الآثار الفلسطينية بين التهويد والسرقة
|
عمليات تجريف للإحتلال الإسرائيلي في منطقة مقام دير سمعان |
رائد جمال موقدي
خاص بآفاق البيئة والتنمية
منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، وضع الاحتلال في صلب أجندته سرقة وتزوير التاريخ والمعالم الأثرية التي تنتشر على نطاق واسع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وذلك بعد أن استكمل السيطرة التامة على الأرض وصادر الثروات الطبيعية التي تشتهر بها بلادنا.
فكان تزييف التاريخ غاية، والسيطرة على المناطق الأثرية وبخاصة المقدسات الإسلامية منها والمسيحية وسيلة سعى عبرها الاحتلال لخداع الرأي العام العالمي وإقناعهم بالأكاذيب، التي يروجون لها حول علاقتهم التاريخية بفلسطين وأنهم شعب الله المختار.
ولذلك سخرت حكومات الاحتلال المتعاقبة ميزانيات ضخمة لتنفيذ هذا المخطط، وابتكر الاحتلال عدة طرق ووسائل لتحقيق تلك الغايات، فما يتم الآن من تغيير في معالم المدينة المقدسة، ومن تغيير لنقوش الحجارة القديمة تحت حجج ترميمها وتغيير الأبواب والمرافق العامة، لهو خير دليل على ذلك.
سماسرة بلا ضمير
باسم عبد الرؤوف أبوريده 59) ) عاما من بلدة قصره، كان ضحيةً لأحد السماسرة، كما يقول، من الذين يستغلون حاجة الإنسان المالية والظروف الاقتصادية الصعبة، حيث تحدث لمجلة آفاق البيئة والتنمية عن تجربته مع بعض هؤلاء السماسرة والمحتالين، حيث أشار المواطن المذكور إلى امتلاكه منزلاً قديما بني قبل أكثر من 120 عاما ورثه من أبيه بعد جده، إلا أن هذا المنزل القديم يعاني التصدع الشديد، وعدم قدرة المواطن المذكور على هدمه أو ترميمه بسبب التكلفة المالية العالية، لكنه تفاجأ في احد الأيام بقدوم احد المقاولين من أصحاب المحاجر في قرية كفر مالك، شرق محافظة رام الله، حيث عرض عليه الأخير هدم منزله القديم المتصدع وجرفه بالكامل، مقابل أن يحصل على الحجارة منه مجانا، وكانت بساطة صاحب البيت وضعف إمكانياته، وراء الموافقة على هذا العرض.
وبالفعل تم تجريف المنزل القديم والاستيلاء على حجارته من قبل المقاول، الذي بدوره قام بتسويق تلك الحجارة إلى داخل مستوطنة عوفرا، ليتم بيعها إلى احد المستوطنين بمبالغ خيالية من أجل إعادة بنائها داخل المستوطنة المذكورة.
مثل هذه الحالة تعد نموذجاً حيا لعدد كبير من الحالات، التي يتم بها استغلال الناس البسطاء في تنفيذ أجندة ومخططات الاحتلال عبر عملاء وسماسرة جندوا لهذا الهدف، ومن هنا وجب علينا أخذ الحيطة والحذر في مثل هذه الظروف الحساسة.
السيطرة على المواقع الأثرية ونسبها إليهم
ابتكر الاحتلال الإسرائيلي عدة طرق ووسائل في عمليات سرقة وتزييف التاريخ وطمس الهوية العربية الفلسطينية، فقد عمل على جعل معظم المناطق الأثرية والمقامات الدينية ضمن المناطق المصنفة جـ حسب اتفاق أوسلو عام 1993، وهذا يعني ضمنيا أن الاحتلال اخضع الغالبية العظمى من المناطق الأثرية التي تشتهر بها بلادنا تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، وفي نفس الوقت لا تمتلك أي جهة فلسطينية مختصة أي سيادة على تلك المناطق، وهذا بدوره منح الاحتلال حق التصرف في تلك المناطق، وتغيير معالمها وأسمائها بما يتماشى مع معتقداتهم ورغباتهم الذاتية.
بل تعدى الأمر إلى حد إطلاق القصص والروايات المزيفة حول تاريخ تلك الآثار القديمة، كما يحدث الآن حول قبر النبي يوسف عليه السلام في مدينة نابلس، وكذلك الحال في المقامات الدينية مثل ذو الكفل وياشوع وذو النون في بلدة كفل حارس في محافظة سلفيت، بالإضافة إلى آثار بلدة سبسطية، المدينة السامرية القديمة والتي تعتبر جميعها في نظر الاحتلال من المقدسات اليهودية.
ولم تقتصر الحال عند هذا الحد، بل كان هناك العديد من المناطق الأثرية التي قام الاحتلال بضمها إلى نفوذ المستوطنات القائمة في الضفة الغربية، واعتبارها جزءاً لا يتجزأ منها، كما يحدث الآن في منطقة دير أبو سمعان شمال غرب بلدة كفر الديك وبالقرب من مستوطنة علي زهاف، حيث يقوم الاحتلال اليوم بإجراء حفريات واسعة النطاق هناك بحجة توسيع مستوطنة علي زهاف، بحيث طالت عملية التجريف سرقة معظم الآثار الرومانية هناك من منطقة دير ابو سمعان.
وهذا بدوره أعطى الفرصة لهؤلاء المستوطنين لسرقة أحجار ودلائل تلك المناطق الأثرية ومن ثم نقلها إلى داخل المستوطنات الإسرائيلية، أو إلى داخل الخط الأخضر، ليتم إعادة بنائها هناك بعد تزييفها بنقوشات وكتابات عبرية تزوّر تاريخ المنطقة، وتعطي الشرعية والمبرر في نظر الاحتلال لمواصلة السيطرة والاستيلاء على معالم وتفاصيل المناطق الفلسطينية المقدسة.
|
مقام ذو الكفل في بلدة كفل حارس يدعي المستعمرون بأنه موقع مقدس لهم |
السماسرة وسرقة الآثار التاريخية
يشار إلى أن السماسرة المحليين ممن تسول لهم أنفسهم بيع مقدرات شعبهم وتاريخه الأصيل مقابل أثمان رخيصة، كان لهم دور بارز في تسهيل نقل وبيع الكثير من الحجارة القديمة من داخل الخرب القديمة الأثرية وخاصة الأبنية العتيقة التي بنيت في العهد التركي، والتي تنتشر في أريافنا بشكل واسع، وتدل على عراقة الشعب وأصالته، لتصل بدورها إلى التجار الإسرائيليين داخل إسرائيل، حيث أن هذه الظاهرة أخذت بالانتشار تحت صمت عميق وبشكل ملفت للانتباه، حيث تتم تلك الصفقات تحت عنوان التخلص من المقتنيات القديمة، أو ما أصطلح على تسميته الردم لإعادة الإعمار مكانها.
ويتناسى الكثير من أصحاب تلك الأبنية القديمة، أن تلك الحجارة التي يتم الاستخفاف بها، تعتبر بالنسبة للاحتلال والمستوطنين كنز ثمين يتم استغلاله لإعادة بنائه داخل المستوطنات الإسرائيلية ليكون بمثابة الأكذوبة التي يراد بها محاولة تزييف التاريخ، وإعطاء دلالة على الوجود اليهودي في المنطقة.
لصوص الآثار لهم دور بارز في سرقة الآثار
نجحت دولة الاحتلال الإسرائيلي في تجنيد العديد من اللصوص الذين أوكلت لهم مهمة سرقة الآثار الفلسطينية بطريقة منظمة، بحيث يتم بيع هذه الآثار والكنوز الدفينة بأسعار زهيدة، متجاهلين القيم المعنوية والتاريخية والتراثية والتربوية والوطنية التي تعنيها هذه القطع، ومفرطين بتراث وطنهم.
يشار إلى أن عملية سرقة الآثار الفلسطينية تركزت بشكل واسع النطاق خلال فترة انتفاضة الأقصى، حيث استغل هؤلاء اللصوص الأوضاع السياسية وعدم وجود أي متابعة من الجانب الفلسطيني في عمليات التنقيب وسرقة الآثار الفلسطينية التي تتركز غالبيتها في المنطقة المصنفة جـ، فلم يسلم موقع اثري واحد دون التنقيب فيه، ومن ثم سرقة الآثار منه ليتم نقلها إلى داخل إسرائيل، مع الإشارة هنا إلى أن تلك العملية تتم بشكل منظم من قبل عصابات محلية تحت حماية وأعين الجيش الإسرائيلي، كما أن وجود المستوطنات في تلك المناطق سهل عملية نقل القطع الأثرية للتجار الإسرائيليين عبر تلك المستوطنات، ففي منطقة سبسطية لجأ هؤلاء اللصوص لبيع ما يسرقون لرئيس مستوطنة شافي شامرون .
قد يكون الدافع الأساسي وراء عمل تلك العصابات هو الفقر والبطالة وأحيانا البحث عن الثروة، ولكن تناسى هؤلاء اللصوص أن هذا الأمر لا يندرج تحت بند الجريمة فقط، بل يعد خيانة عظمى بسبب تسليم تاريخ الأمة وخيرات الوطن وتقديمها على طبق من ذهب للاحتلال الإسرائيلي لتزيفها وإخفائها بل إعادة بنائها مجددا في مدنهم ومستوطناتهم تحت شعار تاريخ الشعب اليهودي.
تجدر الإشارة إلى أن هناك عدد كبير من الآثار بعد سرقتها، يتم نقلها عبر المعابر إلى خارج البلاد حيث أن عدم سيطرة الفلسطينيين على المعابر، هي العامل الأساسي وراء تهريب قسم كبير من الآثار.
وهناك قطع أثرية يتم جلبها إلى فلسطين خاصة من الأردن ويتم إدخالها وبيعها إلى تجار إسرائيليين، طبعاً بثمن بخس وتحت حماية من قوات الاحتلال التي تسهل لهؤلاء التجار عملية الدخول والخروج عبر المعابر.
وللأسف الشديد لا توجد أي معطيات فلسطينية عن حجم المسروقات من الآثار الفلسطينية، بسبب عدم وجود أي سيادة على المناطق المصنفة جـ أو على السيطرة على المعابر كما أسلفنا سابقا.
|
مقام ذو الكفل وقد شوهه المستوطنون برسوماتهم المستفزة |
دور السلطة الفلسطينية المغيب
تعتبر الآثار في فلسطين ثروة وطنية مهمة، وفيها من القطع الأثرية ما يعود إلى آلاف السنين، ولأن فلسطين مهد الديانات والحضارات فمن الواجب العمل على حماية تلك الثروة بشتى الطرق، ولذلك لا بد من وقفة جادة من قبل المؤسسات والوزارات وفي مقدمتها وزارة السياحة والآثار، للحد من التهور وغياب الوعي لدى كل من تسول له نفسه بالمتاجرة في خيرات بلاده وثرواتها .
يذكر أن سرقة الآثار لا تقتصر فقط فلسطينياً، بل هناك العديد من الدول خاصة تلك التي قامت على حضارات قديمة مثل مصر والأردن وسوريا، ولكن الفرق بيننا وبين تلك الدول هو خضوعنا للاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي فرض قيود على حركة وزارة الآثار، خاصة بعد تقسيم المناطق إلى أ، ب، جـ، وبالتالي خضوع المنطقة الأخيرة للسيطرة الإسرائيلية، والتي تعتبر من أكثر المناطق تعرضا للسرقة لأن وزارة الآثار ممنوعة من القيام بأي نشاط أو حفريات في تلك المناطق، إلا بعد التنسيق مع الجيش الإسرائيلي . (المصدر: شبكة فلسطين الالكترونية)
غياب العقوبة الرادعة
يشار إلى أن هناك الكثير من الدول، قد ربطت سرقة آثار وخيرات الآمة بالخيانة الكبرى، ولهذا شرّعت من القوانين ما يردع هؤلاء المتاجرين بخيرات وتراث شعوبهم.
لكن نحن الفلسطينيون للأسف الشديد، لم نرتقِ إلى الآن، إلى درجة سن ما يلزم من قوانين لردع هؤلاء المستخفين بتراث أمتهم، فالقوانين عندنا ضعيفة، نسخت عن القوانين الأردنية منذ الستينيات، ولا تتناسب مع المستجدات والمتغيرات والظروف الراهنة، وبمعنى آخر تعتبر تلك القوانين والعقوبات، غير رادعة في منع هؤلاء السماسرة.
ومن هنا حان الوقت لسن جملة من القوانين الجديدة، تكون رادعة وشديدة، لمنع كل من تسول له نفسه خيانة وطنه وبيعه للأعداء.
|