العهد العثماني: الجذور والعائلات والمواقع - صفحة 471
[11] محمد عقل - المفصل في تاريخ وادي عاره: من بداية العهد الكنعاني الى نهاية العهد العثماني: الجذور والعائلات والمواقع - صفحة 463
[12] וילנאי, ז., & Vilnay, Z. (1959). The ʿIron Valley and its Vicinity / בקעת-עירון וסביבתה. Bulletin of the Israel Exploration Society / ידיעות החברה לחקירת ארץ-ישראל ועתיקותיה, כד(א), 42–53. http://www.jstor.org/stable/23730998