l بستان السلاحف أو "القراقع" باللهجة المحلية ...نموذج رائع لثقافة التنمية المستديمة والسلوكيات الصديقة للبيئة في بيت ساحور
 
 

يديره توماس وأليس الإنجليزيان آملين تعميم التجربة
بستان السلاحف أو "القراقع" باللهجة المحلية ...نموذج رائع لثقافة التنمية المستديمة والسلوكيات الصديقة للبيئة في بيت ساحور
توماس: مخلفاتنا هي مشكلتنا، وعلينا أن نتخلص منها دون أن نؤذي الأرض والمياه الجوفية

السلاحف تنتشر بكثرة في أرض بستان قراقع

ربى عنبتاوي
خاص بآفاق البيئة والتنمية

بدأت الفكرة، قبل ثلاث سنوات، حين أستأجر أستاذ البيئة في جامعة القدس توماس مع زميلته أليس بيتاً حجرياً قديماً مبنياً على الطراز العربي مع بستان محيط في منطقة وادي حنا سعد في بيت ساحور. وبخلفيتهما الريفية في بلدهما بريطانيا عدا عن دراستهما العلمية لشؤون البيئة والزراعة،  فقد آمنا بضرورة صنع التغيير المستدام في ذلك المكان الذي يأسِ منه أصحابه ووصفوه بالصحراء القاحلة، نظراً لتربته الجافة وأشجاره القليلة الغير منتجة للثمر. فأعادا بجهديهما له الحياة من بعد الموت.
وبرؤيتهما وإيمانهما بالنهج الحياتي الدائم، أصبح اليوم جنة خضراء ذات تنوع حيوي طبيعي، تأسر الزائر وتأخذه بعيداً عن ضوضاء المدن إلى عالم أخضر، لا تسري المياه العادمة من تحته، فظاهره كباطنه في الحفاظ على البيئة، كما يحتضن بستانه عشرات الشتلات من الأشجار المتنوعة وتلك النادرة الآخذة في الانقراض، والتي اهتم توماس في إحضارها من بلدان عدة ليعيدها إلى فلسطين، البلد الذي يشعر بانتماء له بمجرد أنه يعيش فيه، فيجب -من منطلق تفكيره- أن يخدمه بطريقة أو بأخرى.

أسفار توماس أخذته إلى فلسطين بالصدفة
توماس الذي لم يفكر يوماً الاستقرار في فلسطين، إنما مر بها أثناء سفره براً من بريطانيا عبر أوروبا إلى شرقها، فالشرق الأدنى، للوصول إلى أثيوبيا لدراسة القردة عن قرب، لم يتوقع البقاء فيها لأكثر من ثلاثة أسابيع ثم إكمال مسيرته، إلا أنه قرر إكمال مشروع ثقافة التنمية المستديمة  (permaculture)الذي بدأه مجموعة صغيرة من أصدقائه، في رقعة صغيرة من ريف بيت ساحور، والذي يعنى بتصميم نظام تفاعلي بين الإنسان والطبيعة يؤمن له احتياجاته بشكل دائم ومنسجم مع ظروف البيئة المحيطة. وقد كان مركز العمل التنموي / معا، من أوائل المؤسسات التي اهتمت بنشر تلك الثقافة منذ أوائل التسعينيات عبر تجربة مردة في سلفيت، وفي خزاعة قضاء خانيونس بقطاع غزة.
"أسميته ببستان "القراقع" أو السلاحف لكثرتها في ذلك المكان". يذكر توماس سبب التسمية لمجلة آفاق البيئة والتنمية التي حظيت بمتعة زيارة المكان.
حين استأجرا البيت ( توماس وأليس)، اكتشفا عدم وجود أنظمة لمعالجة المياه العادمة، أو تدوير المخلفات الضارة بالبيئة، عدا عن غلاء المياه وقلتها، فقررا تحويله إلى بيت صديق للبيئة بما تحمله الكلمة من معنى، ينتهج نمطاً حياتياً يحافظ على البيئة من جهة، ويوفر من قيمة الاستهلاك المادي من جهة أخرى، ولرغبتهما في تعميمه حولا المنزل إلى بيت للضيافة، يستقبل زواراً مقابل مبالغ رمزية، والأهم، التزام الضيوف بشروط البيت في ثقافة التنمية المستديمة.

"مخلفاتنا الغير معالجة ستعود إلينا"
يقول توماس من إحدى الغرف الصخرية التي تعج بالأسرّة وتتسم بالبرودة المحبذة في الأوقات الحارة: "أعترف، أن الواقع السياسي في الأراضي الفلسطينية، قد أثر على توجهنا هنا بشكل أو بآخر، فما يعرف بمناطق ( ب و جـ) لا تلقى نفس خدمات مناطق (أ)، وخاصةً الماء، إضافةً إلى عدم وجود تصريف صحي ومعالجة للمياه العادمة، حيث تجمّع وتلقى في وادي السلقا في بيت لحم، وبالتالي تتغلغل السموم والملوثات في الأرض والمياه الجوفية، وتصب أخيراً في البحر الميت، ما يعني عودتها إلينا، بشكل أو بآخر...، إن هذا الأمر يثير الذعر"
ونظراً لقلة الأمطار في منطقة بيت ساحور، حيث يصل معدل سقوط الأمطار من 100-300 ملم في العام، سعى توماس إلى الاستفادة القصوى من مياه الأمطار عبر الحصاد المائي، الذي يجمع في خزانات ضخمة، تستخدم مياهها لأغراض المنزل والري.

من ريف شمال بريطانيا إلى ريف بيت ساحور
وعلى مساحة 14 دونم، سعى توماس واليس، إلى مقاربة حياتهما الأصلية في بريطانيا مع رقعة الأرض في بيت ساحور، الأمر الذي اعتاد عليه توماس نظراً لنشأته في بيت بعيد عن المدينةـ لم تصله من خدمات البلدية سوى الكهرباء، فكان واجباً على عائلته أن تحضر الماء من الجبال، كما كان والده يربي الخراف وينتفع منها مادياً، ففكرة الكد والتعب من أجل تأمين حياة كريمة لم تكن ببعيدة عن توماس الريفي.

زاوية استراحة خضراء في بستان قراقع
منزل بستان قراقع

المرحاض الجاف ...سابقة فريدة في استغلال الفضلات البشرية
السابقة الأولى خلال الزيارة كانت المرحاض الجاف "الكومبوست" وهو عبارة عن بيت خشبي مستطيل، فيه مقعد للمرحاض وفي أسفله حوض، يتم من خلاله التخلص الطبيعي من الفضلات البشرية التي تدفع للأسفل عبر الرمل بدلاً من الماء، لتصب في الحوض وتتراكم، وخلال ستة شهور، وجرّاء ارتفاع درجات الحرارة التي تصل إلى 80 درجة مئوية، يتم القضاء على الجراثيم والميكروبات، وتتحول الفضلات إلى سماد عضوي يضاف له بعضٌ من نجارة الخشب، فيستخدم في تسميد الأرض، مع العلم أن هذا النوع من السماد يتوفر 12 مرة خلال العام، حيث يخصص حوضان أسفل المرحاض، ويتم تبديل مقعد المرحاض أعلى الحوض الآخر، عند امتلاء أحدهما.
"أنه مفيد من عدة نواحي، حيث يقلل استخدام مياه المنزل إلى النصف، كما يمنع ترسب المياه العادمة للوادي ويستخدم كسماد للأرض". تحدث توماس مشيراً إلى المرحاض المبني من خشب تم الحصول عليه بلا ثمن من قارعة الطريق، وتم بناء سطحه من أغصان النخيل العريضة.

إلغاء استعمال المرحاض العادي في بستان قراقع
كمبوست من الروث البشري

في بستان قراقع لا إسراف بعد اليوم
"في بستان قراقع أنت على موعد مع تغيير عاداتك والتحول إلى إنسان مفيد وغير مسرف". شرح توماس جزءاً من ترشيد الاستهلاك. فعند الاستحمام على سبيل المثال، تحول ماء الاستحمام إلى الغسالة، أو يتم وضع الملابس المتسخة في حوض مستدير أسفل القدمين، فتنساب المياه مع الصابون للأسفل وتنظفها، ولغسل الأطباق، تنقع في حوض مليء بالماء مع قشر الليمون الذي يحوي الكحول القاضية على البكتيريا، ولغسل اليدين، يستخدم الصابون النابلسي الأقل من حيث المواد الكيماوية في مكوناته، وبالتالي يسهل استخدام ماء غسل اليدين للري.

ولا يغفل توماس فائدة الشمس حيث صنع على السطح فرناً شمسياً من الخشب والزجاج العاكس، يستخدم في تسخين الطعام، وفي الأوقات الحارة جداً في خبز الفطائر.

جلي الصحون في منزل بستان قراقع
أنظمة بستان قراقع للزوار

التنوع الحيوي سمة بستان قراقع
وأثناء التجوال في البستان وعلى الرغم من انتشار الأعشاب بكثرة والتي يراها توماس مفيدة كونها تشكل جزءاً من التكامل الطبيعي، فهي تحمي الأرض من الجفاف وتحافظ على رطوبتها واحتفاظها بعناصرها الطبيعية، أشار إلى شتلات صغيرة كالفستق الحلبي، وأخرى لعرف الديك، وثم لنبات الذرة و"الأرضي شوكي" والصبار..الخ، عشرات من الشتلات المتنوعة، أربعون منها، تعتبر نادرة حيث أحضرها خلال أسفاره العديدة إلى العراق، الأردن، سوريا، جورجيا، الهند. حيث اكتشف توماس من خلال دراسته  لطبيعة المنطقة انقراض عشرات الأشجار في فلسطين، فاهتم بإحضارها من تلك البلدان. مؤكداً أن مهمته في البستان هي الحفاظ على التربة، المياه، التنوع الحيوي وكل ذلك بأقل التكاليف.
ولكن ما أثار الانتباه، هو إحضار توماس لشجرة من الهند اسمها اللاتيني "ألابازيا" أو ما يعرف عربياً بذقن الباشا وهي شجرة تتميز بأزهارها الليلكية الجميلة العطرة. وظيفتها امتصاص النيتروجين من الجو وإعادته إلى التربة، كما أنها تحفظ المياه الجوفية في الأرض حيث تشكل جذورها وضعية كالخزان ما يحافظ على رطوبة الأرض، كما أن خشبها جيد وقوي، وهي محببة للنحل ويختارها لبناء خلاياه عليها.

تخمير الروث البشري في بستان قراقع
كمبوست الروث البشري الجاف

زراعة مختلطة ...وقاية وتنوع
أشار توماس إلى انه بواسطة الفأس أو "الطورية" باللهجة الريفية، فقد صمم انسياباً لمياه الأمطار يضمن توزيعا عادلاً للنباتات، وكذلك بالنسبة لمياه بركة الماء التي تستخدم للري أيضاً، كما انه يعتمد نهج الزراعة المختلطة حتى يقلل من احتمالات الإصابة بأمراض النبات، فنرى ملفوفة وإلى جانبها كوسا، ثم يقطين...  وهكذا، مشيراً إلى أن هذا التنوع، يحفزهم كل صباح على الاستيقاظ مبكراً والتجول في البستان وجمع سلة من الخضار والنباتات الورقية لطهوها على الإفطار أو الغذاء. مؤكداً عشقهم للسلطات الخضراء سهلة الصنع، نظراً لتوفر مكوناتها في البستان كالجرجير والحويرنة والخبيزة.
يعيد توماس تدوير البلاستيك والزجاج، لكن هنا بعض الأشياء التي لا يمكن تدويرها فيجمعها ويكدسها  ويدفنها تحت أسرة من الاسمنت، يصنعها داخل مغارة مع تصاميم بسيطة فتصبح غرفة ضيافة جاهزة للاستقبال، " لا يجب أن  ننتظر الحلول، علينا ان نتصرف من أنفسنا". أكد توماس المتحمس لأفكاره البيئية.

تدوير الزجاج في بستان قراقع

قطط توماس الأليفة والطيور المهاجرة والنحل الخدوم
توماس الذي لا يخاف العقارب والثعابين المنتشرة في البستان، مؤكداً أنها ليست مؤذية كما يعتقد الكثيرون، يداعب قططه الأليفة المنتشرة في أرجاء المكان والتي تشكل مع الطبيعة لوحة جميلة، يجول في العطل الأسبوعية الصحاري والجبال، ويقابل البدو ويتناول معهم المنسف ويشرب لبن الجميد، حيث يركز في زياراته على توجيه نصائح بيئية حول زراعة الأشجار وحفر آبار لتجميع مياه الأمطار.
"محمية قراقع" إن جاز التعبير المليئة بالسلاحف التي يمكن مشاهدتها بوضوح بين الأعشاب، جذبت ما يزيد عن 400 نوع من الطيور، أي ما يزيد عن طيور أمريكا وكندا، حيث يشير توماس إلى أنها تتخذ البستان كمحطة استراحة أثناء سفرها من إفريقيا إلى أوروبا وبالعكس.
يمتلئ البستان بالنحل الذي يثير الذعر لدى الكثيرين بسبب لسعاته المؤلمة، لكنه على النقيض بالنسبة لتوماس حيث يشكل مصدر سعادة وإعجاب، فالنحلة هي الحشرة المفضلة لديه، التي تعمل وتكد لتوفير العسل، ليتناوله الإنسان في النهاية، وللاستفادة من عسل النحل، خصص توماس صناديقَ من الكرتون، يتجمع فيها النحل ويقوم بمهمة صناعة العسل.

ثلاثة استخدامات في بركة السباحة
المحطة قبل الأخيرة كانت بركة الماء، التي تختلف عن بركة السباحة الحديثة في العديد من المعايير باستثناء حجمها المربع، فالبركة عكرة، يعيش فيها السمك، وبعض الكائنات الخضراء الصغيرة، وبالرغم من ذلك فلا تفوح منها رائحة عفنة أو تلك الشبيهة ببرك المستنقعات. فهي كما يصفها توماس نظيفة وخالية من الكيماويات الضارة بالبشرة لكنها غير صافية، فهي ثلاثة استخدامات في واحد، من حيث السباحة، الري  وتربية السمك للأكل.
"البركة عبارة عن نظام ايكولوجي ( التفاعل بين الكائنات الحية ومحيطها) متكامل، فيتم تغذية السمك عن طريق قطعة زبل، تنمو عليها بعض الكائنات الصغيرة، التي تكون ديداناً صغيرة يتغذى عليها السمك كالبروتين، ... أؤكد  لكم أنها نظيفة ولكن ليس بالمفهوم الحديث الصافي ولكن المتخم بالكلور".

بركة تربية الأسماك
تدوير المياه الرمادية

الزراعة بدون تراب ( الهيدروبونيكس)  
المحطة الأخيرة كانت من تقنيات الزراعة الحديثة، الزراعة بدون تربة، أو الهيدروبونيكس والتي صممها توماس بأقل التكاليف، حيث وضع في الطبقة العليا الحصى وزرع فيه بعض الشتلات، أما الطبقة السفلى فملأها بالماء والسمك، وعبر مولد كهربائي تضخ المياه للجذور ثم تعود لحوض السمك، حيث يتغذى السمك على الكائنات الصغيرة على جذور النباتات، بينما يتغذى النبات على فضلاته العضوية، ولكن الأمر بحاجة إلى مولد كهرباء لدوران الماء وانتقاله من أعلى لأسفل وبالعكس.
"نريد تعميم تجربتنا وضمان التواصل الطبيعي للبستان مع الأرض المحيطة". ختم توماس رافضاً وضع سياج حول البستان، ومتمنياً ان يتمتع زواره بالمناظر، ويرى العائلات تفترش الأرض لقضاء وقت جميل.

التشتيل في بستان قراقع
الزراعة بدون تربة
   
فرن شمسي في بستان قراقع
مصاطب للنوم من مواد غير قابلة للتدوير

 

التعليقات

كنا نأمل أن يكون هذا النموذج البيئي الرائع فلسطينيا، علما بأنه موجود في فلسطين، لكن للأسف فهو نموذج بريطاني !
ثائر علاوي

 

نأمل تعريب وتعميم هذا النموذج الزراعي البيئي المميز ...
كاظم صفوري

 

الأسم
البريد الألكتروني
التعليق
 
  مجلة افاق البيئة و التنمية
دعوة للمساهمة في مجلة آفاق البيئة والتنمية

يتوجه مركز العمل التنموي / معاً إلى جميع المهتمين بقضايا البيئة والتنمية، أفرادا ومؤسسات، أطفالا وأندية بيئية، للمساهمة في الكتابة لهذه المجلة، حول ملف العدد القادم (العولمة...التدهور البيئي...والتغير المناخي.) أو في الزوايا الثابتة (منبر البيئة والتنمية، أخبار البيئة والتنمية، أريد حلا، الراصد البيئي، أصدقاء البيئة، إصدارات بيئية – تنموية، قراءة في كتاب، مبادرات بيئية، تراثيات بيئية، سp,ياحة بيئية وأثرية، البيئة والتنمية في صور، ورسائل القراء).  ترسل المواد إلى العنوان المذكور أسفل هذه الصفحة.  الحد الزمني الأقصى لإرسال المادة 22 نيسان 2010..
 

  نلفت انتباه قرائنا الأعزاء إلى أنه بإمكان أي كان إعادة نشر أي نص ورد في هذه المجلة، أو الاستشهاد بأي جزء من المجلة أو نسخه أو إرساله لآخرين، شريطة الالتزام بذكر المصدر .

 

توصيــة
هذا الموقع صديق للبيئة ويشجع تقليص إنتاج النفايات، لذا يرجى التفكير قبل طباعة أي من مواد هذه المجلة
 
 

 

 
 
الصفحة الرئيسية | ارشيف المجلة | افاق البيئة والتنمية