: منبر البيئة والتنمية
أمراض "نمط الحياة" أكثر فتكاً من الأوبئة
حبيب معلوف / بيروت
لطالما اعتبر المدافعون عن أفكار التقدم والطب الحديث أن مؤشر الصحة يتقدم في العالم بمجرد حصول نقص في وفيات الأطفال وبمجرد تراجع الأمراض المعدية وزيادة متوسط عمر الإنسان. وإذ يبدو كل ذلك صحيحاً في الظاهر، فهو لا يخلو من المبالغة والتضليل في العمق. لذلك يفترض بالمدقق أكثر، أن يشكك في الأرقام وطرق القياس والرصد... وفي معنى الصحة أيضاً. صحيح أن متوسط الأعمار قد زاد منذ السبعينيات، إلا أن العودة إلى زمن ابعد، قبل الثورة الصناعية على سبيل المثال، قد يكشف أن الإنسان كان يعمر أكثر بكثير. وإذا كان صحيحاً أيضاً أن الأمراض المعدية لم تعد هي الطاغية على مستويات الصحة والمرض والوفيات في العالم، فإن الأمراض غير المعدية، او كما تسمّى "أمراض نمط الحياة" مثل السرطان وأمراض القلب والشرايين والسكتات الدماغية... باتت أكثر بكثير أيضاً. وإذا دققنا أكثر، يمكن أن نكتشف أن الأمراض في العالم ترتبط بنوعية الحياة وبالجغرافيا والبيئة وبمعدلات الفقر وبمدى "تطور" المجتمعات... الخ إلا أننا نستطيع أن نستنتج بسرعة أن الأمراض المرتبطة بالمخاطر الكبرى كالملاريا أو الإيدز هي أكثر انتشاراً في أفريقيا، وأن أمراض السكتة الدماغية والسرطان وأمراض القلب هي أكثر في أميركا الشمالية وغرب أوروبا، أي في البلدان المصنفة أكثر تقدماً في أشياء كثيرة، بينها الطب.
لكن دراسات جديدة بدأت تظهر أن الأمراض المعدية تراجعت فعلاً في العالم بشكل عام، مع تقدم ملحوظ في "أمراض العصر" التي غزت مدن البلدان النامية أيضاً .
لقد كشفت دراسة جديدة برعاية معهد القياسات الصحية والتقييم بجامعة واشنطن، أن أنماط الوفيات ونسبة انتشار الأمراض تتغير بسرعة حول العالم. وأن 25% من الوفيات في العالم هي نتيجة للأمراض المعدية وأسباب مرتبطة بالتغذية والصحة النفسية والولادة الحديثة. وأن أكثر من 65% من الوفيات نتيجة لظروف غير معدية، وأقل من 10% فقط نتيجة للإصابات التي تكون غالبيتها في الأماكن الأكثر فقراً في العالم.
يمكن التشكيك في الرقم الأخير بالطبع، وذلك لضعف آليات الرصد وعدم وجود بيانات صحية كافية في المناطق الفقيرة في العالم. فلطالما أكدت منظمة الصحة العالمية في تقاريرها بأن ما يقارب ثلثي دول العالم فقط تملك نظم تسجيل صحية وتقوم بتسجيل المواليد والوفيات بصورة كافية لتقدير معدلات الوفيات نتيجة الأسباب المختلفة. وقد لاحظت منظمة الصحة العالمية في آخر تقرير صادر عنها في آذار 2012 أن 74 دولة في العالم تفتقر إلى البيانات الخاصة بأسباب الوفاة، في حين أن 81 دولة أخرى لديها بيانات ذات جودة أقل، إلا أن كل ذلك لا يغير في النتيجة الأولية حول مؤشرات الصحة العالمية، التي تدل على تراجع أسباب الوفاة بسبب الأوبئة وتقدم كبير في أعداد الوفيات الناجمة عن نمط الحياة العصرية التي تتسبب بالسمنة وانسداد الشرايين... هذا إذا استثنينا بالطبع الوفيات الناجمة عن الحروب أو عن الأمراض المرتبطة بنتائج الحروب .
ولكن السؤال الأكثر إثارة الذي يمليه هذا الواقع هو: ما الذي نعنيه بأمراض "نمط الحياة"؟ عن أية حياة نتحدث؟ أليست تلك الحياة العصرية التي طالما تم وصفها بـ"الرفاهية"، والتي اعتبرت أنشودة النظم الليبرالية الحديثة؟ أليست تلك التي يستهلك ناسها الكثير من اللحوم والسكاكر على حساب قدرة الأرض على انتاج المياه والحبوب؟ أليست حياة أولئك المتحضرين الذين يرمون أكثر من ثلث الغذاء العالمي في القمامة من التخمة... وكل ذلك على حساب موارد الطبيعة وقدرتها على التجدد، وعلى حساب وحقوق النوع الإنساني عامة والأجيال الآتية أيضاً؟ أليست حياة الأفراد الذين يعيشون في عالم تحيط به آلاف المواد الكيميائية المصنفة مسرطنة والتي باتت جزءاً من الحياة اليومية؟
ثم عن أية صحة نتحدث؟ أليست تلك المرتهنة للسوق واقتصاده المتحرر من كل قيد بيئي وأخلاقي؟ أليست تلك الصحة المرتهنة لمصالح مصنعي وتجار التكنولوجيا الطبية والأدوية الكيميائية؟
فعندما تصبح أمراض "نمط الحياة" أكثر فتكاً من الأوبئة ما قبل التطور والتقدم الطبي، ألا يفترض أن نبحث عن معنى جديد للتقدم اولاً وعن معنى الصحة ثانياً... قبل أن يحين موعد طرح الأسئلة المتعلقة بمعنى الحياة ثالثاً؟
|