خاص بآفاق البيئة والتنمية
الواقع الغزي الكارثي إنسانيا، بيئيا وصحيا، يتطلب تغييرا جذريا في طريقة التفكير العلمي والفني والتنموي المستدام بيئيا وتنمويا واجتماعيا. ومن بين أمور أخرى، لا بد من بلورة مبادرات مجتمعية محلية خلاقة، تتضمن ابتكارا تنمويا-بيئيا مقاوما. حتى ما قبل الحرب الدموية الجارية حاليا في قطاع غزة، نجد أن الحصار والتجويع الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي ضد أهلنا هناك، منذ نحو سبعة عشر عامًا، لم يجعلهم يستكينون للمحتل، بل ازدادوا عنفوانًا وإصرارًا على تحدي الأخير وابتكار الإنجازات التقنية والعلمية لتلبية احتياجاتهم الحياتية. حاليا، لا يوجد لدى أي طرف تصورا واضحا عن المشهد البيئي-الصحي المستقبلي في قطاع غزة. تقديرات بعض الخبراء تقول بأن إعادة الإعمار والترميم قد تستغرق بين 7-10 سنوات بتكلفة نحو 4 مليار دولار أميركي، كما أن إزالة الأنقاض ستستغرق نحو عام. إعادة الإعمار والترميم البيئي الهائل لقطاع غزة، يتطلب استقرارًا نسبيًا ووقفا دائما للعدوان. فرص وقف العدوان تبدو ضئيلة حاليا، لكن، يجب استغلال كل فرصة من شأنها أن تسمح بتحسن الوضع الإنساني والبيئي.
|
|
قمة النفاق المناخي في دبي |
رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو كان من المفترض أن يحضر مؤتمر المناخ العالمي ("كوب 28" في دبي)، على رأس وفد إسرائيلي ضخم يضم ألف شخص (من قطاعات البيئة والمناخ والطاقة والمياه والزراعة والمواصلات والاتصالات والاقتصاد والأعمال وغيرها) وما لا يقل عن 11 وزيرا، ويلتقط الصور التذكارية مع زعماء دول الخليج بعباءاتهم البيضاء، وربما أيضا مصافحة ولي العهد السعودي خلسة.
لكن، بسبب حربه البشعة على قطاع غزة، ألغى نتنياهو حضوره قمة المناخ، وكذلك فعل جميع وزرائه. أما الوفد الإسرائيلي فحضر بصيغة مقلصة، في ظل حراسات أمنية مشددة. رئيس دولة الاحتلال اسحق هرتسوغ، مَثَّل دولته في قمة الزعماء، وعاد بسرعة إلى إسرائيل بعد ساعات قليلة.
كما قرر الرئيس الأميركي جو بايدن عدم حضور القمة. وفي الإعلام الأميركي نُسِب للعدوان على غزة المدعوم أميركيا بقوة، دور مركزي في هذا القرار.
الحرب الدموية في غزة لم تكن السحابة الوحيدة التي خيمت على مؤتمر المناخ. بل إن "الفيل" الأكبر الذي كان حاضرا في جميع غرف وقاعات المؤتمر هو البلد المضيف: دولة الإمارات العربية المتحدة. وهي دولة يستند اقتصادها إلى صناعة النفط والغاز. والمفارقة المثيرة للاشمئزاز أن رئيس المؤتمر، سلطان الجابر، هو أيضا رئيس مجلس إدارة شركة النفط الوطنية في البلاد، وفي الأيام الأولى للمؤتمر، كشف تحقيق أجرته BBC، أن الجابر يستغل اجتماعات المؤتمر لإبرام صفقات تجارية في مجال الوقود الأحفوري.
من ناحيتها، كشفت صحيفة الغارديان البريطانية (3/12/2023) عن تصريحات الجابر التي وصلت إلى حد الإنكار المناخي. فمن بين أمور أخرى، قال الأخير إن العلم لا يطالب بالتوقف الكامل عن استخدام الوقود الأحفوري، الأمر الذي قد "يعيد العالم إلى الكهوف". هذا التصريح يذكرنا بتصريحات سياسيين من اليمين الأميركي ممن ينكرون التغير المناخي.
بالنسبة لشركات النفط والغاز التي شارك ممثلوها وجماعات ضغطها بقوة في مؤتمر دبي، شكل المؤتمر، كما مؤتمرات المناخ السابقة، فرصة ذهبية لممارسة غسيل الدماغ الأخضر المألوف تاريخيا، من قبيل ترويجها للمصطلح الشائع في أفواه "بارونات" النفط والغاز: “decarbonization” ("إزالة الكربون"). فبعد عقود من محاولات الإنكار والتعتيم، أدركت شركات النفط أن الحقيقة العلمية حول الأزمة المناخية لم يعد بالإمكان إنكارها، لذلك طورت مفهوم ما يسمى بـ "إزالة الكربون". وهذا يعني أنه بدلاً من التخلص نهائيا من انبعاثات غازات الدفيئة (تصفير الانبعاثات)، من خلال وقف حرق الغاز والنفط والفحم، فيمكن تصفيرها باستخدام "تقنيات الانبعاثات السلبية". والمقصود تحديدا بهذا المصطلح هو تقنيات "شفط الكربون" من الغلاف الجوي.
إذن، منذ بداية انعقاد المؤتمر، كان واضحا أن فرصة تحقيق انفراجة في الاتفاقيات الدولية بشأن المناخ معدومة.
مؤتمرات المناخ السنوية (COP) التي بدأ انعقادها عام 1995، شكلت في كثير من الأحيان إخفاقات فادحة ومصدر إحباط لناشطي وعلماء المناخ؛ حيث هيمنت عليها المصالح الدولية المتناقضة وكانت هدفا لهجمات شركات النفط والدول النفطية وناكري التغيرات المناخية.
المذابح البشرية اليومية التي حولت قطاع غزة إلى مقبرة جماعية
كارثة إنسانية مرعبة
تجلت الحرب الإسرائيلية المدمرة ضد شعبنا في قطاع غزة بأبشع صورها في اقتراف نحو ألفي مجزة بشرية أبادت مئات العائلات، وذلك من خلال إلقاء الاحتلال على القطاع أكثر من 70 ألف طن متفجرات توازي بضع قنابل نووية. وحتى أوائل شهر كانون ثاني الماضي، بلغ إجمالي عدد الشهداء والجرحى والمفقودين أكثر من 90 ألف (نحو 4% من سكان القطاع)، غالبيتهم من الأطفال والنساء. كما أن أكثر من 82% من سكان القطاع أصبحوا نازحين (1,9 مليون من أصل 2.3 مليون)، حيث دُمِّر نحو 80% من منازل القطاع تدميرا كليا أو جزئيا (أكثر من 350 ألف وحدة سكنية من أصل 439 ألف).
يضاف إلى ذلك، استهداف المشافي والمراكز الصحية بالقصف والتدمير، وبالتالي إخراج معظمها عن الخدمة؛ فضلا عن تدمير معظم المدارس والجامعات والمساجد والكنائس (بشكل كلي أو جزئي)، ونحو 200 موقع أثري.
العواقب البيئية والصحية للحرب الدموية في قطاع غزة يصعب حصرها في هذه العجالة، علما أن العديد من المنظمات البيئية والخبراء حذروا من هذه العواقب حتى قبل الحرب. الكارثة الإنسانية التي خلفها العدوان مرعبة، وتتمثل في انعدام الكهرباء والمياه وانتشار المياه القذرة، وبالتالي انتشار التلوث وانعدام النظافة العامة والأوبئة والأمراض الجلدية وبخاصة الجرب والحكة والطفح الجلدي، إضافة لأمراض الإسهال والتهابات الجهاز التنفسي والتهاب السحايا لدى الأطفال تحديدا، والكوليرا والتهاب الكبد الوبائي.
حاليا، لا يوجد لدى أي طرف تصورا واضحا عن المشهد البيئي-الصحي المستقبلي في قطاع غزة. تقديرات بعض الخبراء تقول بأن إعادة الإعمار والترميم قد تستغرق بين 7-10 سنوات بتكلفة نحو 4 مليار دولار أميركي، كما أن إزالة الأنقاض ستستغرق نحو عام.
سيناريوهات ومخططات
مهما تعددت السيناريوهات، يجب أن يتضمن المشهد تغييرًا كبيرًا في صيانة وإدارة البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، وإلا فإن الأوبئة والأمراض ستتفاقم وتهدد أهالي قطاع غزة "المحشورين" في مساحة جغرافية صغيرة مزدحمة جدا بالسكان.
بالإضافة للقدرات والكفاءات الفلسطينية، فإن إعادة إعمار قطاع غزة تتطلب مشاركة كبيرة من أطراف عربية ودولية، علما أن إحدى المهام الرئيسية تتمثل في صيانة أنظمة معالجة مياه الصرف الصحي، بحيث لا تلوث المياه الجوفية.
المياه الجوفية في قطاع غزة توفر معظم مياه الشرب للسكان، إلا أنها أصبحت ملوثة بشكل متزايد خلال العقود الأخيرة. ووفق معايير منظمة الصحة العالمية، معظم مياه الخزان الجوفي غير صالحة للشرب. ولترميمها، من الضروري إجراء تخفيض كبير في ضخ المياه. وفي ذات الوقت، يجب الحد من التلوث فوق سطح الأرض، الذي يتسرب إلى طبقة المياه الجوفية.
القصف الإسرائيلي الشامل دمر معظم المساحات المدنية والمبنية في قطاع غزة- علي جاد الله
مشاريع التحلية وتكريس النهب الإسرائيلي للمياه
علاوة على ذلك، يعتقد العديد من الخبراء بضرورة إنشاء بنية تحتية لمرافق تحلية المياه بهدف توفير المياه بشكل أساسي للاحتياجات المنزلية، وبالتالي، حسب رأي أولئك الخبراء، سيتم تخفيف الضغط على طبقة المياه الجوفية؛ إذ سينخفض الضخ من تلك الطبقة وسيتسرب إليها قدر أقل من التلوث. عملية الترميم هذه ستكون طويلة، علما أن مدى فعاليتها ليس واضحا.
الغريب حقا، أن "المتحمسين" لمشاريع التحلية في غزة من ممولين ورسميين فلسطينيين، يتجاهلون تماما بأن إسرائيل، تاريخيا، تعد أكبر "المتحمسين" أصلا لحث الفلسطينيين على تحلية مياه بحر غزة، أو شراء المياه المحلاة من إسرائيل ذاتها. ويكمن وراء هذه "الحماسة" دافع سياسي-أمني-استراتيجي يتمثل في ضمان إسرائيل مواصلة نهبها المطلق للمياه الفلسطينية العذبة، وبالتالي مطالبة الفلسطينيين بسد عجزهم المائي الخطير الناجم عن السرقة الإسرائيلية المفتوحة للمياه، من خلال إنتاج أو استعمال المياه المحلاة؛ وبالتالي تكريس النهب الإسرائيلي للمياه العذبة.
في الحقيقة، لطالما شجعت إسرائيل مشاريع تحلية المياه في غزة، بحيث تصب في سياق المشاريع الإسرائيلية المائية الإستراتيجية الهادفة إلى تثبيت وشرعنة النهب الإسرائيلي الضخم للموارد المائية الفلسطينية.
منذ سنوات طويلة قبل العدوان الإسرائيلي الحالي، كان يمكن حل أزمة المياه في غزة، إلى حد بعيد، من خلال تطوير بنية تحتية مائية تربط غزة بسائر أنحاء فلسطين، أو على الأقل ربطها بالآبار الجوفية الغنية في الضفة الغربية، بحيث يتم تمديد خط مياه بين الضفة وغزة لتزويد الأخيرة بكميات كبيرة من المياه اللازمة لتغطية العجز المائي الخطير والمتزايد مع زيادة النمو السكاني. أو أن يخصص لقطاع غزة جزء من مئات ملايين الأمتار المكعبة من المياه العذبة التي تنهبها إسرائيل سنويا من حوض نهر الأردن وتحولها نحو منطقة النقب المحاذية تماما لغزة. فالمياه الغزيرة المنهوبة إسرائيليا تجري بكميات هائلة تحت أقدام الفلسطينيين!
هل إعادة إعمار قطاع غزة ممكنة؟
تحديات بيئية ضخمة
التحدي البيئي المهم الآخر يتعلق بالدمار الكبير الناتج عن الحرب الشاملة. ففي قطاع غزة تتراكم يوميًا كميات هائلة من نفايات ومخلفات المباني المهدمة التي تحوي مكونات سامة. هذه النفايات يجب إزالتها ونقلها إلى مواقع يمكن فيها إعادة تدوير جزء منها على الأقل. ومن بين أمور أخرى، ستساعد عملية التدوير على تجديد البنية التحتية للطرق التي دمرها العدوان. المقصود هنا مشروع واسع النطاق لمعالجة نفايات المباني. وبالطبع، مواجهة مثل هذا التحدي الضخم، سيحتاج إلى مساعدة شركات فلسطينية وعربية وعالمية ودعم من الدول العربية والأجنبية الصديقة.
إعادة الإعمار والترميم البيئي الهائل لقطاع غزة، يتطلب استقرارًا نسبيًا ووقفا دائما للعدوان الإسرائيلي. فرص وقف العدوان تبدو ضئيلة حاليا، لكن، يجب استغلال كل فرصة من شأنها أن تسمح بتحسن الوضع الإنساني والبيئي.
فعلى سبيل المثال، إثر التدمير الإسرائيلي لمنشآت الطاقة الشمسية في القطاع، لا بد من التركيز والاستثمار المكثف في قطاع الطاقات المتجددة، فضلا عن الاستخدام الفعال للمياه العادمة المعالجة.
وفي سياق الحديث عن الطاقات المتجددة، نشير إلى أن حصة الطاقة المتجددة في إنتاج الكهرباء الإسرائيلية صغيرة جدًا، إذ لم تتجاوز 2% من إجمالي إنتاج الكهرباء (عام 2022). وذلك، رغم الموقف الحكومي الإسرائيلي الرسمي، بأن إسرائيل ستنتج 10٪ من طاقتها من المصادر المتجددة بحلول عام 2020.
ومع المشهد البائس في مجال الطاقات المتجددة في إسرائيل، تتبجح الأخيرة بكونها رائدة في مجال الطاقات النظيفة، بينما هي في الواقع، واحدة من بين مجموعة صغيرة من الدول (25 دولة فقط) ليس لديها خطة معتمدة للتعامل مع الأزمة المناخية، كما لا يوجد لديها قانون مناخ، ولم تعلن رسميًا عن حالة طوارئ مناخية، إضافة إلى أنه ليس لديها ضريبة كربون معتمدة.
في مقابل النفاق المناخي الإسرائيلي، وحتى ما قبل الحرب الدموية الجارية حاليا في قطاع غزة، نجد أن الحصار والتجويع الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي ضد أهلنا في قطاع غزة، منذ نحو سبعة عشر عامًا، لم يجعلهم يستكينون للمحتل، بل ازدادوا عنفوانًا وإصرارًا على تحدي الأخير وابتكار الإنجازات التقنية والعلمية لتلبية احتياجاتهم الحياتية، بما في ذلك الطاقة الكهربائية؛ فقد شرعوا منذ سنوات طويلة، في توسيع البنية التحتية للطاقات المتجددة، وتحديدًا بالاستفادة من الطاقة الشمسية باستخدام الألواح الشمسية التي تعمل بطريقة الخلايا الكهروضوئية. إذ أصبح مشهدًا مألوفًا رؤية تلك الألواح في المباني العامة والسكنية والمستخدمة على نطاق واسع في مختلف أنحاء القطاع.
كلنا يعلم بأن قطاع غزة، قبل الحرب البشعة، وبسبب الحصار الوحشي الطويل، كان يعاني أصلا من نقص حاد جدًا في الكهرباء؛ لا سيما أن النظام الكهربائي الرسمي كان يعمل بجدول 8 ساعات وصل تقابلها 8 ساعات فصل.
المعطيات التي بحوزتنا تشير إلى أن سكان القطاع تعلّموا كيفية التعامل مع شح الكهرباء بمساعدة الطاقة الشمسية.
قبل نحو اثنتي عشرة سنة، كان نطاق استخدام مصدر الطاقة هذا ضئيلًا، أما في السنوات الأخيرة (قبل الحرب البشعة)، فإن ربع قدرة توليد الكهرباء هناك مصدره الألواح الشمسية؛ أي أن حصة الطاقة المتجددة من إجمالي الطاقة الكهربائية المستهلكة بقطاع غزة، تفوقت على ما هو قائم في إسرائيل ذاتها، رغم قدرات الأخيرة التكنولوجية والعلمية الهائلة التي لا تُقارن بالقطاع ذي المساحة الهامشية من إجمالي مساحة فلسطين التاريخية.
انتشار المنشآت والتصاميم الشمسية واسع ولا يشمل المدن الغزية فحسب، بل أيضًا مخيمات اللاجئين، علما أن حوالي 96٪ من الخلايا الشمسية نُصبت على أسطح المباني الزراعية أو المساكن. وبالطبع، العدوان الإسرائيلي دمر معظم هذه المنشآت.
الواقع الغزي الكارثي إنسانيا، بيئيا وصحيا، يتطلب تغييرا جذريا في طريقة التفكير العلمي والفني والتنموي المستدام بيئيا وتنمويا واجتماعيا. ومن بين أمور أخرى، لا بد من بلورة مبادرات مجتمعية محلية خلاقة، تتضمن ابتكارا تنمويا-بيئيا مقاوما.