فن مواجهة التغير المناخي في زراعاتنا المحلية
|
الدورة الزراعية والتنويع الزراعي يساهمان في تقليل الآفات والأمراض الزراعية ويضمنان الحفاظ على بنية صحية ومتماسكة للتربة |
جورج كرزم
خاص بآفاق البيئة والتنمية
تشير الدلائل العلمية إلى أن درجة حرارة سطح الأرض والطبقات الدنيا من الغلاف الجوي ترتفع باطراد، منذ نحو مائتي عام؛ وهذا ما يسمى تحديدا بالاحتباس الحراري. ويتوقع العديد من علماء البيئة والمناخ بأن ترتفع حرارة الأرض والجو خلال المائة سنة القادمة أكثر من أي وقت مضى. ويعزو أولئك العلماء السبب الأساسي في ارتفاع السخونة، وبالتالي التغيرات المناخية السلبية الخطيرة التي تحدث سنويا، إلى النشاطات الإنسانية على سطح الأرض.
وستتحول ظاهرة الاحتباس الحراري إلى كارثة مناخية، إذا ما تواصل الارتفاع الكبير في تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون في الجو، وغازي أكسيد النترات والميثان، فضلا عن غازات "الكلوروفلوروكربون" الاصطناعية التي تحوي على الكلور والفلور والكربونات. وقد تزايد بشكل هائل، في العقود الأخيرة، انبعاث هذه الغازات الناتجة عن النشاط البشري في الصناعة ووسائل النقل، وخاصة تلك المنبعثة من عمليات حرق الوقود الأحفوري، مثل النفط والفحم الحجري والغاز الطبيعي.
يُتَوَقَّع، عند نهاية القرن الحالي، أن يزداد تأثير ظاهرة الاحتباس الحراري على سطح الأرض، وما يعنيه ذلك من تغيرات مناخية نوعية، تتجلى في ارتفاع متوسط درجات حرارة سطح الكرة الأرضية بمقدار خمس درجات مئوية؛ ما سيؤدي إلى عملية تبخر ضخمة في موارد المياه العذبة، وبالتالي حدوث شح خطير فيها. كما سينتشر الجفاف الشديد، وستزداد بشكل هائل كميات وكثافة الأمطار في بعض المناطق وخلال فترات زمنية قصيرة جدا؛ ما سيدمر عمليات الإنتاج الزراعي. وهذه الظواهر المناخية الأخيرة هي ما بدأنا نلاحظ حدوثها في منطقتنا العربية خلال السنوات الأخيرة.
|
زراعة عضوية تتميز بالتنوع والتداخل |
مواجهة المزارعين للتغير المناخي والتكيف معه
في المستوى الزراعي الفلسطيني، الفردي والجماعي، ماذا يمكننا أن نفعل للتخفيف من ظاهرة الاحتباس الحراري ومواجهة التغيرات المناخية؟ يمكننا إيجاز أهم الممارسات البيئية التي تساهم في التخفيف من الاحتباس الحراري و/أو التكيف مع التغيرات المناخية بما يلي:
أولا: التركيز على زراعة وشراء واستهلاك الأطعمة البلدية والعضوية، علما بأنه في الزراعات البلدية والعضوية لا تُستعمل الأسمدة الكيماوية النيتروجينية التي تعمل على زيادة نسبة غاز الميثان في الجو. كما لا تستخدم فيها المبيدات الكيماوية الملوثة للتربة وللمياه الجوفية وللهواء، والمؤذية جدا للصحة العامة.
ثانيا: المحافظة على تربة صحية وخصبة وذات بنية جيدة للنباتات، إذ أن التربة المتوازنة والخصبة تعتبر خط الدفاع الأول ضد آفات وأمراض التربة، الأمر الذي يضمن إنتاج نباتي قوي وسليم. ومن الضروري استخدام المخصبات والأسمدة الطبيعية والعضوية والكُمْبوست، إذ تعمل تلك المخصبات على إغناء التربة بالعناصر الغذائية الضرورية لنمو النباتات، وتقلل كثيرا من استعمال المياه، وتحسن قوام وخواص التربة وبنيتها وتركيبها، فضلا عن تحسين النظام الهوائي والمائي بداخلها. كما أن مساهمتها في الاحتباس الحراري هامشية.
ولا بد أيضا من إعادة استعمال، وعدم حرق، بقايا المحاصيل والأعشاب الجافة التي يتم جمعها، عبر إضافتها لكومة السماد العضوي، أو استخدامها في عملية تخمير الزبل البلدي، وبخاصة الأعشاب الجافة، فضلا عن استعمالها كغطاء حيوي، أو ما يعرف بالمَلْش، حول المزروعات.
والتغطية الحيوية للتربة عبارة عن طبقة واقية من "المِهاد" المكونة من النباتات أو الأسمدة الخضراء أو الروث أو أوراق الشجر أو القش أو التبن أو غيرها، والتي تعمل على حماية الكائنات العضوية الحية على سطح التربة، فضلا عن حماية البنية الأساسية للتربة من الأضرار الناتجة عن تعرضها لظروف جوية جافة أو للمطر الشديد أو للرياح الحادة؛ وبالتالي التقليل من انجراف مغذيات النباتات والحد من انتشار آفات التربة. ولدى تحلل الغطاء الحيوي يتحول إلى سماد للأرض؛ وبالتالي يعمل على تخصيب التربة.
ثالثا: الاستفادة القصوى والناجعة من مياهنا الطبيعية المتدفقة التي تضيع سدى، كإقامة أعداد كبيرة من آبار الجمع والسدود الترابية للاستفادة المباشرة من مياه الأمطار للاستخدامات الزراعية والمنزلية، فضلا عن الاستفادة من مياه بعض الينابيع المنتشرة في الضفة الغربية. كما لا بد أيضا من تشجيع الزراعات البعلية وزراعة المحاصيل التي لا تتطلب كميات كبيرة من مياه الري.
ومن الأهمية بمكان أيضا، إعادة تدوير المياه العادمة في الزراعة، بهدف زيادة كمية مياه الري والتقليل من تلوث البيئة والمياه الجوفية.
كما يجب التخطيط لإدارة عملية جمع وحفظ المياه وأن نتوقع الاحتمال الأسوأ فيما يتعلق بهطول الأمطار. ويعتبر بئر الجمع مصدرا احتياطيا إضافيا للري أو لسقاية الحيوانات أو للشرب. وفي ظل القيود الحالية بإمكان آبار الجمع أن تخفف، ولو بشكل جزئي، من أزمة مياه الشرب والري، ناهيك عن مساهمتها في تخفيض مدى استنزاف المياه الجوفية. وفي المناطق التي تكثر فيها البيوت البلاستيكية يمكن جمع ملايين الأمتار المكعبة من المياه عن أسطحها سنويا. ويشكل بئر الجمع مصدرا مائيا مجانيا ومضمونا ومتجددا، يساهم في تأمين استمرار حياة التربة والنبات والحيوان والإنسان.
ولتخزين مياه الأمطار يمكننا أيضا تطبيق تقنيات مناسبة وعملية، وعلى سبيل المثال استعمال الخزانات الصغيرة بين 750 و1000 لترا، المصنوعة من الفخار أو الإسمنت المسلح أو البلاستيك. وتهدف هذه التقنيات إلى توفير بدائل آمنة ورخيصة لتخزين المياه. وبإمكان مثل هذه الخزانات الصغيرة توفير جزء كبير من الاحتياجات المائية للأسرة خلال السنة.
رابعا: التركيز على التنوع الزراعي الذي يلعب دورا هاما في ضبط انتشار الآفات، كما انه يهدف إلى توزيع الإنتاج على أطول فترة ممكنة؛ بمعنى توفير الإنتاج خلال كل مواسم السنة، وفي نفس الوقت التقليل من المخاطرة الاقتصادية الكامنة في الاعتماد على نوع واحد من المحاصيل، علما أن نظام الزراعة الأحادي والمكثف يتسبب في تكاثر وانتشار الآفات التي يصعب غالبا مكافحتها. وتعتبر زراعة النباتات المختلطة أو المترافقة جزءا أساسيا من الزراعة المتنوعة والمتداخلة؛ وتساهم هذه التقنية في إعاقة وردع الآفات وضبط انتشارها، وذلك من خلال زراعة نباتات وخضار وأشجار مختلفة ومتنوعة بعضها مع بعض، بشكل متداخل، بحيث تخدم وتعزز بعضها بعضا في عدة اتجاهات، بشكل تكافلي، ودون أية منافسة فيما بينها؛ علما أن المنفعة قد تكون متبادلة بين النباتات المترافقة أو من طرف واحد. ومن بعض الأمثلة على زراعة النباتات المترافقة: زراعة البندورة مع النعنع المنفر للحشرات. زراعة البصل والثوم مع البطاطا والملفوف، حيث يفرز البصل والثوم مواد تعمل على مكافحة فطر اللفحة الذي يصيب البطاطا وفطر "أسكوهيتو" الذي يصيب الملفوف. زراعة الفاصوليا مع الزعتر أو البابونج أو النعنع أو الميرمية. زراعة الكوسا واليقطين مع الذرة.
خامسا: فيما يتعلق بالحراثة ودورها في الحفاظ على التربة، نستطيع القول إنه، وانسجاما مع ظروف مناخنا الجاف وشبه الجاف، بإمكاننا القيام بالحراثة مرتين في السنة، الأولى حراثة عميقة في الخريف، بهدف تحضير التربة لاستيعاب أكبر كمية ممكنة من مياه الأمطار، والثانية حراثة سطحية في الربيع، بهدف القضاء على الأعشاب والاحتفاظ برطوبة التربة.
سادسا: استعمال البذور البلدية؛ إذ أن النباتات النامية من البذور المهجنة أو الصناعية تسبب تآكلا متواصلا في خصوبة التربة وتحتاج إلى الكثير من المياه، بينما تنمو البذور البلدية جيدا مع السماد البلدي أو الكُمْبوست وهي مقاومة للآفات الزراعية وحاجتها للمياه قليلة؛ وبالتالي تحافظ على بنية التربة الخصبة والغنية بالمغذيات.
سابعا: تشجيع زراعة أصناف نباتية تتحمل الجفاف وتتأقلم مع البيئة المحلية، وتثمر مبكرا قبل بداية فصل الجفاف وتأثيره على المحاصيل، وتحتاج إلى قليل من المياه؛ مثل أصناف معينة من المشمش والخوخ واللوزيات...
ثامنا: تتحمل بعض المحاصيل الحرارة المرتفعة؛ لذا، ولمواجهة موجات الحر والجفاف المتتالية منذ بضع سنوات، يفترض الإسراع في تطوير أصناف من الحنطة والقمح أكثر مقاومة للجفاف. كما لا بد أن نعمل على تشجيع زراعة المحاصيل التقليدية، أو أصناف جديدة تتحمل الحرارة وتحتاج إلى قليل من العناية وتحقق فوائد اقتصادية وصحية وبيئية حقيقية للمزارعين، ويوجد عليها طلب في الأسواق المحلية والخارجية، ويمكن زراعتها بطرق عضوية؛ مثل الصبر والخروب والبلح والسمسم والأعشاب الطبية وغيرها.
تاسعا: تجنب زراعة المحاصيل بشكل اصطناعي في غير موسمها. وعندئذ، لن نواجه ظاهرة تلف محاصيل موسم الصيف التي تزرع في فصل الشتاء، بسبب البرد القارس والصقيع. فلماذا، على سبيل المثال لا الحصر، يصاب الخيار والبندورة المزروعان اصطناعيا في الشتاء وباستخدام أسمدة كيميائية سامة؛ بينما لا يتأثر القرنبيط (الزهرة) والملفوف والثوم من الصقيع، أو على الأقل تكون إصابتهم خفيفة؟ لقد تجسدت حكمة الطبيعة في توفير غطاء للقرنبيط وطبقات ورقية للملفوف وقشور للثوم يقيهم من الصقيع. وكذا طبيعة تكوين الحبوب المقاومة للبرد القارس والصقيع، كالعدس والقمح والشعير وغيرها.
عاشرا: لا بد من امتلاك المعرفة التي تتيح لنا إمكانية توقع التغيرات المناخية المحتملة في منطقتنا، وبالتالي الاستعداد لمواجهتها؛ لأن الزراعة لن تعاني بسبب تلك التغيرات بحد ذاتها، بل ستعاني أساسا بسبب عدم استعدادنا المناسب لمواجهة التغيرات. وفي حال معرفة المزارعين بوجود احتمال كبير لحدوث موجات حرارية، فيجب عليهم أخذ الاحتياطات وإتباع الوسائل الدفاعية وإنتاج أو شراء أصناف مقاومة للحرارة. فمقاومة الخضار للحرارة أمر في غاية الأهمية، وكلما كانت مقاومتها أكبر، كلما كان بالإمكان زراعتها في الظروف الحرارية القاسية.
|