المياه توحدنا
|
رسم الفنان الطفل محمد علي أبو طه من مدرسة رفح الأساسية ب |
د. أحمد صافي
خاص بآفاق البيئة والتنمية
وضحت الباحثة الأمريكية سارة روي في كتاباتها المتعددة عن الإقتصاد السياسي لتحطيم التنمية في قطاع غزة de-development) ) السبل والإستراتيجيات التي اتبعها الكيان الصهيوني لتدمير البنية الاقتصادية للقطاع وتحويله إلى كَنْتون معتمداً اعتماداً كلياً على الكيان الصهيوني اقتصادياً فاجتماعياً عبر سياسة ممنهجة من اعاقة التنمية، وإن أخذت شكل الإنتعاش الإقتصادي في بعض المراحل بسبب عمالة أعداد كبيرة من الفلسطينيين في دولة الكيان الإسرائيلي، لكن إعتمدت هذه المنهجية بشكل أساسي على تدمير البنية التحتية للقطاعات الإنتاجية الفلسطينية في القطاع، خصوصاً قطاع الزراعة وإضعاف قدرته على الصمود والإستمرارية وربطه بشكل عضوي بالإقتصاد الإسرائيلي، مع تضخيم دور العمالة في دولة الكيان بالإضافة إلى القطاعات الإقتصادية غير المنتجة والخدماتية. ولكن أبرز ما نبهت إليه الباحثة هو الإستراتيجية التي اتبعتها اسرائيل لفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية بشكل يكاد يتطابق تاريخيا مع توقيع وتنفيذ اتفاقية أوسلو في عام 1993. من ضمن ما ذكر في هذه المقالة أنه في العام 1993 كانت الضفة الغربية هي السوق الأكبر لمنتجات قطاع غزة الزراعية ولكن في العام 1979 انخفضت حركة البضائع من غزة إلى الضفة الغربية إلى الثلث لتصل إلى حوالى الصفر المطلق في العام 2000 وما تلاه. هذه الأرقام وغيرها مثلا عن عدد طلاب القطاع الدارسين في جامعات الضفة الغربية وبالعكس أو معدلات الزواج بين أهالي القطاع والضفة، توضح أن ما حدث في 2007 هو نتاج عمل ممنهج استمر عبر سنين طويلة بدون وعي منا أو إدراك كفلسطينيين وإن رأته أعين الباحثين المجدّين كالدكتورة سارة روي.
ولا بد من التذكير أن عملية الفصل تمت عبر سلسلة مدروسة من التضييقات على حرية الحركة للبضائع والأفراد تطورت من حيث الحجم والفعالية والأثر عبر السنين، حتى أصبحت فصلا تاماً لا ينقصه سوى رصاصة الرحمة التي أطلقتها الفصائل الفلسطينية بسخاء في عام 2007، وكانت كمن يطلق الرصاص على صدره.
بالطبع كان الفصل بين الضفة والقطاع يهدف بشكل أساسي إلى إضعاف القدرة الفلسطينية في عملية الاعتماد على الذات اقتصاديًا واجتماعيا وبالتالي سياسياً، وتعميق حدة الاعتماد على الكيان الصهيوني بكل شؤون الحياة لترسيخ حالة الضعف والعجز السياسي للفلسطينيين في مقابل سطوة دولة الكيان من سخرية القدر، إن النجاح منقطع النظير للسياسات الإسرائيلية أدى بالحالة الفلسطينية إلى وضع من السوء بحيث أن الحلول التكاملية وحدها هي الأرخص والأسهل والأقدر على معالجته. ولا تنطبق هذه المقاربة على شيء بقدر انطباقها على الواقع المائي في الضفة وغزة. فعلى الرغم من أن ملامح ومظاهر الإشكالات المائية تختلف في قطاع غزة عنها في الضفة، فإن جذور المشكلة واحدة وحلها واحد.
ففي الضفة الغربية وبقوة الأمر الواقع المدججة بأسلحة جيش الإحتلال ومؤسسات الإدارة المدنية، يتم منع الفلسطينيين من تطوير مصادرهم المائية أو استغلالها بشكل أكبر يتناسب مع النمو السكاني والاقتصادي خصوصاً في المنطقة جـ. فمثلا تمنع دولة الكيان الاسرائيلي الفلسطينيين من حفر أي بئر مياه جديد في حوض الخزان الجوفي الغربي وهو أكبر الخزانات الجوفية الجبلية على الإطلاق منذ عام 1967، في حين تقوم هي بسحب ما يزيد عن 18% زيادة عن حصتها المقررة في اتفاقة أوسلو من هذا الحوض. أما في الحوض الشرقي وهو يقع في الكامل ضمن أراضي الضفة الغربية فتتحكم اسرائيل بـ 143 مليون متر مكعب من مياه الآبار والعيون في هذا الحوض في حين أن استهلاك الفلسطينيين من هذا الحوض محدود بـ 10 ملايين متر مكعب فقط.
أما في الحوض الشمالي الشرقي فلا تسمح اسرائيل للفلسطينيين إلا بضخ 10.4 مليون متر مكعب في حين تضخ هي 131.4 مليون متر مكعب سنوياً. كانت نتيجة كل ذلك أن معدل استهلاك الفرد الفلسطيني محدود ب 70 لتراً للفرد في اليوم، في حين يصل معدل استهلاك الفرد الإسرائيلي إلى أكثر من 302 لتراً في اليوم. تصل هذا التفرقة إلى منتهاها في منطقة الأغوار حيث يصل معدل استهلاك المستوطن الإسرائيلي إلى أكثر من 430 لتراً في اليوم الواحد في حين يجبر المزارع الفلسطيني على العيش بأقل من 20 لتراً يومياً. وفي آخر دراسة لمؤسسة أكسفام قدرت المؤسسة خسارة الإقتصاد الفلسطيني بسبب عدم القدرة على استغلال المنطقة جـ زراعيا ب 1.2 بليون دولار أمريكي سنوياً.
أما في قطاع غزة فقد وصل الوضع المائي من السوء بحيث تساءلت الأمم المتحدة عن كون الحياة ممكنة في غزة في العام 2020. فالخزان الجوفي الساحلي لغزة يتجدد سنويا من مياه الأمطار بمقدار 50-60 مليون متر مكعب في حين يستهلك سكان القطاع ما يعادل 160 مليون متراً مكعباً سنويا مما يعني ضخ 100 مليون متراً مكعبا من المياه المخزنة منذ قرون في الحوض الجوفي. هذا الجور المستمر على الخزان الجوفي أدى إلى انخفاض حاد في منسوب المياه ونظراً لإقتراب الخزان من مياه البحر الأبيض المتوسط، فإن مياه البحر تتسرب إلى الخزان الجوفي المتآكل باستمرار لتعويض إنخفاض المنسوب، مما أدى ويؤدي بالضرورة لتلوث متزايد لمياه هذا الخزان. إنحدار جودة مياه الخزان الجوفي في غزة تتمثل بإزدياد معدلات الملوحة بشكل يتذوقه بمرارة كل سكان القطاع وكذلك معدلات الكلورايد والنيترات التي تهدد صحة أهالي القطاع بشتى أنواع الأمراض. اليوم 95% من مياه القطاع غير صالحة للشرب وربما 75% منها غير صالح لزراعة أنواع كثيرة من النباتات، مما يعني غياب إمكانيات الحياة والاقتصاد في القطاع. حسب تقرير الأمم المتحدة السابق ذكره، فإن الوضع المائي سيصبح غير قابل للإصلاح في 2016 في حال استمر الوضع على ما هو عليه.
بدراسة الوضع المائي في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة نجد أن الإحتلال الصهيوني في موقع المركز من حيث المسؤولية، فهو حرم ويحرم سكان الضفة الغربية من استخدام المياه التي يرسلها الله غيثا فوق أرضهم وتخزنها أرضهم. أما قطاع غزة فإن تهجير الفلسطينيين من أراضيهم في عام 1948 أثر أكثر ما أثر على هذا القطاع حيث تبلغ نسية اللاجئين من إجمالي عدد سكان القطاع حوالي 70% ، مما يعني أنه لولا الإحتلال لإسرائيلي لما كانت هناك مشكلة من الأساس في قطاع غزة على افتراض بقاء كل الظروف الأخرى كما هي منذ عام 1948. أضف إلى هذا السبب الأكبر وهو التضخم السكاني الغير طبيعي في منطقة محدودة المساحة والمصادر الطبيعية كنتاج للتهجير القسري للفلسطينيين، ولذلك فإن سرقة المياه الغزية لسنين طويلة إمتدت ما بين 1967-2005 من خلال عشرات المستوطنات الصهيونية التي احتلت حتى جلائها في 2005 حوالي 40% من مساحة القطاع، بحيث أرهقت الخزان الجوفي لغزة ووضعته على حافة ما نراه اليوم من انهيار. بل أنني أكاد أجزم أن الإنسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة ما تم إلا بعد التأكد أن القطاع مائيا ومن ثم زراعيا وبالتالي اقتصاديا على شفى الإنهيار النهائي.
الميزة الوحيدة في هذا الوضع هو أن الحل واحد وهو إدارة متكاملة لمياه الأراضي الفلسطينية في الضفة والقطاع لها الحق في استخدام كل مقدراتها المائية فوق كل ترابها. إن الحقوق المائية للفلسطينيين أصبحت حاجة لا يمكن تأجيلها لمفاوضات نهائية أو غيره بل هي حاجة انسانية ملحة. فبعد إعطاء الفلسطينيين حقوقهم المائية يصبح من السهل توصيل المياه من أراضي الضفة الفلسطينية إلى غزة، لتنتعش مرة أخرى الوحدة الفلسطينية برباط من وحدة الدم والمصير، وليس الشعارات التي لم تصمد في عام 2007.
|