لأول مرة منذ نحو عشر سنوات: الأمطار هذا العام ستتجاوز المعدل السنوي
في كانون ثاني المنصرم: أكبر عدد أيام ماطرة خلال شهر واحد منذ عام 1947 والأمطار في شمال فلسطين أكبر بمرتين من المعدل السنوي في ذات الشهر
البرد القارس والصقيع ظواهر مألوفة ولا علاقة لها بالتغير المناخي
التغير الحقيقي ليس في الأنماط المناخية بل في أنماط حياة الناس واستهلاكهم
جورج كرزم
خاص بآفاق البيئة والتنمية
كان عدد الأيام الماطرة في شهر كانون ثاني المنصرم هو الأكبر، خلال شهر واحد، منذ أن بدأت عملية القياس المنظم للمتساقطات في فلسطين. ففي بعض المناطق الشمالية سُجِّل هطول المطر في 29 يوما في شهر كانون ثاني من أصل 31 يوما. وبحسب تعريف خبراء الأرصاد في فلسطين، اليوم الماطر هو ذاك الذي تُسَجَّل فيه 0.1 مليمتر من المطر فأكثر. وبناء عليه، وثقت معظم محطات تسجيل المطر في المناطق الشمالية 26 يوماً ماطرا فأكثر، وذلك قياسا بالرقم القياسي السابق، وتحديدا 25 يوما سجل في كانون ثاني عام 1947. وقد تجاوز هذا الرقم ما سجل في عامي 1969 و1992 اللذين اعتبرا الأكثر مطرا منذ بدء توثيق كميات الأمطار؛ إذ سجل 24 يوما ماطرا في كانون ثاني من سنة 1969، كما سجل 24 يوما ماطرا في شباط 1992. وينسحب الرقم القياسي في عدد الأيام الماطرة على كميات الأمطار أيضا. ففي جنين والمناطق الشمالية وصولا إلى حيفا والناصرة والجليل، تراوحت كميات الأمطار خلال شهر كانون ثاني، بين 250 إلى 300 مليمتر؛ ما يعد أكبر بـ 1.5 – 2 مرة من المعدل السنوي التراكمي للمتساقطات في ذات الشهر. بينما اقتربت كميات الأمطار في المناطق الجبلية والوسطى من المعدل التراكمي. أما في المناطق الجنوبية مثل الخليل والنقب فقد ظلت كميات الأمطار أقل من المعدل. وبالرغم من أهمية هذه المعطيات من الناحية الإحصائية، إلا أنه لا يمكننا أن نستنتج منها معالم الاتجاهات المناخية المستقبلية.
وللمقارنة، اقتربت كمية الأمطار في العام الماضي (2011) في المناطق الشمالية من المعدل السنوي التراكمي، بل تجاوزته في بعض المواقع؛ بينما اعتبر فصل الشتاء بذات العام في القدس-رام الله وجبال المناطق الوسطى الأكثر جفافا منذ عام 1998، وبلغت كمية الأمطار فيها حتى 27 آذار (2011) نحو 300 مليمترا، أي أقل من 60% من المعدل الطبيعي حتى هذه الفترة.
وعلى سبيل المثال، هطلت في أواخر شباط العام الماضي (2011) بشمال فلسطين، كميات غزيرة من الأمطار؛ لدرجة أن كمية الأمطار في بعض المناطق الشمالية، بلغت، خلال يوم واحد (في 26 شباط 2011)، أكثر من 45 مليمترا. وفي ذات اليوم، لم تنهمر قطرة واحدة في المناطق الوسطى والجنوبية. وقد تكررت هذه الظاهرة طيلة شتاء 2010-2011؛ بمعنى أن فلسطين انشطرت آنذاك، من الناحية المطرية، إلى شطرين: المناطق الشمالية التي هطلت فيها كميات مُرْضِيَة من الأمطار وقريبة من المعدل السنوي، والمناطق الوسطى والجنوبية؛ وبخاصة تلك الواقعة جنوب خط طولكرم حيث كان الوضع المطري فيها سيئا والميزانية المائية متردية. وحتى 27 آذار 2011 لم تتجاوز كميات الأمطار في المناطق الجبلية بنابلس ورام الله والقدس 60% من المعدل السنوي المعتاد حتى ذات الفترة، و55% من المعدل السنوي الكلي.
وخلافا لشتاء هذا العام الذي برز فيه شهر كانون ثاني باعتباره الأكثر مطرا، كان شهر شباط، في السنوات الأخيرة، هو الأكثر مطرا بين أشهر المطر الأساسية. وبالرغم من هطول الأمطار خلال بضعة أيام في شهر شباط المنصرم (2012)، إلا أن الكمية كانت أقل من شباط العام الماضي (2011). ففي الفترة 1 شباط-21 شباط 2012 تجاوزت كمية الأمطار في المناطق الشمالية 150 مليمتر؛ أما في المناطق الوسطى فتجاوزت المائة ملمتر في ذات الفترة. ومنذ مطلع شتاء هذا العام ولغاية 21 شباط الأخير، هطلت في شمال فلسطين أكثر من 540 مليمتر من أصل 539 مليمتر هو معدل الأمطار السنوي التراكمي، ما يعني تجاوز المعدل السنوي. أما في القدس والمناطق الوسطى فقد تجاوزت الكمية 400 مليميتر من أصل 537 مليمتر (المعدل السنوي التراكمي)، أي نحو 75% من إجمالي المعدل السنوي.
إذن، يمكننا الجزم بأن كمية الأمطار لشتاء هذا العام في فلسطين التاريخية، ستتجاوز المعدل السنوي التراكمي، وذلك لأول مرة منذ نحو عشر سنوات.
الأمثال الشعبية خير راصد جوي
تَسَرَّع البعض بإسقاط الوضع المطري الشحيح الذي ساد في السنوات الأخيرة على التغير المناخي. ولم يكتف هذا البعض بهذا الإسقاط الميكانيكي غير المدروس للحالة المطرية، بل سحبه (أي الإسقاط) أيضا على ظاهرة الصقيع المعروفة في المشرق العربي منذ آلاف السنين، والتي تحدث تحديدا بين أوائل وأواسط كانون ثاني من كل عام. فمع مجيء أواخر كانون أول وأوائل كانون ثاني من كل عام، يكرر العديد من الناس على مسامعنا ذات الإسطوانة حول موجة الصقيع التي تضرب منطقتنا سنويا في ذات الفترة تقريبا؛ بقولهم إن هذه الموجة غير طبيعية ولا مثيل لها وهي الأولى من نوعها في شدتها. بل يعزوها البعض الآخر إلى ظاهرة التغير المناخي التي تجتاح الكرة الأرضية!
الحقيقة أن موجات البرد القارس والصقيع، بل وانحباس المطر، تعد ظواهر مناخية مألوفة وطبيعية في منطقتنا، منذ مئات السنين، ولم يطرأ عليها لغاية الان، أي تغير جوهري نوعي غير طبيعي. بل، لو أجرينا مسحا مناخيا لمنطقتنا، منذ أن بدأت عملية توثيق حالة الطقس، سنجد بأنه قبل عشرات السنين، كانت الطبيعة أحيانا، تقسو أكثر من المواسم المطرية التي شهدناها في السنوات الأخيرة. وما يؤكد ذلك الأمثال الشعبية العربية التي تعد بمثابة راصد جوي شعبي، وهي حصيلة التراث الشعبي وتراكم التجارب والمعارف والخبرات الغنية لأجدادنا، عبر مئات السنين، وبخاصة تلك الأمثال المتصلة بالمواسم الزراعية والأعياد في بلاد الشام. ففيما يتصل بالصقيع، يقول أحد هذه الأمثال: "بين المولود والمعمود بتوقف المي عمود". أي أنه في الفترة الممتدة بين عيد الميلاد المجيد (في 7 كانون ثاني من كل عام حسب التقويم المسيحي العربي الشرقي) ولغاية عيد الغطاس (في 19 كانون ثاني حسب التقويم المسيحي الشرقي) تجمد المياه في مكانها؛ فتقف جامدة كما هي! أي أن تَكَوُّن الصقيع يكون، بالعادة، في الفترة الممتدة بين أوائل وأواسط كانون ثاني. وبسبب موجات البرد القارس والصقيع التي تجتاح منطقتنا في ذات الفترة، والمصحوبة أحيانا بأمطار غزيرة، تتأثر حركة الناس ونشاطها. لذا، تنصح أمثالنا الشعبية المتوارثة الناس بأن تتقوقع (أو "تُكَنْكِن" بالعامية) في منازلها، انسجاما مع قوانين الطبيعة وليس قوانين السوق؛ وهذا يعني التقليل من حركتنا وساعات عملنا، أو ساعات دوام أطفالنا في المدرسة؛ فيقول المثل: "ما بين ميلاده والغطاس لا تسافر يا ابن الناس"!، بل، ونظرا لجدية الموقف المناخي وحساسيته، يأمر مثل آخر الناس بفظاظة، بأن لا تغادر منازلها: "في كانون الأصم فوت عَ بيتك وانطم"! وفي الواقع، يعد البرد القارس والصقيع في كانون طبيعيا وضروريا للأشجار المثمرة؛ لأن درجات الحرارة المرتفعة في كانون تضر الأشجار المثمرة ضررا كبيرا؛ إذ تتبرعم وتزهر مبكراً قبل أوانها. ومن هنا المثل القائل: "يا لوز يا مجنون بتزهر في كانون"، أي أن أشجار اللوز هي أول من يزهر بين الأشجار المثمرة، فتسبق في إزهارها سائر الأشجار...وهذا، على أي حال، يذكرنا ببدء تجدد الحياة في الأشجار.
وبالرغم من موجات الجفاف وانحباس الأمطار التي شهدتها منطقتنا، إجمالا، في السنوات الثماني الأخيرة (ما قبل موسم الشتاء لهذا العام)؛ فلا يمكننا إسقاط هذه الظاهرة أوتوماتيكيا على التسخين العالمي، والجزم القطعي بأن سبب هذه الظاهرة هو التغير المناخي، بدليل أن شهر كانون ثاني الأخير (2012) في فلسطين، وبمقارنته مع ذات الشهر في عشرات السنين التي سبقته، ضرب رقما قياسيا في كميات الأمطار التي هطلت بغزارة. بل وأكثر من ذلك؛ فمن المعروف، وفقا للتراث المناخي في بلاد الشام (فلسطين، لبنان، سوريا والأردن)، أن شهر كانون ثاني قد يكون ماطرا جدا أو جافا جدا. وهذا ما يميز فترة "المربعانية" التي تمتد أربعين يوما (من 22 كانون أول وحتى 31 كانون ثاني)، ويشتد فيها البرد القارس، وتسقط الثلوج في بعض المناطق، وليس بالضرورة أن تكون الأمطار غزيرة؛ بل وقد تكون، أحيانا، شحيحة جدا. وهذا ما تؤكده أمثالنا الشعبية، من قبيل: "المربعانية يا شمس تحرق يا مطر يغرق"! أو: "المربعانية يا بتربع يا بتقبع"! وإذا ما شح المطر في شباط، فقد يعوضه بعض المطر في آذار؛ وهذا ما يعرف بتراثنا المناخي بالمستقرضات. والمستقرضات عبارة عن سبعة أيام، ثلاثة من شباط وأربعة من آذار، وسميت بهذا الإسم لأن شهر شباط الذي يعد أقصر أشهر السنة، "يستقرض" بعض الأيام من شهر آذار كي يطيل عمره؛ فيهطل مزيدا من المطر. وهذا ما يجسده المثل التالي الذي "يخاطب" فيه شهر شباط، شهر آذار الذي يليه: "آذار يا بن عمي أربعة منك وثلاثة مني ويا ويلك ياعجوز السوء مني"! أو المثل التالي الذي يتضمن ذات المعنى: "إذا تأخر المطر في شباط عليك بالمستقرضات"! أو لمَ نلاحظ هذه الظاهرة تحديدا، في أواخر شهر شباط الأخير وأوائل شهر آذار الحالي؟!
وبالرغم مما ورد، لا بد أن نراقب بعض التغيرات في درجات الحرارة وفي توزيع الكميات المطرية بمنطقتنا، بحسب الأبحاث المناخية الأخيرة. لكن هذا لا يعني أن نستنتج استنتاجات مطلقة وقطعية ونهائية حول الأوضاع المناخية في منطقتنا.
ويمكننا في هذا الصدد، أن نذكر البحث الذي نشر في المجلة العلمية "climatic change "، والذي بين أن كميات المتساقطات في الساحل الفلسطيني بقيت، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ثابتة إلى حد كبير. بينما أخذت كميات الأمطار تنخفض بشكل جدي كلما اتجهنا شرقا، أي نحو داخل فلسطين. ولو أضفنا إلى ذلك ارتفاع درجات الحرارة، فسنجد ارتفاعا كبيرا في مؤشر الجفاف؛ وبخاصة في المناطق الشرقية والجنوبية، وهي ذات المناطق التي تميزت باتجاهها نحو الجفاف، بل، ومع الوقت، أخذت تتحول إلى مناطق جافة جدا. وبحسب ذات الدراسة، وباستثناء منطقة الساحل، أصبحت فلسطين، خلال العقود الأخيرة، أكثر جفافا.
حكمة الطبيعة
كما نلاحظ، لم يطرأ تغير نوعي خطير على الأنماط المناخية في منطقتنا، وذلك بالرغم من شح الأمطار والجفاف اللذين عانينا منها طوال بضع سنوات مضت. بل، ما تغير في الواقع هو الناس وأنماط حياتهم واستهلاكهم عموما. فخلال السنوات الأخيرة، تتكرر كل عام تقريبا ظاهرة تلف بعض أصناف المزروعات بسبب الصقيع، بما في ذلك المحاصيل في الدفيئات البلاستيكية. لكن، لو دققنا في طبيعة المحاصيل التي يتكرر تلفها بسبب الصقيع، نجدها أساسا من مجموعة المحاصيل الصيفية التي تزرع في الشتاء، أي تزرع بشكل اصطناعي في غير أوانها. فمحاصيل الصيف أصبحت تزرع شتاءً في الدفيئات. لماذا إذن، يصاب العديد منا بالدهشة حين تتلف محاصيل موسم الصيف التي تزرع في فصل الشتاء؟! لماذا يصاب الخيار والبندورة المزروعون اصطناعيا في الشتاء وباستخدام أسمدة كيميائية سامة؛ بينما لا يتأثر القرنبيط (الزهرة) والملفوف والثوم من الصقيع، أو على الأقل تكون إصابتهم خفيفة؟ لقد تجسدت حكمة الطبيعة في توفير غطاء للقرنبيط وطبقات ورقية للملفوف وقشور للثوم يقيهم من الصقيع. وكذا طبيعة تكوين الحبوب المقاومة للبرد القارس والصقيع، كالعدس والقمح والشعير وغيرها.
وعلى ذات المنوال، يمكننا سحب ما ورد سابقا على طبيعة الأطعمة التي صرنا نستهلكها على مدار السنة. فبدلا من استهلاكنا للخضار والحبوب والفاكهة الموسمية التي تتميز بطبيعة نمو منسجمة مع العوامل المناخية، أصبحنا نتناول في فصل الشتاء النباتات التي يفترض أن تزرع وتنضج في فصل الصيف. وهذا السلوك الاستهلاكي مخالف لقوانين الطبيعة؛ إذ من المعروف أن بعض الأغذية تزود أجسامنا بالطاقة، وهذه تحديدا هي التي يجب أن نكثر من تناولها في فصل الشتاء، كالمحاصيل الشتوية المتمثلة في الحبوب مثل العدس والقمح والشوفان، والخضار الشتوية كالسبانخ والبازلاء والفول والحمص والملفوف والقرنبيط والخس والفجل، إضافة إلى الحبوب والفاكهة المجففة، والحمضيات كالمندلينا والبرتقال والجريبفروت والبوملة والليمون. أما بعض الأطعمة الأخرى فتأخذ الطاقة من أجسامنا وهي التي يجب ألا نتناولها في غير موسمها، وتحديدا في الشتاء. ومن هذه الأطعمة الخضار الصيفية التي لا يجوز تناولها في فصل الشتاء، وبخاصة تلك التي تزرع في الدفيئات البلاستيكية، كالكوسا والباذنجان والخيار والبندورة.
تقرير غني ونوعي ومليء بالمعطيات المناخية والبيئية المثيرة ...
ساهرة عجاج
مقال علمي تراثي بيئي شيق وجذاب ومعبر...شكرا لك يا دكتور جورج ...
قاسم قحامشة
مقال تحليلي شامل ومعبر ومقنع، وبخاصة أنه يطرح الحجج العلمية المتعلقة بالأنماط المناخية في فلسطين استناد إلى التراث المناخي المحلي والأنماط الحياتية المتصلة بالمواسم الزراعية والأعياد الفلسطينية، وليس استنادا إلى النظريات والقوالب العلمية الجاهزة والمستوردة والمطبقة ميكانيكيا على بلدنا بمعزل عن المكونات والمعطيات التاريخية والجغرافية والبيئية والتراثية العربية الأصيلة ...
عاطف قملة
|