افتقار الزراعة الفلسطينية إلى التخطيط لمواجهة سياسة الاحتلال الهادفة إلى تدمير الاقتصاد والسوق
وهم "السيادة على الغذاء" في ظل اقتصاد التسول وتضخم غير المنتجين
الطريق نحو السيادة الفلسطينية على الغذاء ومواجهة سياسات الحصار والخنق والتجويع يمر عبر التصنيع الزراعي وزيادة الإنتاج الغذائي البلدي وتنويعه وحمايته
|
المنتجات الزراعية الإسرائيلية تغرق الأسواق الفلسطينية |
جورج كرزم
خاص بآفاق البيئة والتنمية
يعرف الأمن الغذائي، وفقا للمنظمات الدولية، بأنه وفرة الغذاء، والوصول إليه واستخدامه. ويرتبط هذا المفهوم بالأفراد والدول، على حد سواء. ويتعلق أيضا بالأمن الفردي والإنساني، كما الأمن الوطني. وقد أصبحت مسألة وفرة الغذاء وإمكانية الوصول إليه التحدي الأكبر في القرن الواحد والعشرين. وغالباً ما يشار إلى انعدام الأمن الغذائي باعتباره أحد الظواهر المرافقة للتكاثر السكاني العالمي غير المتحكم به، فضلا عن أزمة المناخ. وتتجاهل هذه الإشارة حقيقة أن المشكلة لا تكمن في عدم كفاية الانتاج الغذائي العالمي، بل في انعدام العدالة في توزيع الغذاء؛ لأن العالم ينتج كميات كبيرة من الطعام أكثر من حاجته، لكن المشكلة تكمن في أن جياع وفقراء العالم لا يملكون الأموال اللازمة لشراء أو زراعة حاجتهم من الغذاء، بمعنى أن الكميات الزراعية لا تشكل إطلاقا حلا للمشكلة. وفي السياق الفلسطيني، السؤال الجوهري المطروح هو: ما هي العلاقة بين حل مشكلة الأمن الغذائي العالمي، والزراعة الفلسطينية؟ ولماذا يجب على الفلسطينيين تحديدا، أكثر من غيرهم، تعزيز ارتباطهم بالأرض ودعم المزارعين وعدم المس بهم، وحماية منتجاتهم؛ شريطة أن تكون نظيفة وصحية؟
من نافل القول، أن الاستقلال في الانتاج الزراعي والغذائي يشكل شرطا أساسيا للوصول إلى حالة الأمن الغذائي الحقيقي، وبالتالي السيادة على الغذاء. ولإنجاز الاستقلال الزراعي لا بد من الاعتماد على مخزون المعارف والتجارب والخبرات المحلية وتطويرها، من خلال ابتكار وبلورة تقنيات زراعية طبيعية وحيوية صديقة للبيئة، وتشجيع البحث العلمي المستند إلى تجارب وتطبيقات المنتجين والمزارعين أنفسهم، في مجالات الري ومعالجة المخلفات الزراعية والعضوية والسائلة، وتحسين نوعية البذور المحلية والبلدية، وغير ذلك. ويتناقض هذا التوجه مع استمرارية التبعية للغذاء الإسرائيلي والأجنبي.
تعميق البنية الاستهلاكية والطفيلية
من الواضح أن تدفق أموال "المانحين" يصب أساسا باتجاه تدعيم وترسيخ البنية الاستهلاكية والخدماتية للاقتصاد الفلسطيني، وبالتالي تعميق حالة اللاتنمية، حيث أن الجدوى التنموية الحقيقية للمساعدات والاستثمارات الخارجية تقاس بمدى تنمية وتطوير القطاعات الإنتاجية، وتحديدا الزراعة والصناعة، وبالتالي ارتباط تنمية وتطوير هذه القطاعات بمدى تثبيت وتعزيز حالة الأمن الغذائي الفلسطيني. إلا أن إحجام الدول "المانحة" عن الاستثمار الجدي في القطاعات الإنتاجية، وخاصة الزراعة، يعود لأسباب سياسية واستراتيجية، بالدرجة الأولى، حيث أن الزراعة مرتبطة بالأرض والمياه اللذين يقعان تحت السيطرة المطلقة للاحتلال، وهما يشكلان جوهر الصراع بين الشعب الفلسطيني والمحتل. وحيث أن حركة الأموال المتدفقة إلى الضفة والقطاع تمر عبر المؤسسة الصهيونية وبموافقتها، فلا يمكن إذن أن تسمح تلك المؤسسة باستثمار الأموال الخارجية في التنمية الزراعية والبيئية الشاملة التي تعني توسعا أفقيا وعموديا في القطاع الزراعي، وتأهيل مساحات واسعة من الأراضي، وزيادة كمية ونوعية في الإنتاج والتسويق الداخلي والخارجي، فضلا عن زراعة الاحتياجات الغذائية الأساسية للشرائح الشعبية وصولا إلى تحقيق الاستدامة والأمن الغذائيين وتثبيت السيادة الانتاجية الفلسطينية على الأرض. فمثل هذه السياسة تنناقض جوهريا مع المشروع الصهيوني الهادف إلى تهويد وتثبيت "السيادة" الصهيونية على الأرض والموارد.
وهنا يجب ألا يغيب عن بالنا أن أكثر ما يتهدد الاقتصاد الفلسطيني هو تعميق البنية الاستهلاكية والطفيلية لهذا الاقتصاد فمجتمعنا الفلسطيني ينتج حاليا أقل بكثير مما يستهلك، ولا توجد مؤشرات فعلية تدل على أن الفجوة الكبيرة بين الإنتاج والاستهلاك آخذة في التقلص. وتغطي التدفقات والتحويلات المالية الخارجية إلى حد كبير هذه الفجوة والعجز التجاري الحاصل وليس التراكم الرأسمالي الداخلي في الضفة والقطاع. وهذا الأمر يبدو جليا بالنظر إلى تدني حصة الناتج المحلي الفلسطيني الإجمالي قياسا إلى الناتج القومي الفلسطيني الإجمالي. كما يتضح ذلك من مجرد نظرة سريعة الى السلع الغذائية، "الطازجة" والمصنعة، المعروضة في سوقنا المحلي، حيث تبرز بشكل صارخ الحصة المتواضعة جدا للسلع "الفلسطينية" المحلية أو بشكل أدق حصة السلع الوطنية (أي التي تم انتاجها من موارد وخامات محلية) من إجمالي أنواع وأصناف السلع الغذائية المعروضة في سوقنا المحلي. ناهيك عن أن كميات كبيرة ومتنوعة من السلع "المحلية" ليست أكثر من سلع إسرائيلية تسوق في الضفة والقطاع بغطاء فلسطيني (ملصقات فلسطينية).
إن حقيقة كوننا مجتمعا استهلاكيا يشتري معظم طعامه من إسرائيل والخارج، بما في ذلك الغذاء الاستراتيجي، تعني بأننا نفتقر الى الأمن الغذائي، وبالتالي السيادة على غذائنا. وهنا بالذات يكمن السبب الأساسي في تبعيتنا للخارج. وافتقارنا للسيادة على غذائنا يعني أيضا افتقارنا للأمن الوطني الذي لا يمكننا توفيره ما دامت إسرائيل والاقتصاديات الخارجية تتحكم في عملية إطعامنا أو تجويعنا.
إن استمرار التدفق المالي الخارجي المضارب (ليس معظمه ذا طابع سياسي فقط، بل ينفق أيضا على الخدمات والاستهلاك) قد نَقَلَ الواقع الاقتصادي في الضفة والقطاع من نمط إنتاج كولونيالي – استيطاني صاغه الاحتلال عبر تحويلنا الى مستوردين للسلع التي نستهلكها ومصدرين لقوة العمل، إلى نمط اقتصاد التسول الذي يُروى بجرعات مالية متواصلة من الخارج ويرتبط به عدد كبير من الناس غير المنتجين، فيعيد في النهاية إنتاج البطالة والفقر.
إذن، من الأهمية بمكان دعم وتطوير وحماية عملية إنتاج وتنويع المنتجات الزراعية المحلية وتصنيعها، بدل الهرولة الى تصديرها للأسواق الخارجية التي تتحكم بحركتها وأسعارها وكمياتها وتفرض علينا أبخس الأسعار لنعود فيما بعد نستورد نفس منتجاتنا مصنعة وبأعلى الأسعار من إسرائيل وأوروبا وأميركا. إذ أن زيادة الطلب على السلع الغذائية المنتجة في مصانع فلسطينية بالضفة والقطاع وتراكم بعض الفائض الزراعي يجب أن يشجع المزارعين الفلسطينيين على زراعة المزروعات القابلة للتصنيع وبالتالي حث المستثمرين الفلسطينيين والعرب على الاستثمار في مجال التصنيع الزراعي الذي تشكل المحاصيل الزراعية العربية مواده الخام.
ومن الأهمية بمكان القول إن الفرضية الداعية إلى ترجمة الاتفاقات السياسية الى "حركة حرة" لقوة العمل والمنتجات بين إسرائيل والمناطق الفلسطينية والخارج، والتي صيغت على قاعدتها "الخطط" الاقتصادية الدولية والفلسطينية ليست خاطئة فحسب، بل إنها لم تستند أصلا الى المعطيات والوقائع السياسية-الاقتصادية الحقيقية على الأرض خاصة وأن "الحركة الحرة" تتمتع بها فعليا إسرائيل لوحدها.
إن سيطرة إسرائيل التي تعمل على فرض إرادتها بالقوة علينا، واستمرار الخلل البنيوي العميق في العلاقة الاقتصادية الاسرائيلية-الفلسطينية الناتج أصلا عن انعدام التكافؤ السيادي والسياسي والاقتصادي والتنموي بين الطرفين، سوف يبقى العائق الأساسي أمام أية تنمية حقيقية، وتحديدا التنمية الزراعية التي تضمن الأمن الغذائي للناس. وهذا الوضع يجعل من المستحيل القيام بعملية تغيير جذرية للواقع الاقتصادي - الاجتماعي الراهن. لهذا فان ما نحتاجه هو بداية عملية تغيير داخلية تؤدي بالمحصلة الى تغيير المعايير الراهنة. ويتطلب ذلك أولا هدم وإعادة بناء المؤسسات والبنى التي خلقها الاحتلال ويواصل من خلالها التحكم في مواردنا ويعبث بشؤوننا بشتى الطرق.
|
انهيار الانتاج الزراعي الفلسطيني سيضع الضفة والقطاع تحت رحمة استيراد الغذاء من إسرائيل والخارج |
إفقار الناس وتحطيم الزراعة
غالبا ما ينسى أو يتناسى بعض الناس حينما يناقشون أو"يعالجون" ظاهرتي البطالة والفقر وكيفية "محاربتهما"، بأن السبب الأساسي والمباشر لإفقار معظم الفلاحين الفلسطينيين في الأرض المحتلة عام 1967 أو تحويلهم إلى عمال يخدمون الاقتصاد الصهيوني بعيدا عن أماكن سكنهم، أو إلى إجراء في خدمة الاقتصاد الاستهلاكي بالمدن الفلسطينية، أو إلى عاطلين عن العمل، إنما يكمن في نهب الاحتلال لآراضيهم ومواردهم الزراعية وتحطيم الزراعة الفلسطينية التي تميزت في الماضي غير البعيد باعتمادها على الذات وكونها متنوعة ومتداخلة وبيئية. بمعنى أن بروز فائض في اليد العاملة الفلسطينية الزراعية المستغنى عنها في الريف الفلسطيني، لم يكن نتيجة بطالة عانت منها اليد العاملة الزراعية، غالبا ما تؤدي الى انسلاخها عن الزراعة وانتقالها للعمل كيد عاملة رخيصة في المدينة، كما هو الحال في "العالم الثالث"، بل بسبب أن هذا الفائض أفرزته عملية تهشيم مقومات الاقتصاد الريفي والزراعي الفلسطيني بشكل مباشر. وقد لعبت هذه العملية الأخيرة دورا أساسيا في الولادة غير الطبيعية والمشوهة للعمال الفلسطينيين، وحددت طبيعة اليد العاملة الفلسطينية ودورها في خدمة الاقتصاد الصهيوني في ظل غياب البديل الاقتصادي المحلي الذي كان يمكن أن يستوعب فائض اليد العاملة في الريف الفلسطيني. فمنذ التوقيع على اتفاق واشنطن عام 1993 وحتى هذه اللحظة، تتواصل بكل قوة عملية تهشيم الاقتصاد الزراعي الفلسطيني من خلال آلة المصادرة والاستيطان الصهيونية التي لم تتوقف عن التوسع الاستيطاني وتجريف وإغلاق ومصادرة مئات آلاف الدونمات التي يعتبر معظمها أراضي زراعية خصبة، وذلك بالتوازي مع اقتلاع وتخريب كميات ضخمة من المحاصيل الزراعية وملايين الأشتال والأشجار المثمرة، فضلا عن نهب وتدمير المياه والآبار الجوفية، مما أجبر العديد من المزارعين على الانسلاخ نهائيا عن العمل الزراعي.
إزاء هذا الواقع الجيوسياسي والديمغرافي-الاستيطاني الذي يهدد بشكل خاص وجود وموارد من تبقى من فلاحينا ومزارعينا على أراضيهم، فإن الطريق الوحيد أمامنا، كما أرى، هو العمل باتجاه الاعتماد على الذات والتحرر من عقلية التبعية لمدخلات الإنتاج الخارجية بالتوازي مع العمل على محاولة تجاوز الأزمة البنيوية في أنماط الإنتاج الفلسطينية السائدة من خلال:
أولا: أن لا يكون أساس "النمو" الاقتصادي مجرد توسيع الأسواق الخارجية (زيادة الطلب الخارجي) لصالح زيادة أرباح حفنة من "رجال الأعمال"، بل إعادة توجيه الاستثمارات الفلسطينية والعربية إلى القطاعات البيئية المنتجة وعلى رأسها الأرض والزراعة المتنوعة، إذ ليس من مصلحة "المانحين" الاستثمار فيهما، لأن "إسرائيل" تمنعهم من ذلك حتى لا يتركز إنتاج الاحتياجات الأساسية للناس في إطار اقتصاد الصمود الذي يهمه كثافة العمل وليس كثافة الرأسمال التي لا تضمن سوى تشغيل جزء هزيل من قوة العمل العاطلة، وتتسبب بمزيد من التدهور البيئي وتآكل التربة وتقلص التنوع الحيوي والوراثي.
ثانيا: زيادة الإنتاجية من خلال زيادة الاستثمار في تنمية الموارد البشرية عبر التثقيف والتدريب المستمرين في هذا الاتجاه.
ثالثا: إنشاء وتطوير البنية التحتية التي تخدم الصناعة المعتمدة على الموارد المحلية، وخاصة الزراعية، بالتوازي مع زيادة القدرات الإنتاجية في هذا المجال. وهذا يعني إعادة تدوير الموارد والمخرجات المحلية في إطار نظام إنتاجي داخلي بيئي ومستدام.
رابعا: قياس نجاح أو فشل أي نشاط تنموي بمدى قدرة هذا النشاط على تلبية الاحتياجات الأساسية للشرائح الشعبية، وإمكانية تسخير مؤشرات النمو الاقتصادي والتضخم والقدرة التنافسية لخدمة القياس السابق وليس لخدمة الأرباح الخاصة.
خامسا: تقوية وتعزيز ودمقرطة البنى المؤسساتية الجماهيرية كالنقابات واتحادات الفلاحين والمزارعين والأطر والمنظمات الشعبية الفاعلة في مجالات الأرض والزراعة، بحيث تساهم هذه البنى في اتخاذ القرارات الاقتصادية – التنموية والزراعية والسياسية الفعالة على صعيد التخطيط والتنفيذ.
وبالإضافة إلى ذلك، لا بد من تأسيس جمعيات لحماية المزارع وتوفير تأمين زراعي، فضلا عن تشكيل مجالس لمختلف أصناف الإنتاج الزراعي كي تساهم في رسم السياسات والخطط الزراعية وبالتالي تحديد الأصناف التي يجب التركيز عليها ومواعيد الزراعة وكميات الإنتاج والفائض، حسب الحاجة الفعلية للسوق.
ولا بد أيضا من إنشاء مؤسسة إقراض أو أكثر للتنمية الزراعية، بحيث تمنح القروض الميسرة وبشروط مريحة حقا للمزارعين، بهدف تشجيع تنويع الإنتاج الزراعي والمشاريع الزراعية المعتمدة على الموارد الذاتية والمتحررة من التبعية المهلكة للمدخلات الخارجية، وبالتالي تشجيع المزارع على البقاء في أرضه وعدم هجرها، علما بأن الإستدانة الزراعية الهزيلة القائمة حاليا تهدف أساسا إلى تكثيف رأس المال في الزراعة بهدف التصدير على قاعدة "المنافسة الحرة" التي لا ترحم الضعفاء، وبالتالي الوقوع في مصيدة الديون والزيادة المستمرة في مدخلات الإنتاج من الخارج والغرق في مزيد من القروض والديون لزراعة المحاصيل الأحادية بدل التنويع الزراعي، ومن ثم الإدمان على الديون وتعميق التبعية للأسواق الخارجية وقوانينها اللئيمة.
ومن نافل القول أن مجتمعنا الريفي تميز تقليديا وتاريخيا بالتنويع الزراعي والاكتفاء الغذائي الذاتي. فلماذا إذن الهرولة الى تبني نظم وأنماط زراعية غريبة وقصيرة النظر ولا تهدف سوى إلى تحقيق أرباح سهلة وسريعة على حساب أمننا الغذائي الحقيقي واحتياجاتنا الغذائية الحقيقية وبيئتنا ومياهنا وتربتنا وأجيالنا القادمة؟ فمعظم هذه الأرباح تتدفق الى جيوب الشركات الصهيونية والمستوردين والوكلاء والمسوقين في الأسواق الخارجية، بينما لا يبقى سوى الفتات للمزارع المحلي.
ان الزراعة على قاعدة "اقتصاد السوق" والمدخلات الخارجية الكبيرة، قد تم تطويرها في الغرب أصلا لتتلاءم مع مناخات وأنماط زراعية مختلفة عن منطقتنا ولا علاقة لها بالحاجات الحقيقية لمزارعينا. وبالتالي هناك غياب في التوجه نحو الموارد والإمكانيات المحلية وتغييب للممارسات والتجارب والمعارف الزراعية المحلية التي اكتسبها وطورها مزارعونا القدامى، فضلا عن عدم الاهتمام بالمحاصيل والبذور والحيوانات البلدية مع أن البحث الزراعي الرسمي غالبا ما يركز على دعم المزارعين الميسورين والقادرين على شراء التقنيات والمستلزمات الزراعية "الحديثة" التي لا يستطيع معظم المزارعين الحصول عليها فضلا عن كونها غير مناسبة للزراعات البعلية ذات المدخلات الخارجية المنخفضة.
|
من خلال جدرانه العنصرية ومستعمراته وقواعده العسكرية يتحكم الاحتلال في عملية إطعام وتجويع الفلسطينيين |
سحق المنتجين
الادعاء القائل بقدرة منتوجاتنا المحلية على "منافسة" المنتوجات الأميركية والأوروبية في السوقين المحلي والعالمي ليس أكثر من مجرد وهم. خاصة وأن "تحرير التجارة"، فلسطينيا، لن يستند الى التكافؤ التبادلي والتنافسي، بل سيأتي تجاوبا مع مطالب أميركية وأوروبية، تماما كمطلب الاتحاد الأوروبي الذي يشترط على دول "المتوسط" التي تطالب بمساعدات مالية واقتصادية "تحرير اقتصادها وفتح أسواقها أمام المنتوجات الأوروبية عبر إلغاء تدابير الحماية". ناهيك عن التجاوب مع مطلب واشنطن المتمثل بفتح أسواق الضفة والقطاع وإلغاء كافة القيود أمام السلع الأميركية. وهذا سيفرض تشريع قوانين فلسطينية لا تتجاوب مع الاحتياجات والمصالح الفلسطينية الوطنية الحقيقية، بل تتجاوب أساسا مع مطالب أطراف العولمة المهيمنة، ناهيك عن مطالب اتفاق باريس الاقتصادي الموقع مع الاحتلال الإسرائيلي عام 1994. وفي النهاية، سيتم تثبيت وتعميق الاحتكار الأجنبي والإسرائيلي للسوق الفلسطينية خاصة فيما يتصل بتسويق المنتجات الزراعية والغذائية، ما يعني اجتثاث المزارعين الفلسطينيين من السوق المحلي ومن أراضيهم، وإطلاق طلقة الرحمة على ما تبقى من الإنتاج الزراعي الفلسطيني وسحق المزارعين ومنتجي الغذاء الفلسطينيين بعد أن عمل الاحتلال بشكل منهجي طيلة عقود على مصادرة ونهب أخصب الأراضي الزراعية. كما أن انهيار الإنتاج الزراعي المحلي سيجعل الضفة والقطاع تابعين تبعية مطلقة للأسعار الاحتكارية المتقلبة، وسيضعهما تحت رحمة استيراد الغذاء من الخارج.
تدفق رأسمال وتدويره داخل البلد
في ظل وجودنا تحت احتلال استيطاني وعسكري اقتلاعي يمارس سياسات الحصار والتجويع بشكل منظم ومنهجي، فإن الأولوية هي لضمان تحقيق الأمن الغذائي الفعلي لأوسع الشرائح الشعبية وليس لصالح شريحة تجارية هامشية من التجار والمصدرين والوكلاء. ولا يتحقق ذلك إلا من خلال تغطية احتياجاتنا الغذائية الأساسية والاستراتيجية من إنتاجنا المحلي المتحرر من التبعية لمدخلات الإنتاج الصهيونية التي يتحكم بها الاحتلال وشركاته. وهذا يتطلب تشجيع المزارعين على العودة إلى الزراعات البلدية والعضوية التي تتميز مدخلاتها بأنها محلية سواء على مستوى السماد البلدي المحلي أو السماد الأخضر أو الحيوانات أو الأيدي العاملة أو البذور البلدية غير الصناعية، أو العلاجات الزراعية الطبيعية والعضوية المشتقة من الموارد والنباتات المحلية. وهذا التوجه الإنتاجي الغذائي الاستراتيجي، يضمن بقاء وتدفق الثروة ورأس المال وتدويرهما داخل بلدنا، لأن الاعتماد على المستلزمات الزراعية التي يعيد المزارعون إنتاجها بأنفسهم محليا، يكون في إطار نفس دائرة الإنتاج والاستهلاك المحلية. وهذا يعني الاعتماد على الذات وتحقيق الاستقلال والأمن الغذائيين وطنيا.
مزايا استراتيجية في المنافسة
إذا كان لا بد من التصدير، كما يروج عدد كبير من الاقتصاديين والسياسيين الفلسطينيين، فيجب ألا يكون ذلك قبل تلبية كل احتياجاتنا الغذائية الأساسية من إنتاجنا المحلي. ومن ثم بإمكان الزراعة التصديرية أن تستند الى تنوع الإنتاج (لأن في التنوع يعدّ تقليلا للمخاطرة) وزراعة منتجات عضوية (خالية من الأوساخ الكيماوية). فالطلب على الأخيرة يزداد باستمرار في الأسواق العالمية عامة والغربية خاصة، وبإمكان مزارعينا التفوق في هذا المجال والاستفادة من مزايا استراتيجية حقيقية في المنافسة على الأسواق الخارجية بالاعتماد على قوتنا الزراعية المحلية الكامنة وتراثنا الزراعي الطبيعي والعضوي الغني.
وفي الواقع، تمتلك الزراعة البلدية الفلسطينية، حينما يجري العمل على إغنائها وتطويرها وتحويلها إلى زراعة عضوية – بيئية، تمتلك ميزة تنافسية من الدرجة الأولى خلافا للزراعة الكيماوية الفلسطينية التي لا تستطيع منتجاتها الفلسطينية المنافسة في الأسواق الخارجية نظرا لإغراق تلك الأسواق بكميات هائلة من المنتجات "الأكثر جودة" والأرخص ثمنا. فعلى سبيل المثال، يتسبب استخدام الكيماويات الزراعية في حقول الزيتون في تدني جودة زيت الزيتون الفلسطيني الذي يعتبر سعره مرتفعا بسبب ارتفاع كلفة الإنتاج قياسا لأسعار زيوت بعض الدول الأخرى مثل اسبانيا والبرتغال وإيطاليا واليونان، الأمر الذي يفقد الزيت الفلسطيني ميزته التنافسية في الأسواق الخارجية.
وبإمكاننا أيضا إدخال الزراعة العضوية لإنتاج المحاصيل التقليدية التي لها آفاق تصديرية جيدة وتحقق فوائد اقتصادية وصحية وبيئية حقيقية للمزارعين مثل الحمضيات والبلح والعنب والتين وزيت الزيتون والخضار، فضلا عن محاصيل جديدة مناسبة. وبإمكاننا تطوير زراعة محاصيل عليها طلب في الأسواق الخارجية وتحتاج إلى قليل من العناية مثل الصبر والخروب والسمسم والأعشاب الطبية وغيرها. كما نستطيع تربية الدواجن والمواشي وإنتاج مشتقات الألبان العضوية.
إن أكثر ما يُعرّض الإنتاج الزراعي الفلسطيني الحالي للصدمات أنه يفتقر إلى التخطيط في إطار اقتصاد الصمود والمقاومة ومواجهة السياسات الاقتصادية الصهيونية الهادفة إلى تدمير الاقتصاد والسوق الفلسطينيين مما يجعل هذا الانتاج غير حصين وحساساً جدا وسريع التأثر بالضغوط الخارجية، الأمر الذي يهدد استمرارية وجوده.
وأمام هذا الواقع الاقتصادي الكولونيالي، فإن توفير مقومات الأمن الغذائي الاستراتيجي يتطلب بالدرجة الأولى تشجيع المزارعين والناس عموما على إنتاج السلع الزراعية الاستراتيجية التي تلبي الاحتياجات الغذائية المحلية أولا. وفي إطار نفس الاستراتيجية الزراعية، لا بد من تشجيع المشاريع الصناعية المحلية التي لا تحتاج إلى رؤوس أموال كبيرة، وتعتمد أساسا على تصنيع المنتجات الزراعية العضوية والبلدية المحلية وتدر دخلا جيدا عن طريق الاستفادة من الموارد والمهارات المحلية. وبإمكاننا، على سبيل المثال، تصنيع العنب والخروب لصناعة الدبس والملبن وغير ذلك بهدف التسويق المحلي والتصدير للأسواق الخارجية. كما يمكننا أيضا إنشاء مشاريع لتجفيف المحاصيل بالطاقة الشمسية وتصنيعها وتعليبها، فضلا عن إنشاء مصانع لإنتاج الألبان ومشتقاتها بحيث يتم تسويق المنتجات من خلال تعاونيات لتسويق المنتجات العضوية.
إن التركيز على التصنيع الزراعي وزيادة الإنتاج الغذائي وتنويعه وحمايته، يضمن التأسيس لاقتصاد المقاومة في مواجهة سياسات الحصار والخنق والتجويع الصهيونية، فضلا عن تحسين مستوى معيشة أهل الريف إجمالا الأمر الذي سيخلق دورة اقتصادية تؤدي إلى توسيع سوق الصناعة المحلية وبلورة صناعات جديدة، بما في ذلك إنتاج بعض التجهيزات الزراعية الصغيرة وإصلاحها. بمعنى أن التصنيع لا بد أن يكون منسجما مع عملية ربط الاستراتيجية الزراعية بالتنمية الصناعية انطلاقا من الإمكانيات المتوفرة بحيث تبنى هذه العملية على أساس تكاملي مع الأقطار العربية المجاورة. وسيتطلب هذا التوجه الإنتاجي الاستراتيجي خدمات توعية وإرشاد وبرامج تدريبية مناسبة.
خلاصة واستنتاجات
على المستوى الفلسطيني، ومن خلال المنظمات التجارية والمالية الدولية، يهدف كل من الاتحاد الأوروبي وأميركا من وراء "تحرير التجارة" في المناطق الفلسطينية، كما في سائر الأقطار العربية، الى توسيع أسواق الدول الصناعية الغنية واسرائيل في الوطن العربي وامتصاص فائض السيولة النقدية العربية وبالتالي تقليص الفجوة الضخمة بين العرض (الفائض) الأميركي والأوروبي والاسرائيلي، من جهة، والطلب العربي الضعيف نسبيا على هذا الفائض، من جهة أخرى. كما أن الرأسمال الأجنبي والاسرائيلي ووكلاءه الفلسطينيين في الضفة والقطاع يفتشون باستمرار عن آفاق استثمارية سهلة وذات نسبة أرباح مرتفعة يتم تحقيقها من خلال استنزاف طاقة الاستهلاك الفلسطينية. ومعنى ذلك إضعاف كبير للقدرة التنافسية لدى المبادرين الفلسطينيين والعرب المنتجين المحتملين، وسحق قدرتهم على المبادرة في تأسيس مشاريع انتاجية وشبكات تسويق خاصة بهم. كما أن استباحة احتكارات الغذاء الإسرائيلية والأجنبية للسوق الفلسطيني ستتسبب في آثار بيئية وصحية مدمرة، من ناحية التنوع الحيوي والصحة العامة للمجتمع الفلسطيني بسبب إغراق السوق الفلسطيني بالمحاصيل المعدلة وراثيا، وخاصة المنتجات الغذائية الأساسية، كالقمح والذرة وغيرهما في ظل غياب الرقابة الفلسطينية الرسمية، علما أن السلطة الفلسطينية تفتقر تماما إلى السيادة على الواردات التي تتدفق إلى السوق الفلسطيني من خلال القنوات والموانئ الإسرائيلية.
وفي ظل الواقع الإستعماري الاستيطاني، فإن الاقتصاد الفلسطيني الوحيد الممكن والواقعي الذي يحقق السيادة الفلسطينية الفعلية على الغذاء، هو الاقتصاد الوطني الشعبي المقاوم الذي يوفر مقومات الصمود الإقتصادي والمعيشي الضروري لمواجهة الإحتلال. ويستند نموذج اقتصاد المقاومة على تدعيم البنية الإنتاجية الزراعية والصناعية الوطنية الشعبية المتمحورة داخليا في السوق المحلي والتي تنتج الإحتياجات الأساسية للشرائح الشعبية، وبالتالي تحررنا من التحكم الصهيوني في عملية إطعامنا وتجويعنا من خلال إطلاق العنان للحريات والمبادرات الشعبية المعتمدة على الذات والمشاريع الإنتاجية العامة والتكامل القطاعي، والنشاطات الزراعية غير الرسمية التي تتميز بالتنوع الإنتاجي وتوفر الأمن الغذائي للناس. وعمليا، يشكل هذا التوجه مدخلا واقعيا وممكنا لفك الارتباط بين الاقتصاد الفلسطيني والاقتصاد الاسرائيلي. وفي المحصلة، يعني اقتصاد المقاومة تشجيع وتنمية ثقافة الإنتاج والإدخار كبديل لثقافة الاستهلاك والإلحاق.
|