أراضي عائلة زيدان من بيت جالا تصمد عربية أمام جدران الضم والتوسع
السيدة مارغو تطرز التراث منذ أكثر من ثلاثين عاماً للإنفاق على جنتها الخضراء
ربى عنبتاوي
خاص بآفاق البيئة والتنمية
كان عام 2009 بمثابة طوق النجاة لعائلة "زيدان قصافصة" من بيت جالا، حين انتزعت السيدة مارغو وأبناؤها قراراً من المحكمة الإسرائيلية يسمح لهم بالبقاء في أراضيهم والإقامة في بيتهم القديم وسط وادي أحمد في أراضي بيت جالا بعد منعهم نهائياً من دخولها قبل عامين من ذلك التاريخ، حين قامت قوات الاحتلال بإغلاق الشارع المؤدي إلى أراضي المزارعين بالكامل في منطقة النفق، ما اضطر المزارعين وأصحاب الأراضي لسلوك طريق جبل كريمزان للوصول إلى أراضيهم، أو توكيل المحامين وتكبد التكاليف الباهظة لانتزاع تصريح عبور يسمح لهم بدخولها عبر البوابات. " لا أنسى ذلك اليوم، حين استلم ابني تصاريح دخولنا لأرضنا...كأن الروح ارتدت لي لحظتها، فأراضينا وزيتوننا وأشجارنا المثمرة وبيتنا القديم لن يكونوا ذكرى، بل هم عناصر الحياة التي عشناها وكانت وما زالت دعامتنا في هذه الدنيا". قالت مارغو السيدة البيتجالية الخمسينية.
تعبر مارغو يومياً من بوابة حديدية هي جزء من جدار الضم والتوسع في بيت جالا، حيث تسارع السلطات الإسرائيلية منذ بداية عام 2011 لإضافة مقاطع جدار إسمنتية جديدة في منطقة النفق لربط المنطقة مع الشارع الالتفافي الإسرائيلي رقم 60 و الذي يمر من أراضي مدينة بيت جالا.
|
مارغو تدخل يوميا مزرعتها من خلال بوابة تملك مفتاحها بقرار من المحكمة الإسرائيلية |
مفتاح، بوابة، درّاجة هوائية... يوميات مارغو من وإلى الأرض
مارغو أو " أم أمجد" التي تتنقل بين مدينة بيت جالا وبين بيتها القديم الذي يتوسط أراضي العائلة بمساحة 90 دونماً، تمر يومياً من بوابة حديدية، تملك مفتاحاً لها بحكم قرار القاضي الإسرائيلي، تسير على الأقدام سيراً أو على درجتها الهوائية مسافة 3 كم، حيث تعبر طريقاً ترابية استحدثت عام 1990 حين قسّم الاحتلال أراضي وادي احمد الذي تبلغ مساحته 2800 دونم إلى قسمين، ويمتد الطريق وصولاً إلى أراضي الولجة.
في البيت الحجري القديم، المشيد منذ عام 1890، دفء وذكريات أسرية بدأت في السبعينيات حين تزوجت مارغو من زوجها وعاشا سوياً، فتعلقا بالأرض ورعياها فأعطتهما الزيت بما يعادل العشرين تنكة سنوياً، ومن الأشجار المثمرة كاللوزيات والمشمش والدراق والعنب والتين كان بيع الثمر والمربى، ولتأمين احتياجات أبنائهما صنعت الأم مارغو من الخيطان الملونة على القماش لوحات تراثية وأثواباً فلسطينية، كما رسمت التراث على الفناجين فتميزت في بيت جالا بحرفيتها وفنها، فخلال ثلاثين عاماً جنت خلالهم كما "جمعت وأحصت" ما يعادل 55 ألف شيكل أنفقتهم على احتياجات الأسرة والأرض.
|
مارغو تشرح عن أراضي أسرتها |
سحر طبيعي يهدئ الأعصاب
الزائر للبيت القديم وما حوله، يدرك أن مارغو تملك كنزاً لا يقدر بثمن، فالطبيعة ساحرة والهدوء يرادف الصحة والعافية، والخضرة والطبقات الصخرية يشكلان معاً لوحة آية في الجمال الطبيعي، كما أن البيت العتيق يأتي منسجماً ببساطته مع المكان، ففي حديقته ينتصب الشجر المثمر على تنوعه، وعلى مقربة منه غرفة صغيرة حولتها مارغو لقن للدجاج البلدي، وفي زوايا الحديقة تلهو القطط الأليفة بعيداً عن كلبي الحراسة وجرائهم. عالمٌ حيوي لا تشعر معه بالملل مطلقاً.
أصالة الطرق الزراعية التقليدية تظهر في حديقة مارغو حيث تقوم بتخمير زبل الدجاج في براميل لتسمد به الشجر، كما تحني براميلا صغيرة مملوءةً بالماء على أحد جوانبها بديلا عن نظام التنقيط بالأنابيب. وتسقي مارغو الأرض من خلال جمع المياه السائلة من أعلى الجبل عبر أنابيب في براميل ضخمة، أما الكهرباء فقد كلفتها أكثر من عشرين ألف شيقلا، حيث قامت برفع عمودين ومد أسلاك من بيت صديق أعلى الجبل لتنير البيت بكهرباء طاقتها( 1200) متر هوائي. ولحراثة الأرض تستأجر مارغو عاملاً مقدسيا بيومية تبلغ 200 شيقلاً لحراثتها ثلاث مرات في السنة.
حين يأتي موسم جد الزيتون، تقوم جمعية الشبان المسيحية بعد الاتفاق مع مارغو بتجميع متطوعين أجانب في حافلة كبيرة حيث يقومون بقطف ثمار شجر الزيتون في أراضي زيدان خلال ثلاثة أيام، والمقابل لا شيء يذكر، إلا تناول وليمة غداء شعبية من أيدي السيدة مارغو.
لمن يهمه الأمر
هذا الجمال ثمنه باهظ جداً، حيث تضطر مارغو - التي يتعالج زوجها في الولايات المتحدة من مرض السكري ويعاني أبناؤها الشبان من شبح البطالة بين الفينة والأخرى- إلى العمل بالخياطة وبيع منتجات الأرض لتأمين احتياجات المنزل، واستمرار دفع الضريبة السنوية للبيت ( الأرنونا) لسلطات الاحتلال منذ 14 سنة، وبالإضافة لفواتير الكهرباء ومستلزمات الزراعة. وعلى حد قولها، فقد لجأت السيدة زيدان لجهات فلسطينية عدة من أجل مساعدتها في تأمين احتياجات أرضها لكنها لم تتلق أي دعمٍ يذكر، إلا من السيد سيمون عوض مدير مركز التعليم البيئي في بيت لحم والذي قدم لها عدة شجيرات زرعتهم في الحديقة.
"احتاج لعشرين لفة شيك لحماية الشجر من الغزلان التي تجد زادها في شجري المثمر دوناً عن باقي الأراضي، ويلزمني 500 متر أنابيب تنقيط للمياه، عدا عن الأشجار لحفظ الأرض، فالأرض هي عرضنا ومصدر حياتنا، ولست مستعدة لخسارتها مجدداً". كررت مارغو مطالبها متأملة الخير ممن سيقرأ هذه السطور.
|
أشجار بستان مارغو وقد التهمت الغزلان أجزائها السفلى |
من قن إلى عش للزوجية... حلم صعب لأحد أبناء مارغو
تحلم مارغو التي لا تستطيع ان تضيف إلى البيت عريشة من الزنكو بسبب حظر أي تجديد أو ترميم للبيت من قبل سلطات الاحتلال، بتزويج أبنائها الثلاثة المتعثرين في عملهم، وتتمنى ان يأتي الوقت فيتاح لها ترميم قن الدجاج لبناء غرفة لتزويج ابنها الكبير.
وعن البيت عادت لتقول: "الجنة من غير ناس ما بتنداس" لافتةً إلى حرمان أقاربها من زيارتها حيث يمنعون من عبور البوابة دون تصريح، ومن الجانب الآخر في القدس، تزورها صديقةٌ من قرية بيت صفافا فتخفف عنها بعضاً من الوحدة، وحين تجتمع مارغو مع أبنائها يأكلون مما تنتجه الأرض من زغاليل وبيض بلدي وورق عنب وزيت صافي.
تروي لنا مارغو قصةً طريفة، حين كانت تتجول في حديقتها ورآها جندي إسرائيلي حبشي، فصرخ بها ووجه بندقيته نحوها، وحين اقترب منها تناول محفظتها وبعثر محتوياتها للوصول إلى بطاقة هويتها( ضفة غربية)، وقام وهو يمسك بالبطاقة بالاتصال بقائده، فقرأ له اسم صاحبة البطاقة، وبعد ثوانٍ شعر بخيبة أمل، فلم تكن مارغو ذلك الصيد الثمين الذي سيهبه وساماً في الشجاعة، فوجودها في أرضها بقرار من المحكمة. بعد ذلك الموقف، ما كان من مارغو إلا وأمرته بإعادة محتويات المحفظة التي بعثرها، فخضع لطلبها خجلاً من نفسه.
فلسفة مارغو في الحياة
مارغو لا تؤمن بالأعذار والحجج بل منهجها هو العمل دائماً، وبكلمات من القلب إلى القلب قالت مارغو :
فلسطين: بلدنا وهويتنا... ولكن للأسف لم نأخذ شيئاً من نصيبنا فيه
البيت: تراث وهوية و صمود وهو ما تبقى من الآباء والأجداد لنا
مارغو زيدان: إنسانة لا تعرف اليأس، صبورة وقنوعة.
أكثر شجرة تحبها: المشمش منظرها بديع "تبارك الله وسبحانه في سماه".
حلمها: أن تعيش في سلام وتزوج أبناءها.
ثلاث ساعات من الحديث والتعرف على حياة مارغو الحالمة دائماً بالأفضل، ولقاء اتسم بالكرم والعطاء البالغين مع ما قدمته مارغو من قنينة زيت زيتون صافٍ ومربى مشمش وورق عنب أخضر وبيض بلدي وكيسٍ مليءٍ بالبرقوق الأصفر والأحمر، بالإضافة إلى محفظة من التطريز الفلاحي، فكانت مجتمعة عربون محبة من بيت فلسطيني ريفي أصيل صمد في وجه جدار الضم والتوسع.
|
الري بواسطة البراميل الصغيرة |
|
|
بيض بلدي في مزرعة مارغو |
|
|
سماد عضوي من مخلفات منزل مارغو |
|
|
مارغو في داخل قن الدجاج |
|
|
مارغو تقطف البرقوق في بستانها البلدي |
يا حبذا لو يتم تنظيم زيارات إلى هذه النماذج الزراعية المبدعة والنظيفة من النفايات الكيماوية، للذين يدعون أنهم مهندسون وخبراء زراعيين، كي يتعلموا منها أصول العمل والإنتاج الزراعي المعتمد على الذات وبمدخلات قليلة جدا ...
عطاف الصوفي
|