مجلة الكترونية شهرية تصدر عن مركز العمل التنموي / معا
آذار 2013 - العدد 52
 
Untitled Document  

احتكارات وشركات صناعية تجند علماء وسياسيين ووسائل إعلام للدفاع عن منتجاتها الخطرة على الصحة العامة والبيئة
وتمارس ضغوطا هائلة على الحكومات لمنعها من حظر السلع الخطرة

ج. ك.
خاص بآفاق البيئة والتنمية

غالبا ما تجد الجهات الحكومية العاملة في المجال الصحي أو حماية البيئة  نفسها في صراع مستمر مع المصالح الاقتصادية للشركات والاحتكارات التجارية.  وقد تحاول بعض الأطراف الحكومية، بتغطية ودعم من منظمات مجتمعية ومدنية أحيانا، اتخاذ إجراءات وقائية وفرض قيود على استخدام منتجات مختلفة قد تتسبب بأضرار للبيئة والصحة العامة؛ إلا أن الشركات التجارية تدأب على الاعتراض أو التشكيك بالمصداقية العلمية والمهنية للتقديرات أو المواقف العلمية المتعلقة بمخاطر تلك المنتجات؛ زاعمة أن المعايير الرامية إلى فرض قيود عليها تزداد تشددا وصرامة دون مبرر.

في أواخر كانون ثاني الماضي، نشرت الوكالة الأوروبية لحماية البيئة تقريرا مثيرا بعنوان: "عِبَر متأخرة من إنذارات مبكرة: العلم، الحذر والابتكار"؛ ويحلل التقرير الخلفية التاريخية لمسألة التعامل مع المخاطر البيئية والصحية للسلع الصناعية.  ويعد هذا التقرير مكملا لوثيقة سابقة نشرت قبل نحو عشر سنوات وعالجت ذات المسألة.  أما التقرير الجديد فيهدف إلى تعزيز مبدأ "الحذر الوقائي"؛ إذ بحسب هذا المبدأ، فإن الحالات التي لا يوجد فيها دليل سببي واضح وقاطع للخطر الصحي والبيئي الذي قد تتسبب به سلعة معينة؛ فعندئذ أيضا يجب اتخاذ إجراءات وقائية تتضمن تشديدا كبيرا في المواصفات وفرض قيود على استعمال تلك السلعة أو التقنية المشكوك في مدى سلامتها البيئية والصحية.
وقد تضمن التقرير الأوروبي الأخير تحليل 88 حالة كان مطلوب فيها من السلطات في بلدان مختلفة، بأن تقيم مخاطر بعض المنتجات، وأن تتخذ بالتالي القرار المناسب بخصوص فرض إجراء وقائي من خلال مواصفة معينة.  وقد هدف معدو التقرير دراسة عدد الحالات التي تقرر فيها اتخاذ إجراء وقائي؛ وتبين لاحقا بأن المسألة كانت عبارة عن false positive ، أي أن الفحوصات العلمية وجدت فيما بعد عدم وجود خطر جدي.

ومن بين الأمور التي تضمنتها قائمة الحالات التي راجعها التقرير: التعرض للإسبستوس، إضافة الفلور إلى الماء، الأمطار الحمضية، الأشعة المنبعثة من الهواتف النقالة، ومخاطر الإصابة بأمراض مختلفة مثل السرطان والكوليرا وانفلونزا الخنازير.  وتبين من المعالجة التحليلية للتقرير بأنه في أربع حالات فقط (من أصل 88) يمكن القول بشكل قاطع بأن تقييم المخاطر كان خاطئا.  وبرزت حالتان من بين تلك الحالات الأربع، وهما استعمال الأشعة لتدمير المواد الضارة في الغذاء، واعتبار السَكَرين (من المحليات الاصطناعية) عاملا مسرطنا.  ورغم ذلك، كان لدى السلطات المعنية في هذه الحالات أيضا، أسبابها المعقولة لاتخاذ إجراءات وقائية.  فعلى سبيل المثال، قررت بعض السلطات الحكومية اعتبار السكرين مادة مسرطنة للحيوانات المخبرية، وذلك إثر تسجيل ارتفاع في نسبة الحالات السرطانية لدى الفئران المخبرية التي تعرضت لهذه المادة.  وآنذاك، لم يكن باستطاعة السلطات معرفة ما إذا كان خطر الإصابة بالسرطان ينطبق فقط على النوع المحدد الذي تم اختباره، أم على حيوانات مخبرية أخرى أيضا.  وقد ظهرت تلك المعطيات متأخرا، إثر تنفيذ أبحاث علمية إضافية.
وفي 33 من الحالات التي تم مراجعتها، تأكد وجود خطر حقيقي برر تدخل السلطات؛ كما في حالة منع استعمال الرصاص في الوقود، ما منع إصابة الأولاد بأمراض خطيرة؛ أو في حالة سن قانون في الولايات المتحدة لتقليل تلوث الهواء، ما منع الكثير من الأمراض والوفيات المبكرة؛ أو في حالات التدخين السلبي واستنفاد طبقة الأوزون والاحتباس الحراري.  ففي جميع هذه الحالات وغيرها كان يجب على السلطات المعنية التدخل لتقليل المخاطر.
يضاف إلى ذلك، وجود حالات لم تتمكن فيها الأبحاث العلمية بعد من الخروج باستنتاجات قاطعة حول مدى المخاطر التي تشكلها تلك الحالات.  ومن بين تلك الحالات الإشعاعات المنبعثة من الأجهزة الخلوية، مواد كيميائية مختلفة موجودة في منتجات التجميل، والأضرار الصحية الناجمة عن احتساء المشروبات الصناعية الخفيفة.  كذلك الأمر فيما يتعلق بالأغذية المعدلة وراثيا، وارتفاع الأمراض السرطانية لدى الأولاد الذين يقطنون بمحاذاة الطرق الرئيسية.
وفي مقابل حالات قليلة انطبق عليها ما يعرف بـِ false positive ، لاحظ التقرير أن في حالات كثيرة كانت هناك أسباب ومبررات وجيهة لاعتبار وجود مخاطر جدية من منتجات أو تقنيات معينة؛ إلا أن السلطات المعنية انتظرت سنوات طويلة قبل اتخاذ الإجراءات اللازمة.  وينطبق هذا الأمر على مسألة التعرض للإسبستوس، أو التعرض لمبيدات كيميائية معينة تسببت في العقم لدى العاملين في بساتين الفاكهة بأمريكا الوسطى.  وقد شكلت الضغوط الهائلة التي مارستها الأوساط الصناعية للاعتراض على والتشكيك بـِ مصداقية الأبحاث التي أثبتت وجود مخاطر،     أحد أهم أسباب مماطلة السلطات في اتخاذ القرار.  وأكد معدو التقرير بأنهم استنادا إلى "المعلومات التي كُشِف عنها بطرق مختلفة" باتوا يعرفون بأن "أصحاب المصالح التجارية جندوا علماء وسياسيين ووسائل إعلام للدفاع عن منتجاتهم"!    

وأعرب معدو التقرير عن مخاوفهم من الحالات التي لا تتخذ فيها السلطات المختصة بالصحة والبيئة الإجراءات الوقائية اللازمة لمنع المخاطر، وذلك أكثر من الحالات التي تضمنت "تشددا زائدا في المواصفات".  وأشار التقرير إلى أنه حتى في الحالات التي اتخذت فيها إجراءات لمنع مخاطر معينة لم تتحقق؛ فكان لذلك نتائج إيجابية، من حيث أن تلك الإجراءات شجعت الابتكارات العلمية والتكنولوجية، سعيا للتعامل مع القضايا المتصلة بالمخاطر المحتملة.  بينما الحالات التي لم تتخذ فيها الإجراءات اللازمة، فكانت النتيجة تكلفة صحية وبيئية كبيرة جدا.
وفي السنوات القادمة، ستكون مواجهة المخاطر أكثر تعقيدا، بسبب تزايد عدد التقنيات الحديثة وزيادة تعقيدها وتأثيراتها المتراكمة على الأنظمة الإيكولوجية؛ ما قد يؤدي إلى مخاطر جدية مثل الصعوبات المتعاظمة لتوفير الغذاء والمياه، وانهيار مجموعات من الحيوانات والكائنات البرية، كالنحل مثلا . 
إذن، يجب على مسؤولي صحة الجمهور أن يشقوا طريقهم في نطاقات عدم اليقين؛ في الوقت الذي يتحركون فيه بين الحاجة لمنع الأضرار على الجمهور والبيئة، وبين مصالح الشركات والرأسماليين الذين يهمهم بالدرجة الأولى ضمان المزيد من المداخيل والأرباح؛ وينجحون أحيانا في "إقناع" الجهات الحكومية، بل وإقناع أنفسهم، بأنهم لا يشكلون خطرا على أحد.

التعليقات
الأسم
البريد الألكتروني
التعليق
 
 

 

 
 
الصفحة الرئيسية | ارشيف المجلة | افاق البيئة والتنمية