خاص بآفاق البيئة والتنمية
نظرا للازدحام الشديد ومحدودية الوصول إلى المأوى والغذاء والماء، وبسبب النقص في المياه الصالحة للاستهلاك الآدمي واستهلاك المياه من مصادر غير آمنة، تثار مخاوف جدية بشأن الجفاف وانتشار الأوبئة والأمراض المنقولة بالمياه، وأمراض تنفسية حادة، وحالات طفح جلدي، وتفشي الجرب، وانتشار حالات الإسهال بين الأطفال دون سن الخامسة وسط نقص الرعاية الطبية وتدهور الظروف المعيشية في قطاع غزة. رغم كل ويلات ومآسي الحرب، كان وجود الطاقة الشمسية عند قلة من الغزيين، يخفف من معاناة الحياة اليومية الخاصة بالإنارة وتوفير المياه، ولم ينعكس هذا على تسهيل هذه المهمات اليومية فقط، بل على الصحة النفسية والقدرة على الصمود. وإجمالا، فإن أهالي قطاع غزة عامة وشمال غزة خاصة، يتعرضون لمجاعة حقيقية، وبالكاد يتناولون وجبة واحدة يومياً، أحياناً تكون طبق أرز أو نشويات، بسبب عدم توفر الخبز والطعام بشكل دائم، وأغلب الناس مصابون بالهزال، حيث خسروا أوزانهم في وقت قصير، كما أن الطعام الذي يتناوله الأطفال خال من المغذيات التي يحتاجونها، وحليب الأطفال الرضع أيضا غير متوفر.
|
|
جانب من دمار أحد احياء مدينة غزة جراء القصف الإسرائيلي |
تستمر الحرب الإسرائيلية المدمرة وتستمر المأساة في قطاع غزّة، ويزداد حجم الكارثة الإنسانية جراء القصف الإسرائيلي العنيف والمستمر ومنع إدخال المساعدات الإغاثية. يترافق ذلك مع الارتفاع غير المسبوق في خسائر الأرواح والدمار في البنية التحتية، بموازاة تدهور الوضع الإنساني والاقتصادي والبيئي للسكان. أسفر العدوان عن استشهاد حوالي 30 ألفاً منهم 7000 سيدة، بينما بلغ عدد الإصابات 70 الفاً معظمهم من المدنيين والعدد في ازدياد، وفق مصادر فلسطينية رسمية.
وقدرت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، عدد النازحين داخلياً في القطاع بنحو 1.9 مليون شخص، أي قرابة 85% من السكان. وحسب إحصائية نشرها الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن حوالي 65 ألف وحدة سكنية دُمرت، أو لم تعد صالحة للسكن، كما تضرر أكثر من 290 ألف وحدة سكنية جزئياً، ونحو 25010 بناية تم تسويتها بالأرض، فضلاً عن تدمير 145 مسجداً و3 كنائس، ما يعني أن نحو نصف مليون شخص لم يعد لديهم منزل يأوون إليه، إذ لجأ بعض النازحين إلى مرافق "أونروا" وأغلبها مدارس، فيما لجأ البعض الآخر إلى عائلات مضيفة أو النوم في العراء، بالإضافة إلى أضرار جسيمة لحقت بمنشآت المياه والصرف الصحي والتعليم، والمساجد والكنائس.
|
|
آثار الدمار الذي سببته الغارات الإسرائيلية على مدينة غزة |
طوابير المواطنين في غزة أمام أحد المخابز في بداية العدوان |
ونظرا للازدحام الشديد ومحدودية الوصول إلى المأوى والغذاء والماء، وبسبب النقص في المياه الصالحة للاستهلاك الآدمي واستهلاك المياه من مصادر غير آمنة، تثار مخاوف جدية بشأن الجفاف وانتشار الأوبئة والأمراض المنقولة بالمياه، وأمراض تنفسية حادة، وحالات طفح جلدي، وتفشي الجرب، وانتشار حالات الإسهال بين الأطفال دون سن الخامسة، وسط نقص الرعاية الطبية وتدهور الظروف المعيشية في القطاع.
منذ اللحظة الأولى التي تواجدنا فيها في منزل العائلة بعد خمسة وسبعين يوماً من الحرب، وأشعلنا الضوء لأول مرة منذ فترة طويلة، شعرنا بآدميتنا مجددًا، ونظرت والدتي للغسالة وقالت: أخيراً سنعود لاستخدامك، فقلت لهم: الطاقة الشمسية سوف تسهل حياتنا.
المهندسة البيئية رنيم مدوخ
|
الدمار الذي لحق ببيت المهندسة رنيم مدوخ في حي الرمال الشمالي شارع النصر في غزة
الماء أعز مفقود وأهون موجود
الماء حيوي للإنسان، وله أهمية كبيرة للصحة واستمرارية البقاء والصمود في ظل ظروف قاسية. لذا، لا بد من توفير مياه نظيفة وآمنة لضمان الحفاظ على صحة الإنسان واستدامة البيئة، فكيف إذا كانت هذه المياه غير متوفرة، أو بكميات شحيحة أو ملوثة، وفي ظل قصف يومي للبيوت والمنشآت والآبار وحتى محطات التحلية.
وحسب تقرير صادر عن "أونروا" أواخر شباط/فبراير الماضي، فإن "سرعة تدهور الوضع في غزة غير مسبوقة، وما يقارب 3 من كل 4 أشخاص في غزة يشربون مياهاً ملوثاً، والأمراض المعدية آخذة في الارتفاع".
منذ الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، نزح قسريا نحو 200 ألف شخص من الشمال الى الجنوب. كانت من بينهم المهندسة البيئية رنيم مدوخ من سكان مدينة غزة التي نزحت مع عائلتها أربع مرات. تقول لـ "أفاق" إن معاناة الحصول على المياه مرت بثلاث مراحل، تمثلت الأولى بالحصول عليها من آبار البلدية التي تضخ بواسطة مولدات السولار، بواقع مرة كل ثلاثة أيام، وتضيف: "كنا نرفع المياه بواسطة مولد كهربائي تم وصله على جرة غاز الطبخ، وتراوحت حصة الفرد اليومية من 20 - 25 لتراً".
في المرحلة الثانية، انقطعت مياه البلدية تماماً بسبب نفاد السولار، وتم اللجوء إلى سيارات بيع المياه كلما سنحت الفرصة، بواقع مرة كل عشرة أيام، وكان سعر كل 4 آلاف لتر 150 شيكلاً، وتراجعت حصة الفرد اليومية إلى 11 لتراً، توضح مدوخ.
أما المرحلة الثالثة، فكان التزود بالمياه يتم عبر جالونات عن طريق الوقوف في طابور طويل يستمر 5 ساعات يومياً أمام محطة تحلية أو مضخة آبار مياه مالحة تعمل على الطاقة الشمسية. تصف مدوخ: "كانت المياه مليئة بالشوائب والأتربة، وفي أيام كثيرة كان لا يصل دورنا في الطابور، ونبقى بدون مياه لثلاثة أيام متتالية، وتراجعت حصة الفرد اليومية تقريباً إلى 7 لتر في حال توفرها".
هذه المرحلة كانت الأصعب بتعبير مدوخ، إذ تراجعت حصة الفرد إلى لتر واحد يومياً: "في هذه الأيام كنا نذهب بعيداً في ظل أخطار عالية نحو محطة تحلية تعمل على الطاقة الشمسية، ليتم تعبئة جالون 16 لتراً بتكلفة 3 شيكل".
|
|
ما تبقى من منتزه البلدية الوحيد للأطفال في حي السامر بمدينة غزة |
الدمار في شارع عمر المختار- حي الرمال بمدينة غزة |
الطاقة الشمسية ولكن..
لا يمكن إهمال أهمية وجود الطاقة في حياة الإنسان، خصوصا الكهرباء، نظراً لتأثيرها الكبير على مختلف جوانب الحياة اليومية، فكيف تكون الحياة لو كانت هذه الطاقة ضئيلة وغير متوفرة، بل معدومة في بعض مراحل العدوان على قطاع غزة
كانت المولدات الخارجية التي تعمل أربع ساعات يومياً المصدر الوحيد للتيار، قبل أن تتوقف محطة الكهرباء عن العمل نهائياً، نتيجة نفاد الوقود أو تدمير الكوابل جراء القصف المتواصل، إذ غرقت مدينة غزة في ظلام دامس، وكان مصدر الإنارة الوحيد هو "ليدات" على بطارية يتم شحنها عبر الطاقة الشمسية بقدرة نصف كيلو واط فقط، لكن "مع قصف وتدمير المنزل خسرنا حتى هذه الفرصة"، وفق مدوخ.
وتضيف: "أثناء النزوح نحو خانيونس لم يكن هناك أي مصدر طاقة بديل، ومكثنا في منطقة شعبية، كان يتم تشغيل المولد فيها بواسطة غاز الطهو، وذلك من أجل شحن البطاريات وأجهزة الهاتف فقط، وهذا لم يستمر طويلاً بسبب نفاد الغاز، وبقينا لعدة أيام ننام ونصحو على ضوء الشمس".
تتابع مدوخ حديثها "عاودنا أدراجنا لشقة والدي في عمارة سكنية بغزة في اليوم الـ 75 للحرب، وكانت لدينا طاقة مستقلة للمنزل بقدرة 3 كيلو واط، وأشعلنا الضوء لأول مرة منذ فترة طويلة (..) منذ اللحظة الأولى التي تواجدنا فيها منزل الوالد، شعرنا بآدميتنا مجدداً، ونظرت والدتي للغسالة وقالت: أخيرا سنعود لاستخدامك، فقلت لهم: الطاقة الشمسية سوف تسهل حياتنا".
وفي حديثها لـ "آفاق"، تقول مدوخ "كانت هناك طاقة شمسية (10 كيلو واط) لتشغيل مصعد البناية التي لم تتضرر، وكان يتم استغلالها لتشغيل مضخة لرفع المياه لعدد كبير من أصحاب الشقق والسكان المجاورين والنازحين في الشارع المقابل، وأيضا يتم تمديد إنارة لأولئك الذين لا يملكون مصدراً بديلاً، وكان تكافلاً اجتماعياً بامتياز".
وتختم مدوخ حديثها بالقول: "رغم كل ويلات ومآسي الحرب، فإن الطاقة الشمسية تخفف من معاناة الحياة اليومية الخاصة بالإنارة وتوفير المياه، ولم ينعكس هذا على تسهيل هذه المهمات اليومية فقط، بل على الصحة النفسية والقدرة على الصمود، فشخصيا كنت أشعر بوجودي تحت التعذيب طوال الفترة التي اضطررنا فيها للحياة بدون ماء وكهرباء، بينما أشعر اليوم بعد عودتي إلى بيت والدي في غزة بقدرة أكبر على الصمود والتماسك، وكأن الطاقة الشمسية أمدت نوراً لحياتنا كلها للبقاء على قيد الحياة".
|
|
غلي المياه الملوثة بالأتربة عبر اشعال الأخشاب وجذور الأشجار |
بعض وسائل التكيف البدائية في تجهيز الخبز للأطفال |
أزمة الطعام
وتفيد التقارير الواردة من القطاع، أن السكان في مدينة غزة والشمال على شفا مجاعة، بسبب منع قوات الاحتلال البعثات الإنسانية من إيصال المساعدات إلى شمال قطاع غزة، الذي يضم قرابة 800 ألف إنسان.
في ظل هذا الوضع، أصبح توفر الطعام المعضلة الأكبر منذ اليوم الأول من الحرب، بسبب عزل الشمال عن الجنوب ومنع إدخال المساعدات وارتفاع الأسعار بشكل مُبالغ فيه، الأمر الذي دفع المواطنين الى تغيير عاداتهم الغذائية والتأقلم مع الواقع الجديد.
وكان برنامج الغذاء العالمي قد حذر في شهر كانون الأول/ديسمبر من أن "26 بالمئة من سكان غزة (577 ألف شخص) استهلكوا إمداداتهم الغذائية، وفقدوا وقدرتهم على التكيف مع الوضع ويواجهون خطر المجاعة".
وحسب المعلومات المتوفرة، فإن الطعام المتوفر في بدايات العدوان اقتصر على الأساسيات، مع شح شديد لبعض الأصناف، مثل البندورة والخيار والباذنجان والحمضيات، فيما انعدم لاحقاً توفر أي نوع من الخضروات أو الفواكه، خاصة مع نزوح غالبية التجار إلى الجنوب، وإغلاق أكبر المحال التجارية. ومع اقتحام الأراضي الزراعية، بدأ السكان بتناول النشويات والبقوليات وبعض المعلبات كطعام وحيد.
وفي ظل أزمة الدقيق، لجأ النازحون إلى البرغل والسميد لصنع الخبز كلما توفر، وتعدى ذلك إلى استخدام دقيق الذرة لصنع الخبز. تقول مدوخ: "لجأ النازحون بسبب الاكتظاظ إلى الطهو في الشارع، باستخدام الحطب أو أفران الطين أو الفحم (..) تكيف السكان بصورة سريعة حيث حولوا طنجرة الخبز الكهربائية لتعمل على الفحم، وهو الشائع حالياً في أغلب مناطق القطاع".
|
|
آثارالقصف الإسرائيلي الذي طال شقة المهندسة رنيم مدوخ |
فرن بدائي من الطين استخدمه الغزيون لتحضير الخبز والطعام |
تجار الحرب
تقارير حديثة وردت من قطاع غزة تشير إلى استغلال بعض الأفراد للوضع الأمني، عبر سرقة المساعدات، وإعادة بيعها بأسعار مرتفعة، بالإضافة إلى فرض رسوم على التجار العاملين في السوق. وتفاقمت أزمة غلاء السلع والخدمات، مع استمرار إغلاق المعابر، والقصف المتواصل، ومنع إمدادات المواد الغذائية والوقود والماء.
توضح المهندسة مدوخ أن "شراء الخضروات أمر صعب بالنسبة لنا، إذ وصل سعر كيلو البطاطا إلى 35 شيكلاً، بينما وصل سعر ثلاث حبات من البصل 17 شيكلاً، وكرتونة البيض 100 شيكل، والبندورة 20 شيكلاً للكيلو، كما وصل سعر كيلو اللحمة إلى 300 شيكل، أما الطحين فقد ارتفع سعر الكيلو إلى 100 شيكل، مع العلم أن بعض هذه الأصناف قد اختفت تماماً".
وحسب تقرير صادر عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة "فاو"، فإن مساحة الأراضي الزراعية المتضررة منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وحتى نهاية 2023، بلغت 31.4% للأراضي المروية، و27% للبساتين، و24.5% للأراضي البعلية.
تشرح المهندسة رنيم مدوخ التي نزحت من غزة الى خانيونس ومن ثم عادت إلى غزة مع عائلتها المؤلفة من أربعة أشخاص منهم طفلان (8 و9 سنوات) إضافة الى نازحين آخرين لجأوا إليهم بعد قصف منازلهم، أنهم يتناولون "علبتي فول أثناء الإفطار أو العشاء، بينما تكفي علبة الفول الواحدة لإطعام ثلاثة أشخاص فقط".
وتوضح أنها "تأكل مع أبنائها في بعض الأحيان الخبز مع حساء العدس مع بعض الزعتر أو الجبنة أو المعلبات التي يكون سعرها مرتفعاً للغاية في حال توفر".
|
|
شقق سكنية مدمرة جراء القصف الإسرائيلي على مدينة غزة |
عمل الطواقم الفنية في شركة كهرباء غزة لإصلاح أضرار الشبكة الكهربائية |
الجوع كافر
تتفاوت قدرة السكان على توفير الطعام حسب حالتهم المادية. ووفق وصف مدوخ فإن "أوضاع الناس الفقيرة قبل بدء الحرب وخاصة العمال الذين لم يتلقوا رواتبهم منذ بدء الحرب يرثى لها، ويعيشون على الفتات حرفيا، حتى أولئك الذين لديهم دخل أصبحوا يحتاجون أضعاف دخلهم لتوفير أقل القليل بسبب الغلاء الفاحش وندرة الطعام، عدا عن عدم توفر السيولة النقدية بين أيدي السكان، والمال لا معنى له في ظل عدم توفر الماء والدواء والوقود ونفاد المواد الغذائية".
وحسب تقرير صدر عن الهلال الأحمر الفلسطيني في غزة فإن "نحو 400 ألف شخص مهددون بالموت جوعاً في شمالي القطاع".
تقول مدوخ: "نحن أهالي الشمال نتعرض لمجاعة حقيقية، وبالكاد نتناول وجبة واحدة يومياً، أحياناً تكون طبق أرز أو نشويات وكذلك يفعل غالبية المواطنين بسبب عدم توفر الخبز والطعام بشكل دائم، وأغلب الناس غلب عليهم الهزال وخسروا أوزانهم في وقت قصير، كما أن الطعام الذي يتناوله الأطفال خال من المغذيات التي يحتاجونها، وحليب الأطفال الرضع أيضاً غير متوفر، لذا تضطر الأمهات الى تخفيف تركيز الحليب، وإضافة الماء اليه لزيادة الكمية، حتى أننا قمنا بنقع مخلل الخيار والجزر طوال الليل لتخفيف الملوحة وسد رمق الأطفال كنوع من الخضروات (..) ماذا نفعل؟ نحن في مجاعة حقيقية والجوع كافر لا يرحم".