خاص بآفاق البيئة والتنمية
تعزف سوسن القدومي في "نورج البيت الفلسطيني" على وتر الذكريات والعاطفة، ليس فقط بتذّكر زائر المطعم رائحة أو طعم طبخة تراثية لأمه، وإنما أيضاً على صعيد المقتنيات كـ "طنجرة" ربما رآها عند جدته، أو فستان لها. كل من يأتي إلى المطعم يتذكر شيئًا ما، ربما منخل أو شال، أيًا كان سيُمسك بجزء من ذكرياته، فتجيش مشاعره، "أحيانًا يبكي الزبائن ونبكي معهم، ولا أحد يغادرنا دون أن تتأثر روحه". وترى سوسن أن الأمر محسوم لا نقاش فيه: "الطعام شيء طبيعي، وممنوع أن يلمسه آخر غير طبيعي... إبراز هويتنا وثقافتنا الفلسطينية واجب علينا، ما فعلته أني جملّتها، وهي جميلة أصلاً، ولكن استخرجت شيئاً بسيطًا من بهاء تراثنا وطعامنا، أتمنى أن يصل المطبخ الفلسطيني بحق إلى دول العالم قاطبة، تمامًا كالمطبخ السوري واللبناني".
|
 |
إحدى الوجبات الشهية في مطعم النورج التراثي |
لن تتناول طعامًا شهيًا فحسب في "نورج البيت الفلسطيني"، بل يمكنك أن تعيش تجربة متكاملة، الجزء الأصغر منها أن تأكل ما يخطر ببالك من أطباق منسية بعيدًا عما عودّتنا عليه المطاعم الأخرى.
ستَحار غالباً من أين تبدأ، ربما ستشتهي شوربة اللبن التي تطبخها صاحبة "النورج" سوسن القدومي بلبن الماعز، على وقع أغنيات فلسطينية وعربية شعبية، حيث تدّق اللحم مع الأرز في الجرن حتى يصبح المزيج ناعمًا.
وربما تختار الملوخية التي تأتي بها سوسن من سهول جنين مع الثوم الموسمي، وقد تغير تفضيلاتك، فتجرّب "معلاق خروف" تحشيه بالجوز والشطة الحارة والكزبرة، فيما الحشوة الأساسية الثوم.
ويمكنك أن تتحلّى بفطيرة التين الطازج المكونة من طحين القمح وزيت الزيتون والسمن البلدي، ومن يديها قد تتذوق الزبدة البلدية التي تحضّرها من اللبن الرايب عن طريق وضعه في فخارة ومن ثم خضّه.
وتبهجنا سوسن أكثر بطريقة تحضيرها لـ "مرّبى وردة الدار"، ومربى السفرجل الذي كان يستدعي في الماضي ما يُعرف بــ "العونة" أو الفزعة.
وقد تصادفك صواني القزحة "حبة البركة" التي تشتهر بها مناطق السهول، وفي حلويات هذا البيت المضياف قد تتذوق الخبيصة وتسمى أيضًا "سمرة وبيضة"، وتلك وصفة صحية وخالية من السكر.
ولا بأس في أن تنضم لسوسن وصويحباتها حين تحضّر الجبنة البلدية من حليب الماعز تحديدًا "الجبنة النابلسية" أو العكاوية.
أجواء مختلفة حقاً، في مطعمها الذي يعيدك اسمه إلى زمن "آلة دَرس القمح"، حيث يقع في بلدة بيرزيت بمدينة رام الله، هنا تفوح رائحة الحكايات من فرن الحطب، فيخرج لحم المنسف، ودجاج المسخّن، والباذنجان المشوي، والشكشوكة.
 |
 |
إحدى غرف بيت النورج |
الفطير المشلتت أو ما يسمى بالعجين العويص |
حب البيوت القديمة والطهي
قبل ما يزيد على ثلاثة أعوام، افتتحت القدومي هذا المطعم في بيت قديم، تحديدًا في أثناء جائحة كورونا، حين أخبرها أحدهم عن بيت أثري تجاوز عمر طابقه العلوي مائتي عام، فيما الغرف التي في الأسفل عمرها 1000 سنة، وإحداها 500 سنة.
تقول لـ "آفاق البيئة والتنمية": "وقعت في حب البيت بمجرد أن رأيته، وعلى الفور قررت تنفيذ المشروع وصيانته دون تردد. عموماً أنا أحب البيوت القديمة، وكذلك الطهي، وقد اجتمع الاثنان، كما أني لطالما تأثرَت بالمقاهي والمطاعم التي تمثل أطباق بلادها، لذا كانت ولادة المشروع نتاجًا شاملًا لاهتمامي على مر السنين بالطعام والأثواب التراثية والمقتنيات القديمة".
المرأة التي تتأنّق بثوب مطرز يحرّك الحنين، لم تكن تملك خبرة في عالم الأعمال أو أدنى فكرة عن عمل المطاعم، كانت موظفة و"ربة منزل" ماهرة، تستهويها ثقافات الشعوب وأكلاتها التقليدية، وعائلتها وأصدقاؤها يحبون طبخها.
البدايات كانت "حذرة جدًا" كما تصفها سوسن، إذ بدأت خطواتها بأقل تكلفة، تحديدًا بفرن الحطب، الذي يُخرج مخبوزات الصباح ساخنة، بعجنها طحين قمح مدينة جنين الطبيعي، وآنذاك جهزّت "حوش البيت" بديكور بسيط، وطاولات من صنع نجارين محليين، وانطلقت تستشير معارفها من الطهاة.
 |
 |
فطور النورج |
مسخن النورج |
في الفيديوهات العفوية التي تنشرها، تظهر محاولتها الحثيثة لتطوير المطعم خطوة خطوة، فهي لا تقلد أحدًا،
تحكي قائلة: "قبل سنوات كان أولادي صغاراً، ولم يكن هناك من فرصة لعمل "بزنس"، ثم حين أتيح الأمر برؤيتي لهذا البيت، لم يشجعني أحد على إقامة مطعم في بيرزيت، كونها بلدة تعتمد عادة على الطلاب، وليس هناك من رواد للمطاعم".
كانت الصعوبة الأهم في رحلتها، تتعلق بالقوى العاملة من الخبرات، كما أن بيرزيت تعد بعيدة ما يضطرها إلى توفير سكن للموظف فضلًا عن تدريبه، حسب قولها، مضيفة: "يمكن اعتبارنا "بزنس عائلي"، ووجود أسرتي الدائم غطّى على أي نقص للموظفين".
بمرور الوقت، صار بحوزتها طاقم مدرب من الشباب والفتيات على تحضير الأطباق، وأحيانًا تستعين بربات بيوت، موضحة السبب: "أحب المساهمة في إعالة الأسر من جهة، ومن جهة ثانية أرغب في ضمان الجودة العالية، لا سيما في منتجات الألبان والأجبان".
ولا تقتصر سوسن وفريقها على إعداد الأطباق الفلسطينية، بل هناك أولوية في المقام نفسه، أن تكون المكونات محلية طبيعية، إضافة إلى ميزة أخرى، وهي تقديم الطبق بالطريقة ذاتها التي تُقدم في البيت.
وبشأن نهجها الذي تتبّعه، تذكر: "لا أتفلسف في تكنيك الطبخ، وأعتمد على البساطة والطرق الصحية والأدوات القديمة، والأهم أني أؤمن بغنى مطبخ فلسطين بالمنتجات الزراعية والبرية، بفضل ما تتمتع به من بيئة متنوعة جغرافيًا ومناخيًا، وكان هذا يكفي لأن أبدأ".
وتبدو واثقة من وصولها لهدفها، بقولها: "النورج هو المطعم الفلسطيني الوحيد حقًا، إذ لا يُوجد لدينا مطعم بهوية فلسطينية خالصة، ومن المؤسف أن "البزنس" في بلادنا يفتقر إلى الهوية، نحن لسنا مطعم فقط، وإنما بيت متكامل تظهر فيه يوميات المرأة الفلسطينية بكل تفاصيلها".
لقد كان الدرس الأهم الذي تعلّمته وتود أن يعرفه الجميع: "ليس بالضرورة أن يكون لديك ثروة حتى تنشئ مشروعك، بوسعك أن تفعلها يإمكانيات بسيطة، يكفي أن تحب الشيء وتقدمه بإتقان" تقول سوسن.
ويبدو الفخر جليًا في صوتها: "يسعدني أن الخبراء يرون أن تجربتي جديرة بأن تُدّرس، فمن وجهة نظرهم أني بنيت هذا العمل بإمكانياتي وتدريجاً، ودون تكرار أو تقليد، وعملتُ بمكونات أصلية وبما يوقد عاطفة الناس".
وسر امتنانها لهذه التجربة، يعود إلى أنها أصبحت تعرف كيف تستثمر المال، وتدرك حاجة السوق، وترتب أولوياتها المادية، "بتُ اليوم أقدر وأجرأ على الاستثمار وخوض تجارب خلاقة أخرى"، تقول سوسن.
في حين، تطمح إلى افتتاح فروع، شرط أن يكون "البيت" قديمًا، حتى لو إلى جانب النورج، والعنوان العريض هو "الطعام الفلسطيني" لكن في ثوب جديد، هذا ما تؤكده.
 |
 |
الفلسطينيات بأثوابهن كأنهن العيد |
المقتنيات القديمة |
الأطباق المنسية بمكونات بلدية
نراها تعجن على وقع أغنية مصرية كأنها غُنيّت لها خِصيصًا "الحلوة دي قامت تعجن من الفجرية"، هي التي يليق بها تعليق من بين تعليقات كثيرة تتلّقاها من مختلف الدول، قالت صاحبته باللغة الدارجة "أنتِ ست المعدّلات".
وفي هذا السياق تعقّب تعقيبًا في قمة اللطف بخصوص العجن: "دائمًا أقول إن المرأة التي تعجن وتخبز "حلوة"، وما من امرأة أحلى منها، لذا، عندما تُنشر مقاطع لها علاقة بالخبز تحصد أعلى المشاهدات، لأن حياة الناس والحروب تدور حول الرغيف، مما يحفّز الخيال والحواس".
لم يأتِ النجاح الذي حققه نَورجها من فراغ، الأمر بدأ من طفولة سوسن، حيث نشأت في كنف الجدّ والجدّة،
وحرصت أشد الحرص على مراقبة جدتها في كل ما تفعله، التي تصفها على النحو التالي: "كان في جعبة "ستي" كثير من المغامرة والدهشة، هي مصنع كامل من التجفيف والتخزين، في وقت الفجر كانت تجفّف القمح، وتحضّر البرغل والجريش والعجين، ثم تأتي صديقاتها وجاراتها مع طلوع الصباح ليطبخوا ويفطروا معاً".
وتقول بابتسامة مفعمة بالحياة "تلك المشاهدات أحاول الآن أن أعيدها، لأطبّق كل ما عَرفته وعِشته".
وتشاركنا في بعض من ذكريات طفولتها بقولها: "كانت أمي تدلّلنا بطبخاتها بأعلى جودة ممكنة وبمعايير صحية، لست من عائلة أرستقراطية ولكن في ذلك الزمن كان الخير وافرًا في بلادنا، حتى لو اقتصر على لبنة وزعتر وزيت زيتون".
وتشدد على أن الطعام في الماضي لعب دوراً في ترابط العائلة واستقرارها، خاصة في وجود الأجداد الذين يعززون القيمة الثقافية والتوازن، من وجهة نظرها.
تعود قليلاً لزمن الجدة وتخبرنا: "كل الأكلات التي كانت تحضرّها "ستي" أنا الآن أعدّها، ولكن حتمًا ليس بنكهة أطباقها، كانت تطبخ عدس ورقاق صباحًا، والمفتول كانت تطهوه بمذاق عجيب، حقًا، كنت محظوظة بما وفرّته لي تلك الأجواء من استقرار نفسي وعاطفي وترابط عائلي، فلا أنسى لمّة الخالات والجدات من أجل طحن القهوة، كل منهم يأتي له دوره عبر المطحنة اليدوية التي تعمل باستمرار طيلة النهار، حتى الضيوف الذين يأتون إلينا لا يُستثنون من الدور، كان كل شيء طعمه غير، حتى القهوة ورائحتها، والخبز، وذلك بسبب جودة المكونات التي تختلف عن اليوم، حتى لو كان بلدية".
 |
 |
النورج يعيد زواره إلى الزمن الجميل |
النورج |
في هذا البيت الأثري ستتجاذب سوسن معك أطراف الحديث، وستشجعك على أن تهدي بيتك رائحة الطفولة بإعداد "بسكويت اليانسون"، وهو من أشهر الحلويات التي كانت تجيدها الفلسطينيات قديمًا من المتوفر من "مونة الدار"، وقد يكون خبز العيد الفلسطيني "الفتّوت النابلسي" خياراً رائعاً أيضًا، حيث يُعجن بزيت الزيتون والنكهات العطرية.
حتى في أبسط الأطباق "الحمص"، هنا يُعد دون أي إضافات أو مادة مبيّضة، ما يجعل مذاقه مختلفاً عن المحال المتخصصة، فيشعر المرء وكأنه "حمص أمه"، والكلام لها.
قهوة السيدة التي تَغليها على كانون أمها، تنادي القريب والبعيد، إذ يشهد المطعم إقبالاً من مختلف المستويات، وفقًا لحديثها "شخصيات عامة، وزراء، ورجال أعمال، وكذلك من عامة الناس لا سيما كبار السن ممن يحنّون لهذه الأجواء، نظراً لأن المطعم لا درج فيه"، حيث تحلو السهرات، وتطول اللائحة وتتجدد، فمن حواضر البيت الرمانية، و"العكوب" في موسمه، الذي يقطفه الفلاحون من الجبال ويصنع نكهته السمنُ الخليلي "المحوّج"، وكذلك البصارة، والسماقية "الطبق الغزاوي"، إضافة إلى أكلات على الكانون، وأطباق فاخرة.
بالمختصر، أخذت سوسن على عاتقها مهمة طهي الأطباق المنسية من مختلف المناطق في فلسطين، متشبّثة بالطريقة الأصلية الصحية في الطبخ، وبمكونات طبيعية عالية الجودة، فلا تضع الكثير من البهارات، وتعتمد في أدواتها على فخار مدينة الخليل، ولا تتنازل أبداً عن الخضار الطازجة، وتشرف على ذبح الخراف بنفسها، فضلاً عن توفيرها الألبان والأجبان غير المصنّعة.
وبطبيعة الحال، تسمع الإطراء كثيراً، لكن أكثر ما تأثرت به عندما أخبرتها إحدى الشخصيات الثقافية: "أنتِ تمثلين فلسطين كلها، في شكلك وطبخك وهويتك ومطعمك، أنتِ لا تشبهين أحداً".
 |
 |
تنورة ترتديها سوسن من خيوط الحرير عمرها أكثر من ثمانين سنة وما زالت تلمع |
خبز الطابون |
زوارٌ من الخارج
تعزف سوسن على وتر الذكريات والعاطفة، ليس فقط بتذّكر زائر المطعم رائحة أو طعم طبخة تراثية لأمه، وإنما أيضاً على صعيد المقتنيات كـ "طنجرة" ربما رآها عند جدته، أو فستان لها، مضيفة: "كل من يأتي إلى المطعم يتذكر شيئًا ما، ربما منخل أو شال، أيًا كان سيُمسك بجزء من ذكرياته، فتجيش مشاعره، أحيانًا يبكي الزبائن ونبكي معهم، ولا أحد يغادرنا دون أن تتأثر روحه".
وتعرب عن فرحتها بقدوم وافدين خصيّصًا لفلسطين، حتى يزوروا "النورج"، بل إن بعضًا منهم يقضي إجازته القصيرة كلها فيه، ومن هذا المنطلق، تنادي بضرورة إبراز المعالم السياحية التي تجذب الفلسطينيين من داخل أو خارج البلاد.
وممن داعبتهم الذاكرة هنا، كما تقول "طبيبة كانت تعيش في سوريا، أخذت تسير في النورج وتبكي، ثم حضنتني وقبلّتني"، تحكي بحماس.
ومن جهة أخرى، تعتز بزاوية مشرقة في قصتها، موضحة في هذا الصدد: "جعلنا الناس في دول عدة يشاهدون فلسطين للمرة الأولى بشكل يختلف عن المتداول في وسائل الإعلام، رأوا البيت الفلسطيني وسيدته، والمقتنيات التي تزداد قيمتها المعنوية والمادية بمرور الزمن، لقد بلغت قوة التفاعل أن عدد المشاهدات للفيديوهات التي ننشرها يفوق 8 مليون".
 |
 |
سوسن القدومي في ثوب مطرز |
سوسن بإطلالة تراثية |
الطعام التقليدي دون تعقيد
من وراء كل ما تفعله، تهدف سوسن القدومي إلى نشر ثقافة الطعام التقليدي دون تعقيد في المكونات، وبأبسط طرق الطهي حتى يعود الجيل الجديد لها، بما أن ثقافة الطبخ شارفت على الاندثار، تبعًا لحديثها، فمن وجهة نظرها أن المشاهير في مواقع التواصل الاجتماعي يسعون إلى تسويق المنتجات، ولذا نجد سلسلة من المقادير المرهقة، إذ تبسّط المسألة لنا: "طالما أن البصل وزيت الزيتون وأساسيات الطبخة متوفرة سأضمن "طبخة بتجنن"، أما البقية لا أهمية لها".
تحب سوسن كل الأكلات التقليدية سواء المقلوبة أم المفتول أم المنسف، إلا أن المسخّن له مكانة عندها، تخبرنا بشغف: "أصبحت أحبه أكثر من شدة حب الزبائن له، حتى أصبح الطبق رقم واحد في النورج، وبخاصة أنه من الأطباق غير المختلف عليها أنها فلسطينية، الجميع يشيد بأدائي في هذه الأكلة المكتملة العناصر، كوني أعدّها وفق الأصول، بدءاً من خبز القمح الآتي من سهول جنين، ومرورًا بزيت الزيتون والبصل والسماق، وانتهاءً بالدجاج".

خبز القمح الكامل من خلطة الجدات بدون اي محسنات على فرن الحطب
كل الوصفات الفلسطينية التي في منطقتها تتقنها كما يجب، ومع ذلك، تتجه إلى الاستعانة بنساء كبار في السن، تعود جذورهن إلى مناطق مختلفة في فلسطين، التي تتميز بمطبخ فسيح يمتد إلى الشمال والجنوب، والوسط والساحل والجبل، وهذا ضمن مساعيها لنشر وصفات فلسطين كافة.
هي التي تميل إلى تجفيف البندورة بتشميسها على طريقة اللداويات، نجدها تستعين بجارتها "اللدّاوية" في وصفات لا تعرفها، دون أن تتقيد بالمكونات التي تطهو بها، طالما أن البدائل تتوفر، كما كانت النساء قديمًا تفعل، والفول والعدس أقرب مثال لتبادل الأدوار، حسب قولها.
وقد يبدو غريباً، أن الثوب المطرز الذي ترتديه سوسن في أثناء الطبخ لا يضايقها البتّة عند تحضير الطعام، وما تلبث أن تزيل استغرابنا بقولها: "هذا الثوب صحي ومريح، أرتدي أثوابًا قديمة صُنعت من مكونات طبيعية من أقمشة "التوبيت" أو الكتان، وأركز على الثوب قبل النكبة أو حتى نكسة عام 67، أي قبل أن يتغير الثوب ويدخل في صناعة الأقمشة النايلون، ويصبح ثقيلًا".
وتواصل حديثها: "أثوابنا مريحة ودافئة شتاء كما أنها باردة صيفًا، كانت ترتديها الفلسطينيات في أثناء العمل باعتبارها لباسًا يوميًا مريحًا في الحركة".
سبق وأن قلنا، أخذت سوسن ما استطاعت من منجم تجارب جدتها في الحياة، كغيرها من نساء فلسطين، على صعيد الاهتمام بالأرض والبيدر والمواسم والأفراح، وكذلك توارثت عنها نصيحة بجمل "اشتروا مزروعات البلاد، لأنها مضمونة ونظيفة".
والتزاماً بمقولة جدتها، تجلب سوسن من جبال فلسطين وهضاب الجولان الكرز الحامض، والبرقوق "القراصية" و"الجرنك"، لتحضّر مخللًا "أشكال ألوان".
حتى الأفوكادو توصي أصحابها عند شرائه بضرورة معرفة مصدره: "بس تفتحوا الحبة وتكون عليها بقع سودة بتكون غير صالحة للأكل وبتنسقى مياه مش نظيفة انتبهوا"، مشيرة إلى أن قلقيلية هي البيئة الأنسب لهذه الثمرة الغنية، حيث تتوفر المياه العذبة.
 |
 |
ضيوف النورج ومنهم الإعلامية الراحلة شيرين أبو عاقلة |
هوانم بيرزيت |
تفاصيل لباسها
في محاولة للابتكار، حاولت سوسن القدومي عقد مصالحة بين المناطق التي تختلف على مكونات بعينها، وذلك تحديداً في طبق المنسف، وكانت النتيجة من أشهى ما يمكن، على حد قولها.
تشرح لنا: "أهل الشمال وأنا منهم "طولكرم ونابلس وجنين" عادة يطبخون المنسف بزيت الزيتون، وليس بالسمن لأنهم لا يحبون الأخير، وهم يحضرّونه بـ "اللبن الرايب" دون أن يقربوا الجميد بأي حال، بينما في الجنوب "الخليل"، يستخدمون الجميد والسمن البلدي، حتى أننا نقول "حبايبنا بشربوا السمنة مع الشاي"، وفي المقابل هم من المستحيل أن يتقبّلوا اللبن الرايب".
وتضيف: "عندما انتقلت الى رام الله، قررت أن أضيف إلى منسفنا الجميد والسمن البلدي، والأخير بالذات أصبحت أستخدمه كثيراً في الطبخ، وفي المحصلة صنعت هذا الخليط في المنسف، أي باللبن الرايب والجميد والسمن، وحظيت بمذاق رائع".
وأحلى ما في قصتها المتجددة، أنها تنثر علامات الاستفهام بشأن تفاصيل لباسها، ومنها الحزام الذي يلفّ خصرها، تأسيًا بالفلسطينيات، حين كن يضعنّه في أثناء العمل "من أجل أن يمسك الظهر، فيحافظ على قوام رشيق"، وفق توضيحها.
ومما يثير الاهتمام أيضًا، أنها ترتدي أساور الذهب على الدوام، بما في ذلك وقت العجن أو الطبخ، وعند الانتهاء من عملها تسارع إلى غسلها جيدًا.
"ألا تعيق حركتك؟" أسألها مجددًا فتسبق ابتسامتها الجواب: "إطلاقاً، لقد تعودّنا أن نرى أمهاتنا وجداتنا يرتدين "الصيغة" عند الطبخ والعجن".
إنها بشكل ما، تتعمد ترسيخ هذا المشهد من الذاكرة، لما له من دلالة للقوة الاقتصادية والمكانة الاجتماعية للمرأة الفلسطينية، كما تقول، مبرقة رسالة لكل امرأة: "لا تفرّطي بذهبك لأي سبب كان، بل عليك أن تدّخريه للزمن وتتباهي به في الوقت نفسه"، معربة عن أسفها لما تراه من التفريط بالذهب واستسهال بيعه عند نساء هذا الجيل.
 |
 |
طبق نص الدنيا القديم مثال على تمازج الثقافتين الفلسطينية واللبنانية |
فطيرة التفاح في النورج |
الأدوات التراثية "بحر واسع"
في صحن الفخار الخليلي، تضع سلطة تدرجها في "أطباق الصمود" وتتمثل في "دقة عين الجرادة"، بينما تستخدم المدّقة المصنوعة من خشب الزيتون، ما يدعونا إلى سؤالها عن أدوات الطبخ التراثية، تقول لــ "آفاق البيئة والتنمية": "تلك الأدوات "بحر واسع"، خشيت أن يضيع تراثنا المحكي، ورأيت أن توثيقه حاجة ملحة، يروي بعض الأصدقاء لي كيف كان يُبنى جرن اللحم مع البيت، وعن مطحنة الزيت، ومطحنة القمح، والجاروشة، آمل أن أنجح في توفير أكبر قدر منها، وها أنا أحاول تجميعها من بيوت ومحلات الأنتيك".
ومن أبرز الأدوات التي تستخدمها "جرن الكبة النيّة"، وعمره يفوق عمر الاحتلال الإسرائيلي، وتردف قائلة: "وُجد الجرن في بيوت صفد المهجرّة بكثرة بعد النكبة، وكان يدل على حياة الرغد والخير، أخبرني رجل من ترشيحا- قضاء عكا- أن كل يوم سبت صباحاً كان يُسمع دق اللحم من كل البيوت في البلدة".
 |
 |
مربى الورد في النورج |
مطعم النورج |
ولديها سبب وجيه يدعوها للتمسك بمثل هذه الأدوات، فحسب رأيها: "تختلف حتمًا عن الماكينات الكهربائية لأن الأخيرة تغيّر نسيج الطعام، وبالتالي طعمه، جراء تشوّه عناصر المكونات، ما يعني أنها تهدّد صحة الإنسان، فطحن اللحم بالماكنة لا شك أنه يختلف عن دقه في الجرن، وكذلك فرم المولوخية بأداتها التقليدية، وجرش القمح وعصر الزيتون بالحجر، حتى القهوة عند تحميصها وطحنها في المطحنة اليدوية، كانت تملأ الحارة رائحة زكية، وطعمها يغدو خرافيًا".
وترى أن الأمر محسوم لا نقاش فيه: "الطعام شيء طبيعي، وممنوع أن يلمسه آخر غير طبيعي".
وتختم حديثها: "إبراز هويتنا وثقافتنا الفلسطينية واجب علينا، ما فعلته أني جملّتها، وهي جميلة أصلاً، ولكن استخرجت شيئاً بسيطًا من بهاء تراثنا وطعامنا، أتمنى أن يصل المطبخ الفلسطيني بحق إلى دول العالم قاطبة، تمامًا كالمطبخ السوري واللبناني".
 |
 |
مع زيت الزيتون البكر |
معمول العيد |