خاص بآفاق البيئة والتنمية
لا شك أن انعكاسات التغير المناخي تشتد وطأة في بلدٍ يرزح تحت الاحتلال، حيث العدوان والحصار، والسيطرة على الموارد الطبيعية، والتضييق على الناس في رزقهم، وخنقهم اقتصاديًا. التغيرات المناخية وتأثيرها على فلسطين عامة وقطاع غزة خاصة، يتناولها هذا التقرير.
|
قبل سنواتٍ قليلة، سمعنا تحذيرات كثيرة من التغيرات المناخية، والاحتباس الحراري، والمشكلات البيئية المتوقعة، لكننا اليوم نراها عِيانًا، فما كان المختصون ينبهوننا لخطورته، صرنا نعيشه واقعًا. ففي الآونة الأخيرة ضجّت نشرات الأخبار بأنباء حرائق الغابات والجفاف والفيضانات والأعاصير، وها نحن نمر بصيفٍ أرهقتنا موجاته الحارة، وخلالها سجّلت بعض الدول درجات حرارة قياسية.
تغيّر المناخ هو "التحولات طويلة الأجل في درجات الحرارة وأنماط الطقس"، كما تعرّفه الأمم المتحدة، لكن تأثيراته لا تتوقف عند هذا التعريف بطبيعة الحال، فهو ينعكس على كل تفاصيل هذا الكوكب، على البشر والشجر، والبر والبحر، والإنسان والحيوان.
ولا شك أن انعكاسات التغير المناخي تشتد وطأة في بلدٍ يرزح تحت الاحتلال، حيث العدوان والحصار والسيطرة على الموارد الطبيعية، والتضييق على الناس في رزقهم وخنقهم اقتصاديًا، التقرير التالي يتناول تأثير التغيرات المناخية على فلسطين عامة وقطاع غزة خاصة.
طفل غزي يستحم بكمية المياه الشحيحة المتوفره
النشاط البشري أكثر تأثيرًا
يعود بنا الراصد الجوي ليث العلامي لأصل التغيرات التي طرأت على بيئتنا، وهو تغير المناخ، فيقول إن هذه التغيرات ترجع لنوعين من الأسباب، أولاً الأسباب الطبيعية بسبب النشاط الشمسي والانفجارات البركانية الكبيرة، وثانيًا، الأنشطة البشرية، وهي ذات التأثير الأكبر، خاصة بعد الثورة الصناعية، حيث حرق الوقود الأحفوري والفحم والنفط والغاز.
ويضيف في حديث لمراسلة "آفاق البيئة والتنمية": "ينتج عن تلك الأنشطة غازات الدفيئة، التي تشكّل ما يشبه الغلاف حول الكرة الأرضية، فتتسبّب في حبس حرارة الشمس داخل الكوكب"، موضحًا: "في الوضع الطبيعي تكتسب الأرض الحرارة من الشمس نهارًا، وتفقدها ليلًا بإعادة إخراجها للفضاء، لكن غازات الدفيئة تعيق الإشعاع الليلي، فتبقى الحرارة مخزّنة بالقرب من سطح الأرض، فترتفع درجات الحرارة".
وعن المشكلات التي تسبّب فيها ارتفاع الحرارة، يعدّدها قائلًا: "زيادة الجفاف، وحرائق الغابات، وبذلك يتقلّص الغطاء النباتي الذي له دور في التوازن البيئي، إذ يمتص ثاني أكسيد الكربون ويُنتج الأكسجين، ويساهم في تلطيف الجو".
ومن نتائج ارتفاع الحرارة التي يذكرها العلامي نقص المساحات المائية، خاصة البِرك والمسطحات الصغيرة والمحاصرة التي تعتمد على الأمطار بدرجة كبيرة، فالحرارة العالية تُبخرّها، ومن ثم يقلّ منسوب المياه فيها، وإذا كانت هذه المساحات مصدرًا للشرب وريّ النباتات ورعاية الحيوانات والطيور، تصبح المشكلة أكبر، فتتأثر الثروة الحيوانية والزراعية مباشرة، تبعاً لحديثه.
وبهذه الطريقة، تتفاقم المشكلة، وتمتد لتطال مختلف مكونات البيئة من حولنا، ومن أشكال تفاقمها، تسارع وتيرة حدوثها، بحسب كلام العلامي، الذي يبيّن: "في السنوات الأخيرة، شهدنا موجات حارة أشد من السابق، من حيث عدد مرات حدوثها وسرعة تكرارها وطول مدتها، وأقرب مثال على ذلك الموجة التي تأثرت بها فلسطين في يوليو/ تموز الماضي واستمرت لنحو 20 يومًا، وفي ذات الموجة وصلت الحرارة لدرجات لم تُسجّل سابقًا في عدة دول، خاصة في النصف الشمالي من الكرة الأرضية".
التغير محليًا
"ماذا عن فلسطين تحديدًا؟" يجيبنا العلامي بقوله: "هي جزء من الشرق الأوسط المحاط بصحارى، لذا فالطابع المناخي هو الصيف الحار الطويل، فالأمطار تسقط بين أكتوبر ومارس تقريبًا، وتبقى سائر الشهور جافة ومرتفعة الحرارة، أي أن نظام توقف الأمطار هو الطاغي على النظام الماطر".
ويضيف: "التغير المناخي في فلسطين يظهر على شكل تذبذب المواسم المطرية، وتضافر عوامل ارتفاع الحرارة، وازدياد معدلات الجفاف، وانخفاض معدلات مياه الأمطار، وهذا له تبعاته في بلد يعتمد كثيرًا من سكانه على الثروة الزراعية".
ويوضح أن التغير يتدحرج بهذه الطريقة حتى يصل للتأثير على المواطن مباشرة، فمثلاً اضطراب بداية مواسم الأمطار وعدم انتظام كمياتها وفترات احتباسها، وزيادة ملوحة التربة، وارتفاع درجات الحرارة بعد معدلات الأمطار المنخفضة، كلها عوامل تؤثر على الزراعة بأشكال مختلفة، مثل ضعف تلقيح الأزهار، وانتشار الآفات، وتأخر نضج المحاصيل، وهذا يؤدي لضرر مادي للعاملين في القطاع الزراعي، ويؤثر على الاقتصاد عمومًا، خاصة أن بعض المحاصيل المتضررة تكون مخصصّة للتصدير.
في بلد مُحتَل، لا يتوقف الأمر عند التغيرات المناخية، فيد الاحتلال تطال الواقع البيئي وتؤثر عليه بقوة، وعن ذلك يقول العلامي: "لا سيادة فلسطينية حقيقية على الموارد الطبيعية، وبالتالي لا إدارة فلسطينية مباشرة على هذه الموارد".
ويسيطر الاحتلال على مساحات واسعة من الأراضي، وعلى مصادر المياه، ويمنع المواطنين من الوصول لمزارعهم للاهتمام بها، مواصلًا حديثه في الصدد نفسه: "يضخّ الاحتلال المياه العادمة باتجاه قطاع غزة، فتتلوث مياه البحر، والتربة، ما يؤدي لمشاكل بيئية وصحية مختلفة، فضلًا عن الحصار المفروض على القطاع منذ سنوات، ما يحول دون إدخال أي تحسينات تخدم الوضع البيئي".
وللتعامل مع التغيرات البيئية، يرى العلامي أنه يتعين على المسؤولين الفلسطينيين إقناع المجتمع الدولي بالضغط على الاحتلال للتوقف عن سرقة الأراضي والسيطرة على الموارد الطبيعية.
مطالبًا الجهات المسؤولة بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني لتشجيع الزراعة المستدامة والتشجير، ومشاركة المعلومات المتصلة بالواقع المناخي الفلسطيني مع المجتمع الدولي للحصول على تمويل لمشروعات تتلاءم مع التغير المناخي.
وعلى مستوى الأفراد، ينصح المواطنين بالاهتمام بالزراعة قدر الإمكان، والاستفادة من أي مساحات قابلة للزراعة حتى لو كانت قوارير على الشرفات، وتجنب السلوكيات المضرة بالبيئة مثل هدر المياه وقطع الأشجار.
ويأسف العلامي لعدم الاهتمام الكافي عند المواطن الفلسطيني بالموضوع البيئي، فهو يعطي الأولوية لقضايا أخرى، مثل الاحتلال والوضع الاقتصادي ومصاعب الحياة اليومية، مفسراً ذلك: "هذا ناتج عن غياب الوعي، فتأثير التغيرات البيئية ينعكس على الإنسان مباشرة، في طعامه وشرابه وعمله وصحته ودخله".
أطفال غزة في البحر
الاحتلال مسؤول
زينة الأغا المحللة السياساتية في "شبكة السياسات الفلسطينية" نشرت في موقع الشبكة عام 2019 ورقة بعنوان: "التغير المناخي والاحتلال وفلسطين العرضة للتأثر"، جاء فيها: "يظل الاحتلال الإسرائيلي الخطر الأكبر المحدِق بالفلسطينيين في الأرض الفلسطينية المحتلة، وهو على قدرٍ من التغلغل لدرجة أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يُعده "خطرًا بيئيًا" بحد ذاته. فالقيود المفروضة على حرية حركة الناس والبضائع، وجدار الفصل العنصري، والاستيلاء على الأراضي، والتوسع الاستيطاني، وعنف المستوطنين، وسوء إدارة السلطة الفلسطينية، جميعها عوامل تهدد أمن الفلسطينيين المائي والغذائي، وبالتالي تزيد قابليتهم للتأثر بتغير المناخ.
وتسترسل في السياق نفسه: "لقد طوَّر الفلسطينيون أساليب قصيرة الأجل للتعامل مع هذه السيطرة الإسرائيلية المتفشية. ففي غزة، مثلًا، أخَّرَ الفلسطينيون كارثةً وشيكة بحفر الآبار واستخدام مياه الصرف غير المعالجة في ريّ المزروعات، ولكن على حساب الاستدامة بعيدة الأمد وعلى حساب الصحة العامة التي باتت تواجه خطرًا كبيرًا".
وتذكر الأغا في ورقتها: "الأرض الفلسطينية المحتلة تخضع للقانون الدولي المعني بالاحتلال الناجم عن الحرب. فــ "إسرائيل" قوة احتلال، مسؤولةٌ قانونًا عن تلبية احتياجات السكان الواقعين تحت احتلالها، وهذه المسؤولية تشمل بموجب اتفاقية لاهاي الوصاية على الموارد الطبيعية، وإضافة إلى ذلك، تحظر اتفاقية جنيف الرابعة تدمير الممتلكات ومصادرتها على نحو تعسفي، وإتلاف الأعيان المدنية التي لا غنى عنها في حياة المدنيين مثل المناطق الزراعية ومنشآت مياه الشرب وأنظمة الريّ، كما تحظر إزالتها ونقلها".
ومن منظور قانوني، يصف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي التأزم الراهن الذي يتسبّب به الاحتلال الإسرائيلي فيما يتعلق بالبنية التحتية المائية والزراعية الفلسطينية بأنه "خروقات جلية للقانون الإنساني الدولي" تستوجب تحقيقًا مستقلًا من جانب المجتمع الدولي.
وتحذّر الأغا من التأثيرات التي سيتركها التغير المناخي على أغلب قطاعات الاقتصاد في فلسطين، خاصة قطاع المياه الذي سيكون واحدًا من أكبر المتأثرين من حيث وفرة المياه وجودتها، تحكي عن التأثير الأول: "ستصبح موارد المياه العذبة، السطحية والجوفية، أكثر شحًا بسبب تناقص معدلات هطول الأمطار، الأمر الذي سيزيد صعوبة تعويض المياه الجوفية في أثناء فترات النمو السكاني المرتفع، تزامنًا مع احتدام التنافس على المياه بين الزراعة الفلسطينية، والمستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية، وسيؤدي تراجع الهطول المطري أيضًا إلى زيادة تكلفة استخراج المياه وزيادة كميات الطاقة المستخدمة في استخراجها، علاوةً على أن ارتفاع درجات الحرارة ومعدلات الترسيب الزائدة قد تهدد جودة مياه الشرب، بالنظر إلى محدودية مرافق المعالجة".
وثانيًا، بما أن التغير المناخي يزيد احتمالات هطول الأمطار بغزارة ولفترات قصيرة مقارنة بالموسم المطير الممتد، فإن احتمال تشكل السيول والفيضانات المفاجئة سيزيد كثيرًا. ولا تستطيع البنية التحتية القائمة في الأرض الفلسطينية المحتلة تحمّل هطول الأمطار بغزارة، ما قد يؤدي إلى فيضانات في المناطق الحضرية تُعزى جزئيًا إلى عدم كفاية نُظم الصرف والمجاري.
وفي ورقتها تشير إلى أن التغير في أنماط هطول الأمطار بسبب التغير المناخي يشكل خطرًا كبيرًا على الإنتاجية الزراعية، موضحة: "تشكل الزراعة البعلية نحو 85% من الزراعة الفلسطينية، ونصف كمية المياه المستخرَجة من الآبار الجوفية تقريبًا تُستَخدم في أغراض الزراعة، وهكذا ستؤثر موجات الجفاف والتصحر المتزايدة تأثيرًا مباشرًا في إنتاجية المحاصيل وقطعان الماشية، وسيؤدي قِصر المواسم الزراعية وتزايد الطلب على المياه إلى ارتفاع أسعار الغذاء".
وتزيد بالقول: "تزداد هذه الآثار خطورةً بالنظر إلى "انعدام الأمن الغذائي" في الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967، ففي عام 2014، بلغت نسبة الأسر الفلسطينية التي تعاني "انعدام الأمن الغذائي" (الحاد أو الهامشي) 26% تقريبًا في الأرض الفلسطينية المحتلة، في حين بلغت 46% في قطاع غزة".
وتمضي في تحذيرها: "إن ارتفاع منسوب البحر وتغلغل المياه المالحة في التربة في غزة سيضر الزراعة الساحلية المنخفضة، التي تستأثر بنسبة 31% من مجمل الإنتاج الزراعي في غزة، وسيهدد الأمن الغذائي في هذه المنطقة القابلة للتأثر والتضرر أصلًا بسبب تغير المناخ، كما ستتراجع مداخيل المزارعين والرعاة وأرباحهم، ما سيهدد طريقة حياتهم الريفية ويزيد احتمالات وقوعهم في شِراك الدين وبراثن الفقر الهيكلي".
وتختم الأغا: "يضر الاحتلال بالزراعة الفلسطينية بسرقته الأراضي والتحكم في الكثافة السكانية، (...) ففي غزة 20% من الأراضي الصالحة للزراعة ممنوع استخدامها لأنها تقع داخل المنطقة الأمنية العازلة التي أنشأتها "إسرائيل" قرب السياج الحدودي، وفي معظم الأحيان، يُضطر المزارعون والرعاة إلى شراء المياه من مناطق بعيدة، ما يكبدهم تكاليف نقل أعلى ويهدر وقتهم، وعلاوة على ما سبق، يعاني الفلسطينيون محدودية الوصول إلى الأسواق الدولية والحصول على المعدات والمستلزمات الزراعية الحديثة".
القطاعات الأكثر تأثرا بالتغير المناخي في قطاع غزة. سلطة جودة البيئة
الحصار وتقليل الآثار
العام الماضي، أصدرت سلطة المياه وجودة البيئة تقريرًا أشارت فيه إلى المجالات التي من شأنها أن تتأثر بالتغيرات المناخية، ومنها الزراعة والحياة البحرية والمياه والغذاء والطاقة والصناعة والبنية التحتية والنفايات، فضلًا عن النوع الاجتماعي والصحة، حيث الوفيات الناتجة عن مضاعفات الحمل والولادة، والأمراض المرتبطة بالمياه والصرف الصحي، وعدد الوفيات ومتوسط العمر المتوقع.
ويؤكد التقرير أن "الحصار الإسرائيلي والقيود على الحركة، والوصول إلى الأراضي والموارد والأسواق يؤدي إلى زيادة تكاليف الإنتاج الزراعي (بما في ذلك إمدادات المياه) إلى جانب انخفاض الأرباح، ما يحد من قدرة المجتمع الفلسطيني على مواجهة وتخفيف آثار التغير المناخي".