مساحات كبيرة طالما تميزت باخضرارها المتواصل تحولت إلى لوحة سوداء
خبراء فلسطينيون لآفاق البيئة والتنمية: المطر الكثيف على الكرمل سيمنع إعادة تأهيله ذاتيا
دمار النسيج الحيواني والنباتي الغني والجميل في جبال الكرمل سببه الاحتقار الإسرائيلي لقيم الطبيعة والبيئة
التجمعات السكنية الإسرائيلية التي احترقت عبارة عن قرى فلسطينية احتلتها عصابات "الهاغانا" عام 1948 وشردت أهاليها إلى مخيمات اللجوء
الحريق كشف عيوبا وثغرات بيئية وأمنية إستراتيجية خطيرة
بالمقاييس العالمية: المساحات التي امتد إليها الحريق صغيرة نسبيا
جورج كرزم
خاص بآفاق البيئة والتنمية
يعد الحريق الضخم الذي شب في جبال الكرمل ودمر أكثر من خمسين ألف دونم، وأباد نحو خمسة ملايين شجرة، كارثة بيئية جسيمة تضمنت طاقة تدميرية هائلة؛ إذ تسبب الحريق في أذى كبير لتشكيلة منوعة ونادرة من الحيوانات البرية والطيور والنباتات والأعشاب والمحميات الطبيعية، وهلاك مساحات كبيرة من الأحراج والغابات والشِعاب. فضلا عن التلوث المركز للهواء، والذي لف منطقة حيفا وضواحيها بسبب ما أنتجه الحريق من انبعاث كمية كبيرة من الجسيمات الدقيقة الملوثة للهواء، والمؤذية للجهاز التنفسي.
وبالرغم من أن إسرائيل سوقت ذاتها، وبعجرفة قل نظيرها، خلال العقود الماضية، باعتبارها قوة عسكرية وتكنولوجية واقتصادية "لا تقهر"؛ إلا أن حريق الكرمل، وإعلان الحكومة الإسرائيلية عجزها أمامه وعدم قدرتها على السيطرة عليه بقواها الذاتية؛ دون توسل المساعدات الخارجية والجسر الجوي المكثف – هذا الحريق وهذا الإعلان كشفا ثغرات وعيوبا بيئية وأمنية إستراتيجية حساسة في إسرائيل لم يتوقعها الكثيرون.
الميزانيات المالية الضخمة التي خصصتها إسرائيل خلال السنوات الأخيرة لمشاريعها العسكرية المعادية للعرب والفلسطينيين، لم تسعفها في مواجهة حريق الكرمل الذي حاولت قوى الإطفاء الإسرائيلية إطفاءه بطرق بدائية، بواسطة خراطيم المياه الأرضية؛ علما بأن المساحات التي امتد إليها الحريق، تعد بالمقاييس العالمية صغيرة نسبيا؛ لو تمت مقارنتها بالمساحات الاسترالية والروسية واليونانية والأميركية وغيرها الأكبر بكثير، والتي اندلعت فيها مرارا حرائق ضخمة.
العمق البيئي الطبيعي الأكثر غنى في فلسطين
تعتبر جبال الكرمل العمق الفلسطيني البيئي والطبيعي الأكثر تنوعا وغنى من ناحية الحياة البرية؛ إذ تنتشر فيها مئات أنواع الثدييات والزواحف والبرمئيات والطيور؛ كالغزلان وبنات آوى والخراف البرية والماعز الجبلي والثعالب والذئاب والسلاحف والسحالي والخنازير البرية واليحمور والأفاعي والنسور الكثيرة بأشكالها وأنواعها المختلفة، وثروة كبيرة جدا من الأعشاب البرية والطبية والأشجار النادرة. ناهيك عن الينابيع ومجمعات المياه السطحية التي تشكل مواقعاً لتكاثر الضفدعيات. جزء كبير من هذه النسيج الحيواني والنباتي الثري والجميل دمر؛ ليس بفعل عوامل طبيعية وبيئية بالدرجة الأولى؛ بل بسبب الاحتقار الإسرائيلي للقيم الطبيعة والبيئية، وإهمال إسرائيل الواضح لدورها في الحفاظ على البيئة الفلسطينية والمحميات الطبيعية، وعدم تخصيصها الموازنات اللازمة لصون الحياة البرية في الأراضي الفلسطينية والعربية الرازحة تحت احتلالها، ومحاصرة أي تهديد بشري أو طبيعي قد يلحق دمارا مميتا بالنظام الإيكولوجي؛ علما بأن حرائق وكوارث بيئية كثيرة وكبيرة ومدمرة أتت هذا العام على عشرات آلاف الدونمات من الأحراج والغابات الطبيعية في مناطق عربية وفلسطينية محتلة؛ مثل الجليل والجولان والأغوار، بسبب النشاطات والتدريبات العسكرية الإسرائيلية المكثفة.
مساحات كبيرة من جبل الكرمل الذي طالما تميز باخضراره المتواصل طيلة أيام السنة، تحول إلى لوحة سوداء، علما بأن تقدير عدد الأشجار التي احترقت، يستند إلى أن الدونم الواحد المحترق يحوي نحو مئة شجرة؛ وبما أن الحديث يدور عن احتراق حوالي خمسين ألف دونم؛ فحصيلة الدمار هي خمسة ملايين شجرة.
إتاحة الفرصة للطبيعة كي تعيد تأهيل ذاتها
قبل هذا الحريق، وخلال الثلاثين سنة الأخيرة، احترق أكثر من ثلاثين ألف دونم من جبال الكرمل. وبعض الأراضي التي احترقت مؤخرا في الكرمل، قد سبق وأن احترقت بضع مرات؛ الأمر الذي سيصعب إعادة إحياءها، نظرا للأذى الشديد الذي لحق بها وبغطائها النباتي.
في اتصال هاتفي أجريناه مع بعض خبراء البيئة الفلسطينيين في الأرض المحتلة عام 1948 أجمع الأخيرون لمجلة آفاق البيئة والتنمية، بأن إصلاح الضرر البيئي الكبير الذي سببته الحرائق لجبال الكرمل، سيستغرق عشرات السنين. وقدر بعضهم فترة إعادة الانبعاث البيئي الطبيعي لمناطق الكرمل بنحو أربعين عاما؛ علما بأن الأخير يحوي العديد من الأحراج والغابات الغنية والمميزة والفريدة من نوعها، والتي تحوي كما كبيرا من الأشجار المعمرة جدا، وبخاصة البلوط والبطم والصنوبر والخروب والزيتون واللوز، فضلا عن أشجار نادرة مثل الإجاص السوري والعجرم ذات الأوراق العريضة، والبخور الطبي والزعرور الشوكي والغار والقَطْلَب والعناب وغيرها. ناهيك عن النباتات النادرة كالسوسن والسحلب.
وخلافا للاعتقاد السائد، يقول العارفون بأسرار الحياة البرية والغطاء النباتي، بأن الأمطار الغزيرة على أراضي الكرمل المنكوب، ستزيد الطين بلة؛ لأن المطر الساقط بشدة كبيرة سيجرف التربة وبالتالي سيتسبب في زوال المواد العضوية الضرورية لتخصيب التربة؛ الأمر الذي سيزيد الأذى الواقع على الطبيعة ويحول دون إعادة إصلاحها ذاتيا. ويتابع الخبراء: بالرغم من أن مساحات واسعة من الأراضي تبدو محترقة وجرداء، إلا أن تلك الأراضي تحوي الكثير من الرماد الذي يحوي مخزونا هاما من البذور غير المصابة؛ فضلا عن المادة العضوية والعديد من الأملاح. وتعتبر جميع هذه المكونات في غاية الأهمية لعملية إعادة تأهيل التربة. وإذا ما انجرفت تلك المكونات؛ سيشكل الأمر ضربة نهائية قاضية لبيئة الكرمل.
وفي مثل هذه الكوارث البيئية؛ كما يقول الخبراء، يجب إتاحة الفرصة للطبيعة كي تعيد تأهيل ذاتها تدريجيا، في السنة الأولى، دون لمس الأرض؛ علما بأن الإسراع في التشجير الاصطناعي الفوري والواسع، إثر الحريق، لا لزوم له وقد يتسبب في المزيد من الأذى البيئي. إن إعادة تأهيل غابات الكرمل يجب أن يتم أساسا من خلال عملية التجدد الطبيعي وليس التشجير الاصطناعي الواسع. فالمطلوب، حاليا، ولغرض إعادة تأهيل الجبل، تخفيف الكثافة النباتية وليس زيادتها. وتدل التجارب في فلسطين بأن أكثر من 80% من الأشجار التي تعرضت للحرق قد تجدد نموها بشكل طبيعي وليس نتيجة عملية التشجير.
الإدعاء الزائف بحب الفن والجمال البيئي
في معمعان التغطيات الصحفية حول حريق الكرمل، تجلت أبشع التناقضات الصارخة التي غيَّبها الإعلام الإسرائيلي والغربي، بل والعربي. وأبرز هذه التناقضات، الحقيقة المأساوية المتمثلة في أن التجمعات السكنية الإسرائيلية التي تضررت من حريق الكرمل أو احترقت بالكامل، مثل "عين هود" و"نير عتصيون"، هي عبارة عن قرى فلسطينية احتلتها عصابات "الهاغانا" الصهيونية عام 1948 وشردت أهاليها إلى مخيمات اللجوء في الضفتين الغربية والشرقية وقطاع غزة ولبنان وغيرها، وأسكنت المستوطنين المحتلين على أنقاضهم وجماجمهم. فما يسمى "عين هود" هي ذاتها قرية عين حوض الفلسطينية الآية في الجمال البيئي الطبيعي والتي يعيش بعض أهلها الأصليين حاليا (حمولة أبو الهيجا) في مخيم جنين، بل إن بعضهم لا يزال يقطن في بقعة من الأرض تبعد بضع كيلومترات عن قريته الأصلية. وقد ترك المحتلون القرية كما هي، بمنازلها ومبانيها الريفية الفلسطينية الساحرة، ومسجدها الذي حولوه إلى مطعم وبار. وقد استوطن القرية مجموعة من المستوطنين "الفنانين" اليهود الذين يدعون زورا حبهم للفن والجمال الطبيعي؛ وذلك في منازل وأراضي وأحراج أصحابها الأصليين. هؤلاء هم "الفنانون" الذين شاهدناهم في الفضائيات الإسرائيلية يبكون "تحفهم الفنية" ويتحسرون على أطلال منازل ومعابد ليست ملكهم أساسا، ويقيمون فيها بشكل غير شرعي!
وما قيل عن عين حوض، ينسحب أيضا على ما يسمى كيبوتس "نير عتصيون" وغيره من التجمعات الاستيطانية الإسرائيلية القائمة في سفوح الكرمل المنكوب، وعلى أنقاض القرى الفلسطينية المدمرة والواقعة في السفوح الجنوبية الغربية لجبل الكرمل؛ مثل إجزم، وعين غزال، وصرفند، وجبع، وكفر لام، والطنطورة التي تحوي أخصب الأراضي في فلسطين، وتعد من أجمل وأغنى البيئات الساحلية الفلسطينية التي اعتاش أهلها، بشكل أساسي، على الزراعة والصيد.
شكرا يا د.جورج على هذه المعلومات .. لكن نتمنى ان ينجي الله طبيعة الكرمل من الدمار وان لا يكون مصير جبل الكرمل كمصير جبال نابلس والخليل التي كانت مغطاه بالاشجار والان هي شبه عارية ...
تامر جيطان
الاحتلال بطبيعته معاد لكل ما هو إنساني وبيئي...لأنه استولى على البيئة
والطبيعة الفلسطينية بالقوة والعنف والدم...لذا من البديهي أن يحتقر قيم
الطبيعةوالبيئة
عمر قنواتي
بورك فمك وقلمك يا أستاذ جورج...ونشكر الله تعالى على وجود أمثالك من الكتاب
الذين لا يفصلون حبهم لبيئتهم عن حبهم وانتمائهم لوطنهم...فأنت بمهنيتك
وبمبدئيتك وعقائديتك البيئية والفكرية تعلمنا كل يوم كيف نزداد تشبثا بأرضنا
ووطننا ...
جوزيف نصراوي
أكرر ما قاله الأخ جوزيف وأضيف بأن على المطبعين تحت غلاف البيئة أن يتعلموا
معاني العمل البيئي الوطني من الأستاذ جورج، فيعودوا إلى رشدهم وضميرهم
وشعبهم ...
محمد عزات
هذا طرح وتحليل رائع ومثير ومؤثر...شكرا لك يا جورج .
محمود الحلبي
أتفق تماما مع ما قاله الأستاذان جوزيف نصراوي ومحمد عزات
مازن داموني
أشكرك يا د. جورج على كشفك دائما للخفايا والزوايا البيئية الوطنية
المستورة ...
سيزار طنوس
لا أعتقد بأن هناك موقع بيئي عربي آخر بهذا العمق والغنى المعرفي
والعلمي...فإلى الأمام
فيصل حجار
|