إدمانه على هذا المنوال سيفتك بالبشرية..."البلاستيك" بصَريح العبارة يُنذر ونحن "لَسنا هنا"
خاص بمجلة آفاق البيئة والتنمية
النفايات البلاستيكية الخطرة على شواطئ غزة
قبل أيام ذهبت إلى منطقة جبلية جنوب قلقيلية للتنزه والاستمتاع بجمال الطبيعة، الأرض مفروشة ببساط عشبي أخضر، أشجار اللوز اكتست بالنوَّار، منها الأبيض وبعضها المتورد، شقائق النعمان الواثقة نمت هنا وهناك بحمرتها النارية وتمايلت مع النسمات الدافئة مثل فلسطيني يدافع عن أرضه ويذوب عشقاً فيها، والزعمطوط شكَّل مستعمرات غاية في الجمال نما بينها قرن الغزال الأنيق بكثافة وخيلاء.
لوحة طبيعية تسكنها البهجة والعفوية المطلقة؛ لكن بدا أمامي ما كدّر صفو يومي وأزعجني؛ فبين الأعشاب والصخور وعلى أغصان الشجر، وتحت النباتات البرية تنتشر أكوام من القمامة العصرية، قناني وأكواب وعبوات بلاستيكية ذات أحجام وأشكال مختلفة، أطباق فَلين، أغلفه شفافة، أكياس نايلون؛ تنتشر هنا وهناك بلا خجل؛ لتُربك المنظر الطبيعي الرائع وتشوه جماله!
صرخت طفلتي قائلة:" ماما.. انظري، من الذي جعل المنظر بشعاً هكذا؟ مَن نثر هذه القمامة في كل مكان؟ أنا حزينة!".
- فعلاً، أنت محقة يا صغيرتي! ألا يشعر البشر بوخز الضمير؟
حياة عصرية.. تطور.. راحة.. رفاهية.. أطعمة مغلفه برقائق بلاستيكية نظيفة تعطي شعوراً بالراحة، انزعها ثم تناول وجبتك وأنت ضامن لنظافتها.
وجباتٌ معبأة في أطباق من الفَلين ناصع البياض، تتخلص منه في أكياس النفايات بمجرد انتهاءك من تناولها دون أن تكلّف نفسك عناء تنظيفه والاحتفاظ به؛ أغذية أطفال جاهزة ومعبئة في علب جذابة، أطعميه ثم ألقي العلبة. ملابس مكوية ومغلفة؛ مفارش للاستعمال مرة واحدة فقط.. علب صابون لاستعمال واحد فقط والقائمة تطول، ونشعر إزاءها بالنشوة: لقد وصلنا إلى مرحلة رائعة من الحضارة والتقدم، يضمن لنا النظافة دون مجهودات كبيرة!
ظاهر الأمر يبدو نظيفاً، مريحا، جذاباً.. ولكن، هل باطنه كذلك؟
بيئتنا تستغيث! فالحمل ازداد عدد لا يُحصى من المرات.. فوق طاقتها، وقدرتها على الاحتمال!
ويقفز السؤال المهم هنا: ما المشكلة؟ لماذا تبالغون يا من تصدِّعون رؤوسنا بأحاديثكم وبكائياتكم الدائمة عن البيئة؟ ما السر الخطير الذي توارونه خلف كواليسكم ويجعلكم تصيحون دائماً: البيئة.. البيئة؟ وهل نحن المسؤولون عن البيئة؟
تثور البراكين، فتُخرج كميات هائلة من الغازات من أول وثاني أكسيد الكربون، وأكاسيد الكبريت، وكبريتيد الهيدروجين، والكلور، وكلوريد الأمونيوم، والميثان، وغيرها الكثير، وتتسبب في مصائب أقلُّها الأمطار الحمضية، ناهيك عن الرماد البركاني الذي يظل عالقاً في الجو لفترة طويلة، ومواد صلبة تدمر الأرض وتلوِّثها وتمحو قرى ومدناً بأكملها وقد تتسبب في تغيير مناخ الأرض!
إذا كانت البراكين وحدها تقذف هذا القدر من الملوثات، فما بالك بمصادر التلوث الطبيعية الأخرى؟ أم أنكم تجدون في المعارضة بهجة وإثارة تبحثون عنها دائماً؟ هل تريدون لنا حياة بدائية؟
حسناً، سأكتفي بالرد على هذه الأصوات الغاضبة بمثال واحد فقط في هذا المقال، وهو اللدائن أو البلاستيك، أحد أكثر الملوثات انتشاراً في وقتنا الحالي.. وأرجو أن تعيروني انتباهكم وقلوبكم وتتفاعلوا مع ما أقول بحيادية ودون مكابرة!
لن أتحدث هنا بشكل مباشر عن تأثير البلاستيك على الصحة، ولكني سأتناول التأثير البيئي له فقط!
هل تعلمون أن البلاستيك تم تصنيعه من مركَّبات بتروكيميائية تسمى بوليمرات؟ هذه البوليمرات تتكون من مادة عضوية أو أكثر، وقد حصل العالم الذي قام بتركيبه للمرة الأولى في ستينيات القرن الماضي على جائزة نوبل للكيمياء، للخدمة العظيمة التي قدَّمها للبشرية!
تضاف مواد كيميائية أخرى خلال تصنيع البوليمرات لتكسبها خواصاً مطلوبة، كالمرونة والليونة ومقاومة الكسر، والشفافية للضوء، واللون، وهذه المواد المضافة إما أن تكون عضوية أو غير عضوية، وهي المتهم الأول في الأضرار الناتجة عن استعمال اللدائن على صحة الإنسان.
وهل تعلمون أيضاً أن البلاستيك لا يتحلل في الطبيعة كما هو حال بقية المواد العضوية الأخرى؟ ولكنه مع مضي الوقت يتفتت ويتناقص حجم القطع المشكلة له، حتى يصل إلى جسيمات دقيقة، أحجامها نانوية لا تستطيع رؤيتها بعينك، وتكون الكارثة هنا قد بلغت ذروتها!
- كيف يكون ذلك؟ ألم نتخلص من البلاستيك بعد أن أصبح دقائق صغيرة جداً فلم يعد يتكدس بشكل مزعج في البيئة، واستطعنا بذلك إزالة خطره البيئي؟
- أبداً.. بل إن جزيئاته تكون قد انسلّت إلى السلاسل الغذائية من طحالب ونباتات وأحياء بحرية وطيور وحيوانات وتكدست داخل خلاياها، وامتزجت مع الماء وتطايرت في الهواء فأصبح بمقدورها التسلل إلى أجسادنا والترسب في أعضائنا الحيوية، فتمضي حينها في تعطيل وظائفها وإحداث الطفرات فيها وتدمرها! وهو ما توصلت إليه الدراسات العلمية حتى الآن.
سنوياً تُنتج مئات الملايين من أطنان البلاستيك في العالم بأشكال وأحجام واستعمالات قد لا تخطر لك على بال، وتكاد تدخل في جميع الصناعات تقريباً.. وبعد عدة سنوات من التصنيع والاستخدام تعود على شكل نفايات ممزقة ومتسخة تتكدس في المكبَّات وتنتشر في البيئة ما بين محيطات وبحار ومجاري مائية وداخل التربة دون أن تجد حتى الآن حلولاً عمليه للتخلص منها.. وحتى محاولات إعادة تدويرها، لا تعيد للاستعمال إلا أجزاء يسيرة مما يتم إنتاجه من البلاستيك أصلاً ولمرات عدة ليس إلا!
إذا لم يتوقف كل منا عن تقليل استخدام البلاستيك على مستواه الفردي، واستبداله بمواد أخرى قابلة لإعادة الاستخدام والتدوير دون أن تشكل نفاياتها عبئاً على بيئتنا، فلا ندري أين سيصل الحال بالبشرية بعد قرون عدة! ولا ندري إن كان أحفادنا والأجيال القادمة من بعدهم سيجدون على الأرض مكاناً خالياً من ملوثات البلاستيك يتمكنون من العيش فيه بصحة وسلام.. أم أن كل منا يفكر فقط في كيف سيمضي ساعات يومه براحة، ولا يهمه ما سيحدث في الساعات التي تليها!