خاص بآفاق البيئة والتنمية
من المستحيل التعامل مع الأزمة البيئية والمناخية دون تغيير طريقة تراكم الثروة الرأسمالية. ومن الزاوية التحليلية العالمية، كلما كانت المجتمعات البشرية أكثر مساواة في تخصيص الموارد ومستوى المداخيل، وأيضًا أكثر ديمقراطية، ازدادت فرص انخفاض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. الفرضية هنا، أن مجتمعات كهذه تتجند بشكل أفضل لتحقيق الأهداف البيئية المُلْزِمة لجميع المواطنين، علمًا أن المجتمعات التي تسودها العدالة والمساواة الاجتماعية- الطبقية الحقيقية، بعيدًا عن الفساد بأشكاله كافة، سيتقلّص فيها كثيرًا حجم الغنى والثروة الفاحشة التي تتمتع بها الأقلية، لكن في الوقت ذاته، سيرتفع مستوى الرفاهية العامة.
|
 |
1% من البشر يملكون نصف ثروة العالم |
لا يقتصر عمل فريق العلماء الدولي التابع للأمم المتحدة (IPCC)- الذي يبحث ويقيّم التغيرات المناخية- على تطوير نماذج للغلاف الجوي وتحليل الأحداث المناخية؛ فهو يتعامل مع الأزمة باعتبارها مهمة اجتماعية واقتصادية أيضًا.
فكل ما يمكن أن يعمل بنجاح في المعركة المناخية، يكتسب أهمية حاسمة أيضًا لمنع التلوث؛ ووقف تدمير التنوع البيولوجي، وهما تهديدان بيئيان لمستقبل الوجود البشري.
تقرير فريق العلماء الصادر في مارس/ آذار 2022، الذي يتضمن حوالي 3000 صفحة، مكتوب بلغة احترافية كئيبة إلى حد ما، لكنه يقدم عددًا غير قليل من الأفكار والتشخيصات المهمة.
هذا، ويتعامل التقرير مع إستراتيجيات "الوقاية، والتغيير، والتحسين"، التي تتمثل نتيجتها الجانبية في خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
ويبدو، للوهلة الأولى، أن كل شيء يقاس بأطنان من الغازات، لكن من الناحية العملية يدور الحديث عن التغيرات الاجتماعية الاقتصادية، وتطوير البنى التحتية والتقنيات المناسبة.
علماء الأمم المتحدة ليسوا راديكاليين بما يكفي لاقتراح تغييرات سياسية واقتصادية بعيدة المدى، وذلك خلافًا لعديد من علماء وخبراء البيئة والمؤرخين الآخرين الذين يعتقدون بأن من المستحيل التعامل مع الأزمة البيئية والمناخية دون تغيير طريقة تراكم الثروة الرأسمالية.
بينما يؤكد آخرون على أهمية ترك جزء كبير من الطبيعة دون استغلال بشري، وفي الوقت ذاته إحداث انخفاض حاد في عدد سكان العالم وذلك بتنظيم الأسرة وتمكين المرأة.
علماء الأمم المتحدة يركزون على الطرق الوسيطة، التي يفترض أن تقود العالم إلى نمو اقتصادي أكثر اعتدالًا وتوفير مستوى معيشي لائق في البلدان النامية.
في الواقع، حتى الإجراءات المعتدلة نسبيًا التي يقترحها علماء الأمم المتحدة، تعد بعيدة المدى، مقارنةً بنمط الحياة الحالي وعادات الاستهلاك الرائجة، لا سيما لدى الشرائح السكانية الأكثر ثراء.

العبودية والعنصرية في النظام الرأسمالي المتوحش تتجددا بأشكال متعددة جديدة
العلاقة بين العدالة الاجتماعية وتحقيق الأهداف البيئية
في سياق الحديث عن التغييرات النوعية في الأنماط الحياتية والسلوكية الاجتماعية الاقتصادية، يمكننا الإشارة إلى التخلي عن الرحلات الجوية الطويلة، ما يعد مثالاً على النشاط الوقائي الذي يتضمن خفضًا كبيرًا في الانبعاثات خصوصًا، كما أن طاقة التغيير الكبرى لتقليل الانبعاثات تكمن في التحول نحو نظام غذائي نباتي.
علاوة عن ذلك، التحسين الكبير لا بد أن يأتي من قطاع البناء والإنشاءات، وتحديداً بتشييد المباني الموفرة للطاقة. التغييرات الجذرية والتحسينات النوعية مطلوبة أساسًا في العالم الصناعي المتقدم، بينما الجزء الأفقر من العالم يجب، قبل أي شيء آخر، تزويده بالاحتياجات الأساسية في النقل المواصلات والإسكان والطاقة والغذاء.
ومن الزاوية التحليلية العالمية، كلما كانت المجتمعات البشرية أكثر مساواة في تخصيص الموارد ومستوى المداخيل وأيضًا أكثر ديمقراطية، ازدادت فرص انخفاض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
الفرضية هنا، أن مجتمعات كهذه تتجند بشكل أفضل لتحقيق الأهداف البيئية المُلْزِمة لجميع المواطنين، علمًا أن المجتمعات التي تسودها العدالة والمساواة الاجتماعية-الطبقية الحقيقية، بعيدًا عن الفساد بأشكاله كافة، سيتقلّص فيها كثيرًا حجم الغنى والثروة الفاحشة التي تتمتع بها الأقلية، لكن في ذات الوقت، سيرتفع مستوى الرفاهية العامة.
وعند النظر في إمكانية إجراء المزيد من التغييرات على المستوى الفردي، فإن لاختيار وسيلة النقل تأثيرًا كبيرًا على خفض الانبعاثات، وذلك من 60 إجراءً في مجالات مختلفة درسها العلماء.
التحول نحو المشي وركوب الدراجات واستخدام السيارة الكهربائية يمكن أن يخفض طُنَين من انبعاث الكربون للفرد سنويًا.
كما أن التحول نحو نظام غذائي "بحر متوسطي"، يعتمد أساسًا على الخضار والفاكهة والبقوليات، يؤدي إلى تحسين مستوى الانبعاثات للفرد، فضلًا عن الفوائد الصحية.
أيضًا، اختيار السلع المعمرة يعد من القرارات الفردية الهامة، فبعض القرارات في مجالات معينة، مثل اختيار مكان الإقامة واستهلاك الغذاء يمكن تنفيذها بمساعدة اللوائح الحكومية أو الدولية.
فعلى سبيل المثال، يمكن لسياسة التخطيط الحكومية أن تفرض قيودًا على عدد المنازل المنفصلة التي يُسمح ببنائها على مساحات محددة، بعبارة أخرى، التدخل في حرية الاختيار الشخصية مطلوب، تلك الحرية التي تتيح لنا التبذير كيفما نشاء، والسفر الجوي كما يحلو لنا.

مؤتمر فريق العلماء الدولي التابع للأمم المتحدة
يمثل التحول المطلوب في هذا السياق تحديًا، وخصوصًا عند النظر في سيناريوهات التغيير المحتملة.
أحد هذه السيناريوهات هو الاقتصاد الدائري، حيث تظل المنتجات والمواد الخام قيد الاستخدام المستمر دون أن تتحول إلى نفايات.
مثل هذا الاقتصاد لم ينجح حتى الآن في إحداث تأثير كبير، إذ اتضح أن إعادة التدوير أو إطالة عمر المنتج لا يكفيان؛ ففي النهاية يجب تقليل كمية المواد الخام التي يستغلها الإنسان، ما يفرض تغيير أنموذج النمو الاقتصادي غير النهائي.
تجنيد علم السلوك من أجل تغيير العادات، يمكن أن يسهم، بمدى محدود، في إحداث التغيير، فعلى سبيل المثال، استخدام الـ"NUDGE" "دفعة خفيفة" الذي يعتمد على تسويق الأفكار الخضراء حول المنتجات، ونشر معلومات عن العواقب البيئية وإبراز الفوائد الاقتصادية لاستخدام منتجات أكثر اقتصادًا، وبخاصة أن التأثير الكلي للمحفزات الصغيرة يمكن أن يؤدي إلى انخفاض انبعاثات غازات الدفيئة لكل منزل بنسبة تتفاوت من 5٪ إلى 6٪.

هل يمكن للعدالة الاجتماعية أن تتحقق في ظل النظام الرأسمالي؟
في سياق أزمة المناخ، فإن لمعظم القرارات الشخصية التي تهدف إلى حماية البيئة، بما في ذلك إعادة تدوير النفايات، تأثير محدود.
معظم الناس لا يتجهون نحو الخيارات الأصعب، مثل تجنب الرحلات الجوية، وفي السنوات الأخيرة، ازداد استهلاك المركبات الخاصة الملوِّثة والمفرطة في استهلاك الوقود، مثل السيارات الرياضية ذات الدفع الأمامي، ما أدى إلى شطب كمية انبعاثات الكربون التي تُجنبت بسبب استخدام السيارات الكهربائية.
يا للأسف، نحن لا نزال أسرى الوهم القائل بأن التحسينات والابتكارات التكنولوجية ستنقذ الموقف وتسمح لنا بمواصلة نمط الحياة الذي تعودّنا عليه، دون أي تغيير أو تنازل.