خاص بآفاق البيئة والتنمية
يعتقد الفلاح المصري البسيط في كثير من الأحيان، بل يردد أن ما يقوم به من ممارسات كيميائية ما هو إلا امتداد لتقاليد ورثها عن الآباء والأجداد، وفي واقع الأمر ليس لما يمارسه علاقة بالتقاليد باستثناء العلاقة بالجاموسة والري بالغمر، أما بقية الممارسات فهي دخيلة عليه وأُسقطت على الزراعة وتبنّاها الفلاح، وراح يمارسها معتقداً أن هذا هو الطريق الوحيد، الذي يمكن السير عليه والمضي به في الإنتاج الزراعي. وحين تصدم الفلاح بأن هذه الزراعة ليست امتداداً للموروث القديم، وتسميم الأرض ليس تقليداً ورثوه عن الآباء والأجداد، بل هو بذلك خالف ما كان عليه أجداده، الذين استخدموا البذور البلدية المحلية من إنتاجهم، ولم يعرفوا الأسمدة والمبيدات الكيميائية، وكان التنويع آنذاك في المحاصيل أكبر وأوسع، ولم يكن تملّح الأرض يسير بتسارع كما هو الحال عليه اليوم، حينها يدرك الفلاح أن ما يقوم به الآن ليس امتداداً لإرث الأجداد، بل هو تنفيذٌ لوصفات "شركات السموم" وشركات إنتاج واحتكار البذور.
|
 |
جانب من حياة الفلاحين المصريين |
يجلسون على الأرض تحت شجرة، متحلّقين فوق حصيرة حول نار الموقد الصغير، وإبريق الشاي "الصعيدي" يُحضّر على نار الحطب، ثم يُسكب بلونه "الخروبي" الداكن المائل للسواد، شديد الحلاوة كالعسل، حتى يذوب طعم الشاي مع حبيبات السكر.
أفراد عائلة يتوسطهم كبيرهم، والأبناء والبنات من حوله، وعلامات الكدح تبرز جلية في تفاصيل الوجوه، كدح يخالط ابتساماتهم كأنها علامات الرضى عما هم فيه، ربما، وربما تخفي قصصًا وحكايات ومشاعر أخرى.
تدرك أنك الآن وهنا، في هذا المكان، تستعيد تلك الذكريات القديمة في زمنٍ مررت به قبل أربعين أو خمسين عاماً، يشدك الحنين لذاك الماضي، الذي لن أقول عنه جميلاً، وإن كنت أراه جميلاً، بينما في مقاييس بعض الناس هو ليس كذلك، ممن رأوا فيه زمن المصاعب وحياة التعب والشقاء، زمن الاستيقاظ الباكر وحصيدة القمح والشعير في صيف لاهب، زمن قطف العنب والتين وعمل "مساطيح القطّين والزبيب"، زمن موسم الزيتون والناس تركب الحمير والبغال المحملّة بالسلالم والفرش وهي تمضي نحو كروم الزيتون، وخلفها تسير عدة رؤوس من أغنام وماعز، في طرق جبلية ضيقة وعرة، يوم كان يتجول في كروم الزيتون في الجبال بائع الحلوى مشياً على الأقدام، آتياً من المدينة ومعه حمار قد حصل عليه من فلاحٍ صديق لأداء المهمة، يقايض الحلوى مع الفلاحين بزيتون أخضر أو ببعض المال.
ففي موسم الزيتون كانت الحلوى الأكثر شهرة هي "الحلاوة" المصنوعة من السمسم، وكذلك الحلقوم المعروف بـ "الراحة" مع البسكويت المدوّر.

إحدى الترع ومياه النيل تجري فيها
البساطة عنوان المكان
تسرح بخيالك هنا، وأنت ترى البساطة وكل تلك الطيبة والأصالة وذلك الكَرَم يعبّر عن صاحبه، حيث كرم فلاحي مصر وروح الفكاهة، رغم ما تراه من شقاء وضنك عيش.
كانت الزيارة لمصر هذه المرة مختلفة، جعلتني أفكر مقتنعاً بمقولة أن "من يشرب من ماء النيل لا بد أن يعود ليشرب منه ثانيةً"، ربما هي صحيحة في حرفيتها، لكن ربما أيضاً هي مجازًا قيلت، فيما المعنى الحقيقي لها يهجع في حقيقة أن من يلتقي بسطاء مصر وفلاحيها، لا بد أن يدغدغه حنين العودة ثانيةً للقائهم، والجلوس معهم، والاستماع لحديثهم وقصصهم والاستمتاع بشرب الشاي معهم.
في زيارات سابقة لم تكن المشاعر كهذه، ولم تكن مصر تثير الفضول كثيراً، وربما السبب يكمن في عدم لقاء الفلاحين في الأرياف، وعدم الذهاب للصعيد، والبقاء في المدن الكبيرة، التي ربما لا تمثل روح مصر، كما هو حال الريف، بشوارعه الترابية وجاموسة الفلاح والخبز البلدي وترعة الماء.

الأرض وقد ظهرت الأملاح على سطحها
ثلاثية التوازن الفلاحي
هناك حيث ترعة ماء النيل، جاموسة وفدان أرض، تشكل مجتمعةً "ثلاثية التوازن الفلاحي" في أرض الكنانة المعطاءة، ويكون الفلاح فيها قائداً للفرقة، التي تعزف ألحان العطاء والخير والبركة والوفرة.
في هذه البقعة تتوفر مقومات تفتقدها أماكن كثيرة، ولعل هذا الحكم يترسخ من واقع وريد الحياة ذاك، الذي هو ليس كأي وريد، نيلٌ يمتد طولاً من عمق جنوب مصر حتى أقصى شمالها، كقلب نابض يدفع بسر الحياة في الشرايين المتفرعة وهي تخترق جسد مصر شرقاً وغربًا، لتصل الأرض العطشى للماء، لكنها مروية بعرق الفلاحين الذي يختلط بماء النيل، لينبت الخير المخضّب بتعب أهل الأرض.
ماء وفير ونهر يجود بالخير، أرض خصبة تنتظر ماءً يرويها، وفلاحٌ يكدّ بتعبه وعرقه يكافح من أجل حياة كريمة، يحياها مع عائلته كباراً وصغارًا، أو على الأقل يُبقي لهم شيئاً من حياة.
ترع الماء "القنوات" الممتدة حول النيل، لا يمكن القيام بأعمال الزراعة دونها في أرض مصر، حيث لا أمطار تُذكر على معظم مساحتها، فالنيل بمياهه هو مصر، هو ما يمنح الحياة للمصريين، إنه المصدر الذي يعتمدون عليه لتستمر حياتهم في هذه البقعة من الأرض.
وترعة الماء جعلت المناطق الممتدة بعيداً عن ضفاف النيل في عمق الغرب أو الشرق، قابلة للزراعة وإنتاجِ شيءٍ من غذاء، وكان يمكن أن يكون إنتاجاً لكل الغذاء.
الترعة توصل الماء لكل فدان مزروع، ومنها ينتشر الماء عبر قنوات داخل الحقل ليسقي المزروعات سقياً بالغمر، وفق تقليد متبع منذ سنين طويلة خلت، ما يجعل كمية الماء المستعملة للري تفوق بكثير حاجة المزروعات الحقيقية من المياه.
ولعل هذه الظاهرة تجعل شخصاً مطّلِعاً على الوضع المائي يقول "ستفقدون الماء إن بقي الحال على ما هو عليه، فكميات الماء المستخدمة أكبر من الحاجة الحقيقية، لكن توفرها حتى اللحظة يجعلنا نعتقد أن المياه باقية على ما هي عليه للأبد".
واقع الأمر أن طريقة الري هذه، تنّم عن عدم إدراك حاجة النباتات الحقيقية من الماء، وهي بوعيٍ أو من دون وعي تشير إلى أننا لا نقدّر الماء، ككثير من شعوب منطقتنا، والشيء الذي لا تقدّر قيمته ستفقده عاجلاً أم آجلا، وفقط حين تفقد ما تملكه ستكتشف القيمة الحقيقية له.
النيل يجري بمياهه منذ آلاف السنين، وسيبقى كذلك لمئات وربما لآلاف سنينٍ قادمة، لكن قد لا تكون نفس الكمية في المستقبل، فيما نشهد من تغييرات سياسية في منابعه، وقد تتراجع هذه المياه وتنقص كمياتها في المستقبل، ولنا في دجلة والفرات مثال، فقد أدى حجز مياه النهرين في تركيا، خلف عدد متزايد من السدود إلى تراجع كميات المياه إلى حدٍ كبير، حد حرم البلدين العربيين من مياههما، فتراجع إنتاج الغذاء إلى مستويات خطرة.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ستتزايد الحاجة للمياه مع التزايد السكاني الكبير في مصر، ما قد يجعل حصة الزراعة من المياه أقل، في وقتٍ هي المستهلك الأول للمياه. فهل ستبقى الأساليب نفسها في الري هي السائدة، رغم استهلاكها الكبير للمياه، فضلًا عن الأضرار الأخرى التي تلحقها طريقة الري هذه بالتربة، والمشكلات التي تتسبّب بها للنباتات؟
لكن الترعة هنا لا تنقل المياه فحسب، لكنها في كثير منها تتحول إلى مكب نفايات، تمتلئ بالبلاستيك، لدرجة تثير الحزن والاستغراب في آنٍ معاً. إذ كيف تتحول هذه القنوات، التي تحتضن مياه النيل إلى مُجمع للقاذورات والبلاستيك إلى هذا الحد؟ على جوانب هذه الترع والقنوات تتكدّس جبال من النفايات، التي تستخرجها الآليات الكبيرة المخصصة لتنظيف الترع، دوريًا، ما يكلف الدولة أموالاً طائلة، في عملية مستمرة ودائمة، وتترك مشهداً صادماً للزائر، لكنها تحولت لشيء عادي لأهل المكان وهذا ما يثير الاستغراب أكثر.
التلوث وانتهاك حرمة المياه ليس فقط في الترعة، وإنما الأمر ينسحب على حال نهر النيل نفسه، وهنا يستثيرك التساؤل حول حقيقة تقديس أهل المكان لهذا النهر على امتداده من منابعه حتى مصبه، فإن كان للنيل قدسية عند أهله فلماذا يغتصبون قدسيته إلى هذا الحد من التلويث بالبلاستيك والقاذورات؟ وهو نفس التساؤل الذي يمكن أن يُطرح عن حب الوطن الذي نتغنى به في فلسطين، ونحن في كل يوم وكل دقيقة نحول أرضها لمكبات نفايات، حيث مررنا، في غابة أو صحراء، في جبالها وسهولها، في طرقاتها وحول ينابيعها.

تملح التربة وقد ظهر جليا على سطحها
في مصر تئّن التربة فيئن الفلاح
العين تبصر وضع التربة هنا قبل المختبرات، فالأملاح تراها واضحة بالعين المجردة تتكدس على سطح التراب. إنها مشكلة متفاقمة وتتزايد في مصر مع مخاطرها الكثيرة، وتراوح نسبة الأراضي، التي تعاني هذه الظاهرة الضارة بين ٢٥٪ في بعض المناطق لتصل حتى ٤٠٪ في مناطق أخرى، منذرة بكارثة إنتاجية في المستقبل ليس البعيد، في حال استمرارها وعدم وضع حلول جذرية لها، إذ ستهدد باستمرارها وتفاقمها إنتاج الغذاء، وتتسبّب في زيادة مضطردة في معدلات الفقر المرتفعة أصلاً في مصر، وخروج فقراء الفلاحين من دائرة إنتاج الغذاء، عندما تتوقف قدرة المزروعات على النمو في مثل هذه التربة، وبالتالي يتراجع إنتاج الغذاء لهم ولأسرهم، وبيع الفائض والحصول على نزر يسير من العائد، ما سيزيد فقرهم وعوزهم.
في ذات الوقت يُبحث في سبل مواجهة ظاهرة "تملّح التربة"، وتُجرى التجارب والدراسات، وتصدر الأبحاث وبها التوصيات الفنية، لكن حتى اللحظة فإن الحلول التي تطرحها الجهات البحثية والمؤسسات الدولية، تتمحور حول مقترحات قليلة مجزوءة، بشأن إدخال الأنواع النباتية المتحملة للأملاح.
وقلّما تجد في الأوراق البحثية ما يشير إلى ضرورة تغيير أساليب الزراعة، ومنها طريقة الري التقليدية بالغمر، التي تعد أحد أسباب زيادة تملّح التربة وبالتالي تصحرها وخروجها من دائرة الإنتاج، إضافة إلى سبب آخر يتمثل في الاستخدام المكثف للكيماويات الزراعية من أسمدة ومبيدات، التي تفاقم الظاهرة، ما يستوجب ضرورة التخلي التدريجي عن استخدامها، لإنقاذ تربة مصر الخصبة، ومعها إنقاذ الفلاحين الفقراء ماديًا؛ الأغنياء بالعزة والكرم، من ذوي الحيازات الصغيرة، الذين يعيشون زراعة الكفاف، إنقاذ من كارثة فقدانهم القدرة على إنتاج الغذاء وخسارة الأرض جرّاء تلك الممارسات.
الري بالغمر مع حرارة مرتفعة كما هو الحال في مصر، من شأنه أن يفاقم ظاهرة "تملّح التراب"، ويزيد تصحر الأراضي، الذي نسبته في مصر تعد الأعلى والأسرع في العالم.
وإذا ما استمر الوضع على حاله بمثل تلك الممارسات الزراعية غير الطبيعية، وبأسلوب الري السائد، فإن مصير مئات آلاف الفلاحين المصريين سيكون الفقر المدقع وهجرة أراضيهم وأماكن عيشهم، ما سيفاقم المشكلات الاجتماعية في مصر "أم الدنيا"، كما التربة "أم الجميع"، أمنا التي ننتهك حرماتها كل يوم بحقنها بالسموم، دون تفكير بمستقبل الأرض ومن سيخلفوننا عليها. فالهجرة من الريف إلى المدينة، ستزيد الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والسياسية على الدولة، التي ستجد نفسها مجبرة على توفير متطلبات الحياة، للأعداد المتزايدة من سكان المدينة، مع نقصٍ في الموارد.
هذه الزيادة في سكان المدينة، ستتطلب بنية تحتية كبيرة ومعقدة من شوارع وشبكات صرف صحي وشبكات توزيع المياه والطاقة ومواصلات واتصالات وغير ذلك من الخدمات والمتطلبات الحياتية.

إحدى الترع والقاذورات تطفو على سطح الماء فيها
تكاليف ما سبق سوف تكون باهظة جداً، وهي أعلى بعشرات المرات من التكاليف، التي يمكن أن توضع من أجل تنمية وتطوير الريف، ليبقى أهله فيه، ينتجون الغذاء ليزودوا به سكان المدينة، في علاقة عضوية واستعادة للدور الحقيقي للريف، بعد أن تشوّهت هذه العلاقة في كثير من بلدان العالم، ومنها فلسطين، حين أصبح سكان الريف يعتمدون في غذائهم على الشراء من المدينة.
إن تنمية وتطوير الريف وبموجبه بقاء أهله فيه يظل أقل كلفة على الدولة، فلا يضطرون للهجرة إلى المدينة، التي تئِن من ثقل الخدمات المطلوبة ليعيش فيها الناس، وتئِن على وقع أزمات اقتصادية واجتماعية متصاعدة.
إن الريف هو ما ينقذ مصر من كثيرٍ من أزماتها، كما في بلدان عدة، ولذلك فإن أنظار المخططين وأولي الأمر يجب أن تتوجه نحو تطوير الريف والنهوض به، ولستُ متطرفاً لو قلت إن الاهتمام بالريف يجب أن يكون قبل وفوق الاهتمام بالمدينة، فالأخيرة تخلق الأزمات؛ بينما الريف فيه الحلول لتلك الأزمات.
أحد مقومات بقاء أهل الريف فيه، هو تعزيز قدرتهم على إنتاج الغذاء، بجعل العمل الزراعي مجدياً لهم، ليستطيعوا إنتاج حاجتهم من الغذاء فيحول دون وصولهم إلى العوز والفقر، وكذلك تمكينهم من تزويد المدينة بالغذاء.
أحد السبل لذلك، هو حفظ التربة وزيادة خصوبتها وتقليل الممارسات التي تؤدي لتدهورها وفقدانها القدرة على الإنتاج، كالتملّح وزيادة الأمراض المستعصية على الحل داخل التربة، وفقدان المادة العضوية والكائنات الحية الدقيقة وغير الدقيقة التي تعيش فيها.
وهذا يتطلب تغييراً جوهرياً في الممارسات الزراعية، التي يتبناها الفلاحون المصريون عن طريق النشاطات الإرشادية التي تنظمها طواقم وزارة الزراعة ومعاهد الأبحاث وغيرها من الجهات التي تعمل مع الفلاحين، والانتقال من سياسة الزراعة الأحادية، التي تتطلب تكرار الحراثة وزيادة في استخدام المياه والبذور المستوردة الهجينة والمعدلة وراثياً، وزيادة الاستخدام المكثف للمبيدات الكيميائية والأسمدة، التي تزيد مشكلات التربة وتملحها، وأيضاً اتباع سياسة زراعية ومنهجيات تقلّل إزعاج التربة إلى الحد الأدنى، وتزيد نسبة المادة العضوية فيها، ولا تعتمد على الاستخدام المفرط للمياه، وتستثني المبيدات والأسمدة الكيميائية، وتعتمد بذوراً محلية، قادرة على مواجهة تغيرات المناخ.
منهجيات زراعية تركز على زيادة الإنتاج من المحاصيل الرئيسة، التي يعتمد عليها الشعب، وليس المحاصيل التصديرية، التي تستهلك التربة والمياه وتعب الفلاح.
فصادرات مصر الزراعية، تتركز على محاصيل مستهلكة للمياه كالحمضيات/الموالح، والرمان، والتوت الأرضي "الفراولة" والجوافة والمانجا، بينما تُستورد محاصيل رئيسة كالقمح والفول والأعلاف وفول الصويا، وهي محاصيل حاجتها للمياه أقل، كما أنها أقل استهلاكاً للسموم الكيميائية، وبعضها يتحمل مشكلة تملّح التربة ويسهم في علاجها كمحصول الشعير.

حبيبات الأسمدة الكيميائية على سطح التربة
الجاموسة والبرسيم وسموم كيميائية
بساطة الفلاح ودهاء الشركات وربما أسباب أخرى، طردت من الأرض بعض الذكاء الأممي الذي امتد لقرون وقرون، ذكاء تناقلته أجيالٌ بعد أجيال، طردت معارف متوارثة، لتحل مكانها ممارسات أرهقت أرض النيل وجعلتها تئنُ من وِزر صنيع البشر، نتيجة أساليب زراعية مدمرة للقدرة الإنتاجية، وأحد أهم تجلياتها التملّح المتزايد للتربة.
غير أن الفلاح المصري ما زال يحتفظ ببعض الموروث الثقافي، الذي وصله من أسلافه، فالجاموسة ما زالت موجودة، وتشكل عنصر بقاء وأمان للفلاح، إذ تنتج له الحليب ويصنع من حليبها الجبن والزبدة، وروثها يستخدمه لتخصيب التربة، وفي حقله هناك مساحة مخصصة لإنتاج البرسيم وغيره من المحاصيل العلفية، التي تتغذى عليها الجاموسة، وما زال يحافظ على قدر من التنويع الزراعي في حقله، ومع كل ذلك، فإن الفلاح المصري عرضة لافتراس مروجيّ الكيماويات الزراعية، التي باتت ترهقه وتضغط عليه مادياً وصحياً ونفسياً.
ويعتقد الفلاح البسيط في كثير من الأحيان، بل يردد أن ما يقوم به من ممارسات كيميائية ما هو إلا امتداد لتقاليد ورثها عن الآباء والأجداد.
وفي واقع الأمر ليس لما يمارسه علاقة بالتقاليد باستثناء العلاقة بالجاموسة والري بالغمر، أما بقية الممارسات فهي دخيلة عليه وأُسقطت على الزراعة، وتبنّاها الفلاح وراح يمارسها معتقداً أن هذا هو الطريق الوحيد، الذي يمكن السير عليه والمضي به في الإنتاج الزراعي.
وحين تصدم الفلاح بأن هذه الزراعة ليست امتداداً للموروث القديم، وتسميم الأرض ليس تقليداً ورثوه عن الآباء والأجداد، بل هو بذلك خالف ما كان عليه أجداده، الذين استعملوا البذور البلدية المحلية من إنتاجهم، ولم يعرفوا الأسمدة والمبيدات الكيميائية، وكان التنويع في المحاصيل آنذاك أكبر وأوسع، ولم يكن تملّح الأرض يسير بتسارع كما هو الحال عليه اليوم، حينها يدرك الفلاح أن ما يقوم به الآن ليس امتداداً لإرث الأجداد، بل هو تنفيذٌ لوصفات "شركات السموم" وشركات إنتاج واحتكار البذور.
فلو كانت تلك الممارسات تقليدية لحفظت التربة كما حفظتها ممارسات الأجداد على امتداد التاريخ، لكن الفلاح اليوم، ينسف ويدمر أصل الإنتاج وهو التربة، وباستخدامه مبيدات الأعشاب يدمر التنوع الحيوي والتنوع النباتي والتربة، وبممارسته الزراعة الأحادية يفاقم مشكلات التربة، وبالتالي يفاقم مشكلاته الزراعية ويتأثر اقتصادياً، بتراجع إنتاجه ونقص إنتاجية الأرض، وصولاً إلى توقفها عن الإنتاج بسبب تراكم الأملاح والسموم فيها.

الزراعة المتداخلة
الأمل في العودة والقاعدة التراثية
كل ما يلزم الفلاح المصري هو رؤية أنموذجٍ بديل في العمل الزراعي، وهو ببساطته وانفتاحه وبصيرته وقوة حدسه قادر على التغيير، إن وَجد من يمسك بيده وينير له الطريق الذي يوصله للحفاظ على خصوبة التربة، وزيادة إنتاجيتها، وتقليل ووقف تملحها، بتحرره من الاعتماد على الكيماويات.
طريق يجعله يدرك المصادر الكثيرة حوله، التي تساعده على الإنتاج، وبخاصة أنه ما زال يحتفظ بتقاليد عريقة يختزنها في ذاكرته، ويمكنه العودة إليها والانطلاق بها نحو المستقبل.
وطالما بقيت الجاموسة جزءًا من تقاليد حياته الفلاحية، وطالما بقي الحمار يجرّ عربته وينقله إلى الحقل ويعود به محملاً بخيرات الأرض والعلف الأخضر لحيواناته، وحيث هذه الحيوانات تنتج له الكثير من المخلّفات التي يمكنه الاعتماد عليها لإعادة الخصوبة للتربة، سيكون قادراً على الانتقال والعودة بالزراعة إلى أصولها الطبيعية، ويعيد للتربة المنهكة حياتها، ويحفظ مياه النيل ليروي مساحات أوسع وأبعد.
فاستهلاك المياه بالطرق المتبّعة حالياً مرتفع جداً، ويمكن تقليصه بنسب كبيرة قد تصل إلى النصف وأكثر، وإذا تقلّص استهلاك المياه لهذا الحد، فإن ما سيتوفر منها، سيتيح المجال لمضاعفة المساحات الزراعية.

الري بالغمر
كل ما يحتاجه الفلاح المصري هو أنموذج يرسم طريق العودة إلى الاعتماد على الذات، في كل ما يلزم للعملية الإنتاجية: بذور بلدية محلية، أسمدة طبيعية يحصل عليها من حيواناته أو أسمدة خضراء من النباتات، تنويع زراعي واسع، جعل الحصة الأكبر للمحاصيل الإستراتيجية (٦٠-٧٠٪)، اعتماد وسائل وقاية للنباتات تكون طبيعية ومحلية، اعتماد أساليب توفر في استخدام مياه الري؛ وتقلّل من قابلية التربة للتملح.
وبلد مثل مصر بعظمته، فيه كل المقومات للتطور والنمو والارتقاء والنهوض بالزراعة، من أجل مستقبل يجلب الرخاء للفلاحين ولأهل مصر جميعاً، طالما بقي النيل يتدفق، وفلاح مصر بجاموسته وفدانه يتغنى.