أزمة المياه في الضفة الغربية.. رحلة يومية في تسلق الخزانات الفارغة
خاص بآفاق البيئة والتنمية
ما أن يبدأ فصل الصيف في الضفة الغربية، حتى لا تكاد تسمع إلا صدى صوت الطرق على الخزانات الفارغة، التي يتسابق المواطنون لتسلقها وتفقدها، آملين أن يروا المياه تقطر فيها، ليزيحوا عن أنفسهم عناء مواجهة خاسرة مع أشعة الشمس الحارقة دون قطرة ماء لعدة أيام.. ما يدفع للتساؤل عن سبب تجدد مشكلة المياه في كل صيف؟
|
|
محطة عين سامية قضاء رام الله |
ما إن يبدأ فصل الصيف في الضفة الغربية، حتى لا تكاد تسمع إلا صدى صوت الطرق على الخزانات الفارغة، التي يتسابق المواطنون لتسلقها وتفقدها، آملين أن يروا المياه تقطر فيها، ليزيحوا عن أنفسهم عناء مواجهة خاسرة مع أشعة الشمس دون قطرة ماء لعدة أيام، ما يدفع للتساؤل عن سبب تجدد مشكلة المياه كل صيف؟
تعتمد فلسطين بشكل أساسي على المياه المستخرجة من المصادر الجوفية والسطحية، والتي تبلغ نسبتها 76.4% من مجمل المياه المتاحة، وفق معطيات الجهاز المركزي للإحصاء.
ويبلغ عدد الآبار الفلسطينية حوالي 400 بئر جوفي، تتركز معظمها في محافظات قلقيلية وأريحا وطولكرم، وبعدد أقل في محافظاتي الخليل وبيت لحم.
وفي ظل السيطرة الإسرائيلية على أكثر من 85% من مصادر المياه الجوفية والسطحية في الضفة الغربية وتنكرها لحق الفلسطينيين في الاستفادة من مياه نهر الأردن والينابيع المشاطئة للبحر الميت كدولة مشاطئة، وعدم الاستفادة من مياه الأمطار والمقدرة بـ 17 مليون متر مكعب يوميا، أصبح اعتماد الفلسطينيين -إلى حد كبير- على المياه الجوفية.
توجد ثمانية أحواض للمياه الجوفية في فلسطين التاريخية، تقع أربعة منها في أراضي عام 48 (طبريا وغربي الجليل والكرمل وأحواض النقب)، أما الأربعة الأخرى فتقع كلياً أو جزئياً في الأراضي المحتلة عام 1967؛ في الضفة الغربية (الأحواض الشمالية – الشرقية والشرقية والغربية)، وفي قطاع غزة (الحوض الساحلي)، وفق ما أفاد به أمير داود، مدير عام التوثيق والنشر في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان.
وأوضح داود أن كمية المياه التي توفرها الأحواض الثمانية مجتمعة ما يقارب 2,989 مليون متر مكعب سنوياً، يأتي منها 1,454 مليون متر مكعب من المياه الجوفية، و1,320 مليون متر مكعب من مياه نهر الأردن السطحية، و215 مليون متر مكعب من مياه الأمطار، لكن الاحتلال يستغل من هذه المصادر 89.5%، مقابل 10.5% فقط يتشاركها مع الفلسطينيين.
واقع ينعكس على حصة المواطن الفلسطيني، إذ تقدر حصة كل فرد بـ (83 لتراً في اليوم)، وهي أقل من الحد الموصى به عالمياً (100 لتر للفرد يومياً). في المقابل يبلغ متوسط استهلاك الفرد الإسرائيلي أكثر من 100 لتر يومياً، وفقاً لأرقام سلطة المياه الإسرائيلية التي لا يوجد ما يدعمها علميا.
ومن الجدير ذكره، أن اتفاقية أوسلو لم تتحدث عن الحقوق المائية، ولكنها أقرت أن الفلسطينيين يستخدمون 118 مليون متر مكعب من أحواض المياه الثلاثة في الضفة الغربية من أصل ما يقارب 700 مليون متر مكعب (القدرة المتجددة لهذه الأحواض). وأقرت أيضاً أن الفلسطينيين بحاجة إلى 70-80 مليون متر مكعب إضافي من الحوض الشرقي أو أحواض أخرى يتفق عليها الطرفان حتى العام 1999.
ولغاية الآن، لم يصل الاستخدام الفلسطيني من الأحواض إلى أكثر من 132 مليون متر مكعب من الآبار، وفق المعطيات التي أفادت بها سلطة المياه الفلسطينية.
|
|
اعتداء المستوطنين على خطوط المياه في منطقة عين سامية |
تخريب المستوطنين لخطوط المياه في منطقة عين سامية قضاء رام الله |
ثروة مائية منهوبة مع نمو سكاني متزايد
نتيجة للسياسات الإسرائيلية، وبحسب ما أفادت به سلطة المياه الفلسطينية، فإن الحكومة الفلسطينية تضطر إلى شراء 85 مليون متر مكعب سنوياً من الاحتلال الإسرائيلي.
وتصل تكلفة المتر المكعب الواحد من الموارد الوطنية لحوالي 2.6 شيقل، بينما تتجاوز تكلفة متر المياه المشترى من إسرائيل 4 شيقل. وفق سلطة المياه، فإن الحكومة الفلسطينية تدعم أسعار المياه على مستوى الجملة بما يقارب 2 شيقل لكل متر مكعب من المياه التي يتم تزويدها لمقدمي الخدمات للفلسطينيين.
وأضافت سلطة المياه: "نظراً لعدم كفاية كميات المياه المتاحة من المصادر الطبيعية لتلبية كافة الاحتياجات المائية، خصوصاً في محافظات الخليل، وبيت لحم، ورام الله، فإننا نضطر للتوجه إلى شراء المياه من شركة المياه "ميكروت" الإسرائيلية.. ما يجعل هذه المحافظات الأكثر تأثرًا بتذبذبات كميات المياه المزودة، خاصة خلال أشهر الصيف".
وأوضحت أن التقليص الحالي في كميات المياه يركز بشكل أساسي على الوصلة الرئيسية للخط المزود لمحافظة الخليل، إذ بدأ هذا التقليص بشكل ملحوظ في نهاية شهر أيار/مايو الماضي وما زال مستمراً، ما أدى إلى تقليص تزويد المياه بنسبة 40% وأحياناً أكثر من ذلك".
أما في محافظة بيت لحم، هناك تذبذب في كميات المياه، وبشكل عام هناك تقليص في الكميات المزودة على عدد من الوصلات، إضافة إلى تأثرها بوصلة الخليل كون النظام المائي مرتبط مع بعضه، وهو ما يحدث في كل صيف.
وفي السياق ذاته، قال مدير مجلس تنظيم قطاع المياه، محمد سعيد الحميدي إن "ما يروج له البعض بقولهم إن تقليص نسبة المياه عن محافظات رام الله بنسبة 50% وبيت لحم والخليل بنسبة 35% هو لسد حاجة المستوطنين، أمر غير صحيح، لأن المستوطنين يحصلون على حاجتهم من المياه بشكل اعتيادي بما يكفيهم ويزيد، بغض النظر عن الكمية المتوفرة للفلسطينيين، وقرار التقليص هو سياسي بحت يهدف للتضييق وزيادة الضغط على الشعب الفلسطيني".
وأضاف، " نحن نحصل على 85 مليون متر مكعب من المياه في السنة، وسعر شراء الكوب من اسرائيل حوالي (3.60) شيكل. أي ما مجموعه حوالي 300 مليون شيكل في السنة.. هذه المياه تسرق من مياهنا وتباع لنا".
وتابع: "يضاف لهذا المبلغ مياه الصرف الصحي المعالجة وغير المعالجة، والتي تنساب بشكل طبيعي في الوديان وصولاً إلى الداخل، ومقابل هذا إسرائيل تخصم من أموال المقاصة 115 مليون شيكل مقابل ما يسمونه بدل معالجة".
سيطرة الاحتلال على الموارد المائية في فلسطين ليست وليدة اللحظة ولا يمكن ربطها فقط بأحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، إلا أنها أعطت غطاءً أكبر للمستوطنين غير الشرعيين في التمادي بجرائمهم. هذا ما تحدث به الباحث الفلسطيني أمير داوود، وأضاف: "منذ بدء الحرب تم تسجيل 63 اعتداء على الينابيع الفلسطينية من قبل المستوطنين، الجزء الأكبر منها تقع في شمال الضفة الغربية، تحديداً في مناطق الأغوار ونابلس، كلها تقع في الأراضي المصنفة (ج)".
وما حدث مؤخراً في تجمع مياه عين سامية القائم على أراضي بلدة كفر مالك شمال شرق رام الله دليل على ازدياد اعتداءات الاحتلال حتى في المناطق المصنفة (أ) و(ب)، إذ عملت قوات الاحتلال والمستوطنون على إخلاء الفلسطينيين من التجمع البدوي الغني بمياه الينابيع في المنطقة، التي يوجد فيها 6 آبار مياه تزود المحافظة بمياه الشرب منذ ستينيات القرن الماضي.
ولتضييق الخناق على الفلسطينيين أكثر، قال أمير داوود: "الجدار عزل 50 بئراً ارتوازية تشكل أكثر من 15% من الآبار الجوفية العاملة في فلسطين والمقدرة بحوالي 300 بئر لأغراض الشرب والزراعة"، مشيراً إلى أنه في حال اكتمال العمل في المقاطع المتبقية من الجدار يتوقع أن يتم عزل أكثر من 150 بئراً "كوسيلة ضغط لإجبار المواطنين على التعامل مع سياسة الأمر الواقع من خلال شراء المياه من شركة ميكروت الإسرائيلية".
كما أكدت سلطة المياه عدم قدرتها على تطوير المصادر المائية المتاحة والبنية التحتية في مناطق (ج)، والتي تمثل حوالي 61% من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 نتيجة السيطرة المطلقة للاحتلال الإسرائيلي عليها.
|
هجوم المستوطنون على خطوط المياه في منطقة عين سامية قضاء رام الله |
أسعار خيالية.. وتشتت وفوضى في الصلاحيات
تعالت أصوات المواطنين في الضفة الغربية المجبرين على شراء الماء لسد الاحتياجات اليومية في ظل انعدام أي خيارات أخرى، من الأسعار المرتفعة لصهاريج المياه المتنقلة.
وحول ذلك، قال محمد الحميدي، مدير مجلس تنظيم قطاع المياه في فلسطين إن "أسعار المياه التي يشتريها المواطنون تعمها الفوضى بكل معنى الكلمة، وتمثل استغلالاً لحاجة المواطن، إذ توجد الكثير من الصهاريج التي تقوم بتعبئة كوب الماء من مدينة روابي مثلاً أو من مصلحة المياه بـ 11 أو 12 شيقلاً فقط للمتر المكعب، ويتم بيعه لاحقا بـ 50 أو 100 شيكل، الأمر الذي يدل على عدم وجود رقابة على صهاريج الماء وانعدام ضمير بعض العاملين عليها".
وأشار إلى وجود "تشتت وتشابك في الصلاحيات"، يتمثل بخضوع الصهاريج لعدد كبير من السلطات، إذ ترخص من وزارة النقل والمواصلات، ومن البلدية، وسلطة المياه، وتراقب من وزارة الصحة، وهذا التشتت في المراقبة أدى إلى شيء من الفلتان".
وأضاف الحميدي: "نحن كمجلس تنظيم قطاع المياه في فلسطين لا يوجد لنا سلطة على أصحاب هذه الصهاريج للأسف"، مؤكداً على "وجود خلل في القانون، الذي أعطى القانون للمجلس صلاحيات تحديد أسعار المياه، لكن صهاريج المياه ليست من ضمن الصلاحيات الممنوحة لهم".
وتابع: "يفترض على سلطة المياه أن تضع سعراً ثابتاً وتمارس الرقابة على هذه التنكات".
"التشتت" بين المؤسسات المسؤولة عن واقع المياه في فلسطين، أدى إلى ضياع البوصلة في تحديد الجهة المسؤولة عن ضبط أسعار شراء المياه من القطاع الخاص، وهو ما يضعنا أمام تساؤل مشروع: إلى أين يلجأ المواطن لإنصافه؟
ما الحل؟
تقول سلطة المياه الفلسطينية إنها تقوم بالضغط على إسرائيل للالتزام بمعدلات التزويد الطبيعية من وصلات المياه المشتراة من شركة "ميكوروت"، وخصوصاً وصلة دير شعار الرئيسية في الخليل، والمتابعة اليومية مع مزودي الخدمات لحالة المياه وبرامج التوزيع.
وأضافت أنها تعمل على رفع وعي المواطن لآثار الحصار المائي الصعب الذي يفرضه الاحتلال، وضرورة ترشيد الاستهلاك، ووقف التعديات غير الشرعية. إلا أن الحل الجذري هو إنهاء الاحتلال واستعادة الحقوق المائية لتطوير مصادر المياه بما يحقق تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين وجميع القطاعات.