سيصبح أثراً بعد عين: "وادي قانا" على وشك "التهويد"
|
وادي قانا من أجمل المناطق الطبيعية في الضفة الغربية |
رائد جمال موقدي
خاص بآفاق البيئة والتنمية
ارتبط اسمها بالخضرة ووفرة الماء، كأنها أنشودة جميلة في ريفنا الجميل، فهي تجسد واقع عظمة الله على الأرض، فقد كانت مقصد الزوار والباحثين عن يوم جميل بين أحضان الطبيعة الغنية بالتنوع الحيوي ووفرة النباتات المختلفة الأنواع والأشكال فيها، ما منحها خاصية تتميز بها عن باقي المناطق والقرى الفلسطينية. لكن مع هذا كله، تعد منطقة "وادي قانا" التابعة لمحافظة سلفيت ضحية من ضحايا الاحتلال الإسرائيلي، حيث وضع في صلب أجندته السيطرة على مقدرات المنطقة ونهبها وحتى تحريفها بما يتناسب مع مطامعه التي لا تنتهي.
إجراءات تحد من الوجود الفلسطيني
لم يدخر الاحتلال الإسرائيلي جهدا في أحكام السيطرة على أراضي منطقة "وادي قانا"، فسن من القوانين والتشريعات ما يكفل السيطرة التامة عليه، بما يضمن الحد من التواجد الفلسطيني فيه.
ومن ضمن هذه الإجراءات الإعلان عن منطقة "وادي قانا" كمحمية طبيعية يمنع تغيير معالمها على امتداد 10 آلاف دونم، وللأسف الشديد استغل الاحتلال اتفاقية "أوسلو" في تكريس هذا الواقع الأليم، كون الاتفاق أعطى الشرعية للاحتلال بالتصرف في أراضي الوادي، ما كان له بالغ الأثر على المزارعين من بلدة "دير إستيا"، حيث حرموا من مجرد التواجد في أراضيهم في أحيان كثيرة، وبالتالي تقلص عدد المزارعين في الوادي من أكثر من 500 مزارع إلى بضع عشرات.
وخلال الأعوام القليلة الماضية، ضرب الاحتلال جميع المشاريع الزراعية التي تنفذها المؤسسات الزراعية الناشطة في المنطقة، والهادفة إلى إعادة تثبيت المزارع فوق أرضه عبر إعادة زراعة مساحات كبيرة من الوادي بأشجار الزيتون والأشجار المثمرة، إلا أن هذا لم يرق للاحتلال الذي ابتكر خدعة جديدة يراد بها ضرب كل المشاريع التي تهدف للنهوض بالوادي، فكان قانون "إخلاء الأراضي وإعادتها إلى سابق عهدها بحجة أنها أراضي دولة"، إحدى الطرق التي برزت على السطح خلال الأعوام القليلة الماضية، حيث أراد الاحتلال من وراء هذا القانون، خلع الوجود الفلسطيني بشكل جدري من أرضه التي ورثها أباً عن جد ويمتلك من الأوراق الرسمية ما يؤكد ملكيته لها.
من جهته أكد السيد نظمي السلمان رئيس بلدية ديرستيا لمجلة آفاق البيئة والتنمية "أن هذا القانون هو استنباط للقوانين والتشريعات التي كانت سائدة زمن الحكم العثماني، حيث كان متبعاً آنذاك: "كل مزارع لا يستغل أرضه لمدة تزيد عن خمسة أعوام، يؤدي إلى تحويلها لـ أراضي دولة"، حيث استغل الاحتلال هذا الجانب فسن من القوانين ما يعرف بالمناطق العازلة أو ما اصطلح هو على تسميتها المناطق الأمنية المحيطة بالمستوطنات في منطقة "وادي قانا"، وأخذ على عاتقه منع المزارعين بأي شكل من الأشكال الاقتراب من تلك المناطق المقدرة بمئات الدونمات المزروعة بالزيتون واتخذ من الإجراءات ما يكفل ذلك، والآن وبعد خمس سنوات يعلن عن تلك الأراضي بأنها "أراضي دولة"، ويسن من إخطارات الإخلاء لتلك الأراضي ما يكفل خلع الوجود الفلسطيني عنها بشكل كامل".
|
وادي قانا ومن تبقى من مزارعيه مستهدفون يوميا من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي |
بين مطرقة المستوطنين وسندان جيش الاحتلال
من جهته أكد المزارع هيثم حسن منصور وهو أحد المتضررين من إخطارات الإخلاء في "وادي قانا" أن المزارع الفلسطيني هناك واقع بين مطرقة جيش الاحتلال وسلطة حماية الطبيعة الإسرائيلية من جانب، وسندان قطعان المستوطنين من جانب آخر، فالمستوطنون يصعّدون عملية ملاحقة الوجود الفلسطيني في الوادي، فهناك عملية اعتداءات شبه يومية تتم بشكل منظم من قبلهم عبر قطع عدد كبير من أشجار الزيتون وتهديد السكان بالقتل والطرد، وأحيانا وضع الأسيجة على محيط الأراضي الفلسطينية في الوادي.
وأضاف: "أما جيش الاحتلال فقد القى على عاتقه حماية المستوطنين، وتأتي سلطة حماية الطبيعة الإسرائيلية لتسن من القوانين ما يحذر الفلسطينيين من زراعة أية شجرة بحجة المحافظة على التنوع البيئي في الوادي".
وذكّر المزارع منصور قيام مجموعة من المستوطنين باقتلاع ما يزيد عن 50 غرسة زيتون من أرضه التي تقع على الطريق المؤدي إلى مستوطنة "كرتي شمرون -"وادي قانا"، فما كان من شرطة الاحتلال إلا تأمين الغطاء القانوني لهؤلاء المستوطنين والتستر على فعلتهم النكراء، وبعد عدة أشهر وعند محاولته زراعة أرضه من جديد، تفاجأ بقيام سلطة البيئة بإخطاره إخلاء أرضه وعدم زراعتها، كون الأشجار الصغيرة تغير من معالم المحمية الطبيعية كما يصفها الاحتلال.
وبعد أيام قليلة تفاجأ المزارع منصور بإخطار يتضمن إخلاء أرضه وإعادتها لسابق عهدها، بحجة أنها أراضي دولة على الرغم من انتزاع المزارع قبل عدة سنوات لقرارٍ من محكمة العدل العليا الإسرائيلية يؤكد ملكيته للأرض، ما عكس التخبط في قرارات مؤسسة الاحتلال التي تنحاز لسرقة الأرض وتجريد المزارع الفلسطيني من ابسط حقوقه الإنسانية، حيث أن حال المزارع هيثم منصور يعكس حال جميع المزارعين الفلسطينيين في "وادي قانا".
سرقة المقدرات الأثرية
يشار إلى أن الأرض ليست هدفاً فقط لمخططات الاحتلال، فمنطقة "وادي قانا" عرفت منذ القدم بوفرة الآثار الرومانية والبيزنطية، بالإضافة إلى وفرة المقامات الإسلامية التي تنتشر في المنطقة مثل مقام الشيخ حسين ومقام الشيخ خاصر، فالاحتلال لم يكتف بسرقة الأرض، بل حتى المقامات الدينية والخرب الأثرية تحديدا خربة أبو شحاده وخربة صحصح الرومانية أصبحت أيضا هدفاً للاحتلال.
وتتم بشكل منتظم أيضاً، عملية سرقة الآثار في "وادي قانا"، فما يحدث في خربة شحادة الرومانية اكبر شاهد على ذلك، حيث تتوسط الخربة مجموعة من المستوطنات الإسرائيلية التي من أبرزها مستوطنة "نوفيم" ومستوطنة "ياكير"، و"حفات ياكير".. هذه المستوطنات قد تكفلت بسرقة الآثار في تلك المنطقة، ونقلها إلى داخلها، حيث تعيد بناءها من جديد بهدف تحريف الواقع وتزييف التاريخ بعد تغيير معالم تلك الآثار، لإعطاء صفة شرعية على وجود الاستيطان في المنطقة.
الينابيع المائية آخذة بالاضمحلال، وتحل مكانها مجاري المستوطنات
تجدر الإشارة إلى أن منطقة "وادي قانا" كانت تشتهر في السابق بوجود أحد عشر نبعا للمياه، من أبرزها (عين الحية، وعين المعاصر، وعين الجوزة، وعين الفوار، وعين البصة، وعين التنور، وعين أبو شحادة)، وتوجد عيون خارج الوادي وعيون في المنطقة، كانت تساهم لفترة ليست ببعيدة بإضفاء منظر جمالي في المنطقة كما اعتبرت مقصدا للأطفال بهدف السباحة واللهو، ومصدرا لسد عطش الأغنام بعد نهار طويل في الرعي والبحث عن الطعام، حيث تعد مياه الأمطار مصدراً لتغذية تلك الينابيع بعد سقوطها ومرورها عبر السلاسل الجبلية.
ومع هذا، لم تسلم تلك الينابيع من الاحتلال الذي جفف معظمها بفعل الآبار التي يحفرها، فلم يتبقَ غير نبعين أو ثلاثة في طريقهم إلى الاضمحلال مع مرور الوقت إذا تركوا تحت قبضة المستوطنين ومخططاتهم، وبهذا ستفقد المنطقة موردا أساسيا من الموارد المائية، ما سيؤثر على التنوع البيئي والحيوي، وهذا ما أكده الخبير في التنوع الحيوي في جامعة جنين الأمريكية الأستاذ بنان الشيخ، حيث أشار إلى أن هناك خطراً حقيقياً على الوجود النباتي وتنوع بعض النباتات الطبية النادرة التي يمتاز بها الوادي، وذلك بسبب قلة الأمطار وعمليات التجريف التي يمارسها الاحتلال، ما من شأنه أن يفقد الوادي رونقه الخاص وطابعه الجمالي والفريد من نوعه في مجال التنوع النباتي.
وبموازاة ذلك كله لا يتوانى المستوطنون في ضخ مياه الصرف الصحي انطلاقا من مستوطنة "رفافا" عبر بعض العبّارات المهترئة التي تنقل مياهها الملوثة إلى الوديان والأراضي الزراعية في "وادي قانا"، ما ينعكس على واقع المنطقة التي تحولت إلى مكرهة صحية وأضحت مصدراً لجذب الحشرات الناقلة للأمراض والقوارض المختلفة، ناهيك عن الخنازير البرية التي تنتشر هنا وهناك، وتدمر الغرس وتعرض حياة المزارعين في منطقة "وادي قانا" للخطر المحدق.
عدا عن ذلك، تعد المخلفات السائلة المنطلقة من مصانع "عمانوئيل" تجاه قلب الوادي ذات تأثير بالغ السمّية على التربة الزراعية، فبحسب إفادة السيد ثابت بشير رئيس مجلس قروي جينصافوط التابعة لمحافظة قلقيلية، فإن بعض المصانع التي تقع ضمن مستوطنة "عمانوئيل" خاصة مصنع المخللات، تقوم بضخ المخلفات السائلة بكميات كبيرة صوب أراضي المزارعين في "وادي قانا" دون إبداء أي اهتمام من قبل الاحتلال الذي يدعي الحرص على البيئة في المنطقة بصفتها محمية طبيعية.
|
التوسع الاستعماري الاسمنتي في أجمل وأخصب بقاع وادي قانا |
الاستيطان عقبة أساسية في وجه تطور الوادي
يذكر أن الاستيطان الإسرائيلي خطر ومعضلة حقيقة يعاني منها المزارعون في "وادي قانا"، فقد أقيمت على أراضي الوادي وعلى الأراضي المطلة عليه سبع مستعمرات: عمانوئيل من الشرق، وتحاصره من ناحية الجنوب مستوطنات (يا كير)، وبالقرب منها مستوطنة (نوفيم)، ومن الجهة الشمالية تحاصر المستعمرات الثلاث "كرتي شمرون"، و"جنات شمرون" و"معالي شمرون" الوادي من ناحية الشمال، كذلك مستوطنة "رفافا" من الجهة الغربية، علاوةً على أبراج المراقبة العسكرية والطرق العسكرية التي تلتهم مساحات واسعة.
يذكر أن هذه المستوطنات تشكل عقبة رئيسية أمام أي تسوية سياسية مستقبلية، بالإضافة إلى خطر الاستيطان في ابتلاع الأخضر واليابس في الوادي، في حين يحرم المزارعون من مجرد غرس الأشجار في الوادي المهدد بالتهويد، في صورة تعكس الطابع الحقيقي للاحتلال.
دور مؤسسات المجتمع المدني للوقوف في وجه سياسة التهويد
الآن وبعد مرور ما يقارب العشرين عاما من اتفاق "أوسلو"، تبقى عملية التهويد لأراضي الوادي مستمرة وبوتيرة عالية دون إبداء الاهتمام اللازم من مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني، فهناك تقصير واضح من قبل وزارة التربية والتعليم في تعريف الطلبة على الوادي عبر الرحلات المدرسية أو التطرق له في المناهج الدراسية، وبموازاة ذلك، هناك ضعف من قبل المسؤولين وصانعي القرار، في التحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أراضي الوادي المهدد من قبل الاحتلال، فاتفاقية أوسلو حولت أراضيه إلى ما يسمى مناطق "جـ"، عدا عن الاتفاق بأن الوادي محمية طبيعية تقع تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة.
|